إنه ذلك الروائى الذى اخترق حدود المحلية لتصل ترجمات ما يكتب إلى عدة لغات حية، إنه الخبير المدقق فى تاريخ الحضارة الإسلامية فى «مصر» وآثارها الباقية والذى بدأ يخترق أسرار الحضارة الفرعونية أيضاً فى سبيكة غير معهودة فى تاريخنا الثقافى، ثم إنه قبل ذلك كله «المراسل الحربى» الذى توجد لديه أصدق روايةٍ عن حرب أكتوبر 1973 وعملية العبور العظيم، إنه الصديق الذى يسعد به كل من عرفه وأنا واحد منهم وسوف أظل أذكر باعتزاز يوم أن اصطحبنى فى جولةٍ بين مساجد وأسبلة وأضرحة «شارع المعز» بعد تجديده وأذهلتنى معرفته الدقيقة بكل صغيرة وكبيرة فى تراثنا الإسلامى، فهو يستنطق الأحجار ويداعب المنابر الخشبية ويستلهم روح التاريخ فى كل خطواته الثابتة وهو يتجول بنا عبر الشارع الرئيسى وأزقته الفرعية حيث يصدح حولنا صوت الماضى المجيد وتفوح رائحة عبق التاريخ العريق، إنه ذلك الروائى الكبير الذى صافحت رواياته كبار المؤرخين الاجتماعيين فى مصر الإسلامية فهو يلامس «ابن إياس» ويحاور «ابن تغر بردى» ويجادل الجبرتى حتى أصبحت رواياته سجلاً أمينًا لتراثنا الحضارى، ورغم ترأسه لتحرير صحيفة «الأدب» فإنه يضرب فى كل اتجاهٍ بسهمٍ ثقافى نافذ حيث يمزج الأدب بالصحافة، والفكر بالسياسة فى بوتقةٍ رائعة جعلت اسمه يصل إلى كل الأسماع، ولن أنسى عندما علمت ذات يوم وأنا فى النمسا فى مطلع النصف الثانى من تسعينيات القرن الماضى أن «جمال الغيطانى» بين أيدى كبار جراحى القلب فى «كليفلاند» بالولايات المتحدةالأمريكية ويومها اتصلت به هاتفيًا وجاءنى صوته واهنًا، ولكنه لا يخلو من الأمل وكلماته هادئة ولكنها لا تفتقد الشجاعة أمام قرار جراحة «القلب المفتوح»، ولقد ربطتنى بهذه الشخصية الموسوعية صلاتٌ دائمة، فالرجل عاشقٌ للتاريخ ومؤرخٌ للجغرافيا يصول ويجول بين بعدى الزمان والمكان ويربط بين «مصر الفرعونية» القديمة و«الإسلامية العربية» ويداعب «السلاطين» ويخاطب «المماليك» ويقدم للقارئ المعاصر صورًا حية تضعه فى مقدمة الروائيين الذين جمعوا بين الأصالة والمعاصرة، بين الماضوية والحداثة، بين الأصيل والوافد، وهو متحدثٌ لبق ومفكرٌ ذكى تجمعت فيه عراقة الصعيد وروح الأحياء الشعبية المصرية ممتزجة مع جولاته فى عواصم الدنيا الراقية، وحين التحق ابنه النابه بوزارة الخارجية شعرت وكأن الدبلوماسية المصرية تعتز بالابن والأب معًا وتستأثر بأفضل العناصر فى حيادٍ وموضوعية، كما أن قرينته الأخت الفاضلة الكاتبة الصحفية «ماجدة الجندى» هى شريكة حياته ورفيقة مشواره وصنو روحه، وعندما كنا نجلس فى حفل زفاف ابنته تمنيت لتلك الأسرة الصغيرة دوام الصحة والسعادة، وحين جمعنا مؤتمرٌ ثقافى فى مدينة «دبى» عام 2007 كان «جمال الغيطانى» هو بؤرة الضوء ومركز الاهتمام من المثقفين والمفكرين والأدباء العرب، ولقد حافظ الرجل على علاقة وثيقة بفارس الرواية العربية صاحب «نوبل» الراحل «نجيب محفوظ» وظل له شريكًا فكرياً وجليساً إنسانياً فى سنواته الأخيرة ومعه صديقه الصدوق ابن محافظتى الروائى المرموق «يوسف القعيد» فكانا لا يتركان جلسةً للأديب الراحل ولا مناسبة لصاحب «الثلاثية» إلا وهما شريكان له حريصان عليه ناقلان عنه. إن «جمال الغيطانى» علامة بارزة فى تاريخ الرواية العربية ونموذج متألق للشخصية المصرية، إنه رجل شديد المراس، خصومته حادة فى الحق وصلبة من أجل الخير، ولكنه يتمتع أيضًا برقة الفنان القابع فى أعماقه والذى يطفو على السطح عندما ينفرد «جمال الغيطانى» بالورقة والقلم، ولا أملك مع هذه السطور إلا أن أتمنى عليه أن يواصل عطاءه وأن يستمر فى إنتاجه لأن الدور المصرى فى المنطقة قائم دائمًا على أغلى سلعةٍ يقدمها وهى «الثقافة» ولن أنسى كلماته فى حديث لنا عندما قال لى (إنه لا يفهم تاريخ الحضارة العربية الإسلامية إلا من يلم أولاً بتاريخ الحضارة المصرية الفرعونية)، وهذا صحيح تماماً فوحدة التاريخ هى صنو لوحدة المعرفة ومرادف لوحدة الإنسان.