رأيت المشهد الآتى بعينى فى العاصمة الألمانية برلين.. وكان مكانه فى شارع «الكودام»، الذى يشبه شارع الشانزليزيه فى باريس! فجأة، ساد الهدوء فى الشارع المشهور بطبيعته بالصخب والحركة والزحام، وظهرت سيارات البوليس تقطعه من أوله إلى آخره، أكثر من مرة، وكأنها تمسحه، وبعد دقائق كانت السيارات نفسها تبدو قادمة من أول الشارع، وتتحرك ببطء كأنها قافلة ووراءها كانت مظاهرة صاخبة تسد الأفق وتملأ الجو بشعارات زاعقة تصدر عن ميكروفونات! كان الآلاف من أفراد الجالية العربية هناك قد خرجوا فى مظاهرة حاشدة، تضامناً مع قطاع غزة، وتحريضاً للمجتمع الدولى على أن ينقذ أبناء القطاع الذين يعيشون فى سجن كبير، وكانت المظاهرة كلما قطعت مساحة فى الشارع، جذبت إليها آخرين من الألمان أنفسهم، حتى بدا الشارع مع اتساعه عاجزاً عن استيعاب الجماهير التى كانت تهتف بقوة وعزيمة! ولم يكن هناك جديد فى المظاهرة بحد ذاتها، فما أكثر المظاهرات التى خرجت من هذا النوع فى شوارع شهيرة وكثيرة، على امتداد العالم، ولم يكن هناك أيضاً جديد فى حجم المظاهرة أو ضخامتها، فقد شهدت دول كثيرة، وشهدنا معها عبر وسائل الإعلام، ما هو أكبر من ذلك وأضخم، ولم يكن هناك جديد، للمرة الثالثة، فى أن البوليس قد أخلى الشارع للمتظاهرين، ثم أحاط بهم، وتركهم يتحركون كما يشاءون ويهتفون بما يحبون.. فليس فى هذا جديد، خصوصاً فى عواصم أوروبا حيث التظاهر حق أصيل، ليس فقط لأبناء البلد ولكن أيضاً للجاليات الوافدة! إنما الجديد حقاً كان يتمثل فى أن ثلاثة من الحاخامات اليهود الكبار فى ألمانيا كانوا يتقدمون المظاهرة، وكانوا يضعون أيديهم فى أيدى قادة الفلسطينيين الذين نظموا المظاهرة، وكان كل واحد من الحاخامات الثلاثة يضع الكوفية الفلسطينية الشهيرة على كتفيه، ويرفع علماً فلسطينياً فى يده، ويهتف ضد ممارسات العدو المحتل فى غزة! تذكرت المشهد، حين تابعت، ولا أزال أتابع مع غيرى، ما حدث مع مرشحنا فى منظمة اليونسكو الوزير فاروق حسنى.. فالمؤكد أن إسرائيل لم تكن راغبة منذ البداية فى أن يكون مرشح عربى على رأس المنظمة، وما هو مؤكد أيضاً أن إسرائيل، والذين يناصرونها حول العالم، فى واشنطن وفى غيرها من العواصم التى تتشدق بشعارات التسامح والحوار بين الثقافات ثم تفعل عكسها.. هؤلاء جميعاً حالوا، بكل السبل، دون وصول مرشح المصريين، والعرب، والمسلمين، إلى قيادة اليونسكو، رغم تفوقه منذ الجولة الأولى! ولكن.. حين نأتى الآن لنتكلم عما كان فلا يجب أبداً أن نتحدث عن اليهود باعتبارهم كتلة واحدة وقفت فى طريق مرشحنا.. ففيهم مساندون لنا، ومناصرون لقضايانا، ومنحازون إلى صفنا، ولايزال هناك فارق كبير بين الإسرائيلى الذى جاء بعقيدة صهيونية تغتصب الأرض، وبين اليهودى المؤمن بديانة سماوية، كديانتنا، ولا يجد حرجاً فى أى وقت فى الوقوف إلى جانبنا! إذا كنا قد خسرنا المعركة، بشرف، فلا يجوز أن نخسر الذين ساندونا، ونساوى بينهم وبين الذين خانونا!