لم تكن هناك حياة. كانت هناك ربوةٌ ضبابيةٌ ملتهبة تسبح فى خلاءٍ موحش وتحيط بها غابة حلفا ومياه آسنة، ويمزق سكونها خليط من أصوات غامضة، مخيفة، وتبدو النجوم فى ظلمتها الحالكة أسراباً من الأرواح الشريرة يلاحق بعضها بعضاً. وبدلاً من أن تكون هذه الغابة سياجاً يحمى سكان الوادى من غارات العربان، تحولت إلى مصدر لتهديدهم وإثارة الفزع فى قلوبهم، وساد لدى غالبيتهم اعتقاد بأن كائناً غامضاً يختبئ فى الحلفا، ويلتف حوله العربان، ويأتمرون بأمره. وقد أطلق سكان الوادى على هذا الكائن اسم «الحلفاوى»، وحاولوا بكل الوسائل أن يصلوا إلى الربوة لمعرفة حقيقته، والتأكد مما إذا كان موجوداً بالفعل أم هو خرافة تتغذى على خوفهم من العربان. وكلما أرسلوا واردهم لاقتحام الحلفا.. انقضت عليه الذئاب من كل ناحية، حتى استسلموا. فلما بلغ الأمر شيخ العرب همام بن يوسف اشتعلت ثورته وجمع مجلسه لبحث الأمر واستدراكه قبل أن يستفحل خطره، ولكى لا يقول الدهماء إن همام تقاعس عن صد هذه الشراذم ولم يستطع حماية رعاياه من بطشها. كان شيخ العرب فى ذلك الوقت قد أصبح الحاكم الفعلى لإقليم الصعيد، وامتد نفوذه من المنيا إلى أسوان، وتوفر على جيش هائل. لكنه يعرف أكثر من غيره أن العربان ليسوا خصماً سهلاً، وأنهم همج شرسون، ليس لديهم ما يخافون عليه، ومن الصعب ملاحقتهم لأنهم هدف متحرك، لا أحد يعرف أين ومتى يضربون. ومع ذلك فإن احتماءهم بالربوة واستخدامها قاعدة لانطلاق غاراتهم على هؤلاء السكان يمكن أن يكون فرصة لمحاصرتهم والقضاء على خطرهم. أرسل همام فى البداية شاباً من خيرة عسسه يُدعَى «سفيان» لاستكشاف الأمر. وبعد رحلة شاقة، حافلة بالمخاطر، نجح سفيان فى اجتياز الحلفا. وكانت خطته أن يظل مختبئاً حتى يحل الظلام، وعندئذٍ يتسلل إلى عمق الربوة لينفذ مهمته ثم يعود إلى الحلفا قبل أن يتنفس الصبح وينكشف أمره. لكن القدر كان يخبئ له مفاجأة، إذ بينما يستعد لاقتحام الربوة هبط عليه أعرابى عجوز وغمره بعباءته، فظن سفيان أن أمره انكشف وأنه ملاقٍ حتفه، فتظاهر بأنه استسلم، وراح يتحين الفرصة لينقض عليه، لكن العجوز همس فى أذنه: ■ لا تخف.. جئت لأساعدك. اطمأن سفيان لنبرته، إذ إنه كان فى وضع يستطيع من خلاله أن يقتله لو أراد. وعندما تحرر من سيطرته ونظر فى عينيه أحس بمزيج من الرهبة والطمأنينة، فهدأ وازداد يقيناً بأن المهمة ستنجح. اقترح العجوز أن يذهبا إلى الكوخ الذى يقيم فيه إلى جوار البئر ليكون حديثهما آمناً. وهناك عرض على سفيان أن يضع بين يديه كل المعلومات التى يريدها، شريطة أن يصحبه فى رحلة العودة، ليحظى بشرف مقابلة شيخ العرب همام بن يوسف. رفض سفيان فى البداية، وحذره من أن رحلة العودة تستغرق نهاراً بطوله، وأهوالها يشيب لها ذيل الغراب: حلفا كثيفة ومياه آسنة تعيقان الحركة، وذئاب تعوى وتتجشأ جوعاً وتشم رائحة الفريسة من على بعد أميال. وحتى إذا نجيا من مخاطر الحلفا فثمة صحراء شاسعة مكشوفة، فيها من أسباب الموت ما يكفى للقضاء على جيش بأكمله. لكن العجوز طمأنه وأكد له أنه سيموت فى الوقت الذى يحدده وبالطريقة التى يريدها لأنه «مكلف». قال العجوز إن الربوة كانت، قبل أن يعرف العربان طريقها، غير مأهولة، وكان الذهاب إليها ضرباً من المغامرة. ورغم ذلك، أو ربما بسببه، قصدها بضع عشرات من أقباط الوادى ممن تشبثوا بدينهم ولم يتحملوا مشقة العيش بين شقى رحا: غارات العربان على الوادى، واضطهاد سكان الوادى لهم. وهناك.. أقاموا كنيسة صغيرة أحاطوها بأحواض من الشعير والفول والعدس والسمسم وبعض أشجار الفاكهة، وعاشوا هم وعائلاتهم آمنين، حتى عرف العربان طريقهم إلى الربوة فانقضوا عليهم: أخرجوهم من بيوتهم وخربوا أحواضهم واستباحوا أعراضهم ومتاعهم وقتلوا كل من وقف فى طريقهم، وخيروا من استسلم بين تغيير ديانته، وعندئذٍ يصبح له ما للعربان من حقوق وما عليهم من واجبات، أو يظل على دينه ويعيش فى كنفهم خادماً أو أجيراً، فاختار أغلبهم أن يظلوا على دينهم. لكن العربان لم يكتفوا بذلك، بل حالوا بين من تشبثوا بدينهم والصلاة فى الكنيسة، وأشاعوا بين سكان الربوة أن روحاً شريرة تسكن هذه الكنيسة، فمن شاء دخلها وكتابه فى يده. فلما عاند أحدهم ودخلها متحدياً خرج منها مصلوباً وقد انتزع قلبه من جوفه وهو لايزال على قيد الحياة. وتدريجياً.. تحولت الكنيسة إلى قلعة يلفها غموضٌ ورهبة، وتنبعث فى محيطها روائح الموت، وأصبح الحلفاوى رمزاً للخراب والفوضى، رغم أن أحداً لم يقطع برؤيته رأى العين، ولا أحد يملك دليلاً على وجوده!. وجم سفيان وسيطر عليه شعور بخيبة الأمل، فاستدرك العجوز: ■ لكن قلبى يحدثنى بأنه موجود!. فانفرجت أسارير سفيان وقال مهللاً: ** إذن قل لى كيف أراه!. سكت العجوز لحظات ثم ركز عينيه فى عينى سفيان وقال: ■ إن لم تستطع أن تراه فهو يراك. وفى المساء.. دس سفيان نفسه وسط حشد من العربان فى سقيفة هائلة. كان المشهد صامتاً تماماً إلا من همهماتهم وأنفاسهم المضطربة. سأل سفيان رجلاً يجلس إلى جواره: ■ ما الذى يجرى؟. فتأمله الرجل مرتاباً وقال باقتضاب: ■ الحلفاوى سيتجلى. وانقضى نصف الليل ولم يظهر. ثقل هواء السقيفة وتدلت الرؤوس على صدور أصحابها، ولم يظهر. فجأة.. غمرت السقيفةَ عباءةُ غبارٍ، يذيلها موكبُ محاربين على صهوات خيلهم وقد آنست السيوف خصورهم. أحس سفيان أن صاعقة ضربت الحشد، ولم يستطع أن يرى شيئاً، لكنه لمح من البعد شبحاً غامضاً، يرتدى درعاً، ويلفح وراء ظهره جراب حكايات، ثم يختفى بين أشباح محاربيه: وقع الهلالى سلامة على الأرض عميان. نظر ابن غانم لمخ الهلالى.. وصار يبكى كما النسوان. فتح الهلالى عينيه وقال: أيا دياب الخيل يا ولد غانم.. أيا صاحب الأفعال بين العوالم.. ما كان ظنى يا دياب الخيل تخوننى.. وتنتهى صحبتك فوق الردايم. كان الشبح يهرول بين الدمِ والخيانةِ. وعندما تبين له الخيط الأبيض من الأسود تلاشى تاركاً رؤوس ضحاياه تنبت من جديد: ■ ما أكثر الرؤوس التى سقطت فى تلك الليلة يا شيخ العرب!. ما أعظم هؤلاء الضحايا وهم يجمعون أشلاءهم ويتضاحكون كأنهم عائدون من نزهة. لكن شيخ العرب لم يقنع بهذه الحكاية، فجمع أعضاء مجلسه الموقر وطرح عليهم سؤالاً محدداً: هل يرسل إلى العربان تجريدة لتأديبهم وإجلائهم عن الربوة، أم يُقطعهم جزءاً من الحلفا لإصلاحه وزراعته والاستقرار فوقه، ثم يجرى عليهم ما جرى لغيرهم وتضاف الأرض إلى التزامه؟. كان لدى شيخ العرب من القوة والجسارة ما يكفى لسحق شراذم العربان فى اللحظة التى يريدها وبالشكل الذى يراه مناسباً. لكنه فضل الاستجابة لصوت العقل وقرر إرسال وفد من رجاله للتفاوض مع زعيمهم. وعندما فاجأ أعضاء المجلس باختيار ضيفه العجوز على رأس هذا الوفد.. ارتفعت الهمهمات وتساءل أحد الحضور محتجاً: ■ كيف تستأمن غريباً على شؤوننا يا شيخ العرب؟ فرد همام باقتضاب: ■ هو ليس غريباً على شؤونهم.. وهذا يكفى. كان اليوم قائظاً عندما خرج العجوز محاطاً بثُلة من فرسان شيخ العرب، حاملاً هدية ورسالة خطية طلب منه همام أن يسلمهما للحلفاوى يداً بيد. وكانت الهدية خنجراً من الفضة الخالصة كتبت على أحد وجهى نصله عبارة «من دخل فى حضرتى.. بورك باليقين»، وعلى الوجه الآخر: «ثم مات على شكوكه». أما الرسالة فكانت مقتضبة، ولا تخلو من مودة: «القدر الأجل المحترم.. بعد السلام عليه لم يخفاه أن شرفنا بالحضور إلينا حضرة حاكم جرجا الأمير صالح بك القاسمى وكلمنا فى أمركم وأن الناس تعبت من أفعال العربان ولازم نتدخل لحل المشكلة فإنه لا داعى للمشاكل والقصد يكون لكم نصيب فى خير البلد وتستقرون وأن الكلام المفيد تسمعونه من حامل هديتنا إليكم والسلام». الفقير همام يوسف بدأت الشمس تنحدر نحو الغرب والموكب لا يزال يضرب فى عمق الصحراء، ثم لاحت فى الأفق بشائر الحلفا.. فطلب العجوز من قائد القوة أن يأخذوا قسطاً من الراحة قبل أن يبدأ الجزء الأكثر إثارة من الرحلة. جلس الفرسان يتناولون طعامهم، فتطلع العجوز إلى الصحراء فإذا هى لا نهائية، ليس فيها علامة حياة، فوجل وتمتم: ■ المتاهة يقين!. هبط المساء وتحول الكون إلى فراغٍ حالك. وبينما يفكر العجوز فى اللحظة التى سيقف فيها بين يدى الحلفاوى ويراه رأى العين، انشق التيه عن واحة نخيلٍ مضاءة تقبع بين هامتين جبليتين، فاقترب محاذراً حتى لم يعد يفصله عنها سوى خمسين ذراعاً تقريباً. كانت قطعان الغنم والماعز تتناثر بين نخيل الواحة وقد هجعت فى سلام، بينما فضل رتلٌ من الإبل أن يجتر واقفاً. وقبل أن يدخل الواحة خرج عليه شاب يناهز العشرين من عمره، طالباً منه ألا يتقدم أكثر من ذلك. دقق العجوز فى وجه الشاب فانتابه ذهول: هو بعينه.. هو الذى اقتحم الكنيسة، وخرج منها مصلوباً وقد اُنتزِعَ قلبه. حاول أن يسأله عما رأى وما جرى له. كيف يموت المرء وكيف يُبعَث حياً!. ما حكاية هذه الواحة.. وما الذى أتى به إلى هنا. لكن الشاب لم يمهله وانطلق بسرعة إلى داخل الواحة، ثم عاد بعد فترة وهو يقتاد كهلاً يتخفى فى رداءٍ خشنٍ حيك من صوف الغنم، ويتوكأ على حزمة أسياخ حديدية ذات أطراف معقوفة. انصرف الشاب إلى حال سبيله مشيعاً بنظرات هذا الوافد الغريب، بينما جلس الكهل على بقية من جذع نخلة، صامتاً، متعالياً، وإلى جواره حزمة أسياخه. وبخطىً تراوح بين الشك واليقين تقدم العجوز حاملاً هدية شيخ العرب ورسالته، وكلما اقترب من الكهل اتسعت المسافة بينهما. فجأة.. غشى عينيه نور مبهر، وتسارعت نبضات قلبه، واضطرب ذهنه، وخارت قواه. وبينما هو كذلك تناهى إليه صوته المزلزل: ها أناذا.. أراك ولا ترانى. مستعصٍ عليك.. وأقرب إليك من صورتك. قد بلغنى أمرُ ما جئتَ من أجله. فأما الهدية فوصلُ شقائهم بعلمك.. وأما الرسالة فبيان قدرتى. رفع العجوز عينين مثقلتين باحثاً عن مصدر الصوت، فلم يرَ سوى خردلةٍ تسبح فى بياضٍ لا نهائى، ثم تقترب رويداً، وكلما اقتربت تضخمت حتى سدت الأفق: ■ هو ذا طائر الموت.. فاصعد. خر الطائر عند قدمى العجوز فى خشوع، فتقدم وهو لا يكاد يدرك شيئاً مما يجرى. كان يشعر أن قوة جبارة تسحبه من سُرة روحه. كانت روحه تسبقه، بينما وعاؤها يلاحقها كجنينٍ يسبح فى بحر من النور. وما إن صعد حتى بسط الطائر جناحيه الهائلين ومر على الحلفا.. فانحسرت عن قوسين من الأرض الخصبة، وانبسطت الربوة بينهما كراحة اليد.