منذ عامين، وفى صباح كلِّ يوم جمعة على مدار العامين، يفتحُ الكاهنُ الإيطالىُّ ألدو دانيللى أبوابَ الكنيسة التى يرعاها بإحدى مدن شمال إيطاليا للمصلين المسلمين، إيطاليين وعربًا وغيرَ عرب، لأداء صلاة الجمعة؛ لأن لا مسجدَ موجودٌ بالمنطقة. خصَّص الكاهنُ «النبيل» جزءًا من كنيسته «سانتا ماريّا أسونتا»، بضاحية باديرو دى بونزانو بمدينة تريفيزو، ليغدو مسجدًا يعمرُه 200 مسلم؛ قائلاً إن قرارَه هذا نابعٌ من رغبته فى تكريس التقاء الثقافات والأديان، وتعزيز سبل اندماج الجالية المسلمة المقيمة مع تلك البلدة. خبرٌ مثل هذا يحزنُنى، بقدر ما يبهجنى ويعطينى الأملَ فى غدٍ أجملَ للعالم. أما الحزنُ فيلامسنى حينما أقارنُ بين رُقّى سلوك كهذا، وبين انحطاط سلوك ذاك الألمانىّ الأرعن الذى ذبح فتاة مسلمةً فى باحة المحكمة، على مرأى ومسمع طفلها، وكذا حين يضطر عقلى إلى مقارنة سلوك الكاهن الرفيع مع سلوكات بعض المصريين، مسلمين ومسيحيين، من تشنجات وعصبيات عقائدية، لا معنى لها إلا خواءُ عقل مرتكبيها. لكن مصرَ الجميلةَ، التى لن تغدو وهابيةً أبدًا بإذن الله، لا تعدمُ أن تنجبَ عقولاً وقلوبًا رفيعة مثل ذلك الكاهن الإيطالى. مثل القمص سيداروس اخنوخ، المولود عام 1890 فى قرية البياضية فى ملوى بمحافظة المنيا. ضرب هذا الأبُ الطيّب مثالا رفيعًا للوحدة الوطنية فى قريته، إذْ كان فى شهر رمضان يقرعُ جرسَ الكنيسة فى موعد الإفطار حتى ينبّه المسلمين، حيث لم تكن تتوفر وقتئذ وسائل اتصال مثل الراديو والتليفزيون. ويُحكى أن حفيده، لما كان بالمدرسة الابتدائية، سأله أحد المعلّمين عن عدد الطوائف المسيحية فى البياضية؛ فأجاب ببراءة: بروتستانت- كاثوليك- مسلمين- أرثوذكس! يشى هذا بأن منزل جده كان يستضيفُ المسلمين مع المسيحيين، حتى اختلط على عقل الصغير أن الإسلام عقيدةٌ أخرى غير عقيدته. مصرُ ثريّة بأبنائها المستنيرين، رغم الظلام الضارب فى أنحائها الآن. يتأكدُ ذلك أيضًا حينما نقرأ أن الدكتور محمد سيد طنطاوى، شيخ الأزهر، أجازَ للمسلم التبرع من ماله الخاص لبناء كنيسة، مشيرًا إلى أن الكنيسةَ دارٌ للعبادة لها قداستها واحترامها وطهارتها؛ ومؤكدّا أن العقيدةَ علاقةٌ بين الإنسان وربه، وأن الشرع لا يمنع المسلمَ من أن يوصى ببناء كنيسة فهو حرٌّ فى أمواله، ونافيًا اعتراضَ الأزهر على مشروع قانون دور العبادة الموحد، وداعيًا اللهَ أن يرزق «المنحرفين» فكريًّا الهدى والمحبة. وأيَّد هذه الفتوى الرفيعة د. محمود عاشور، عضو مجمع البحوث الإسلامية ووكيل الأزهر السابق، قائلا: «إذا كانت الدورُ للعبادة والصلاة فينبغى أن نتبرع جميعًا لها سواء كانت مسجدًا أو كنيسة، إذْ لا يجوز غلقُ دار عبادة فى وجه إنسان، لأن ذلك سوف يؤدى بالتبعية إلى فتح باب المعصية وعدم الخوف من الله، فكل باب عبادة يتم غلقه، يتم أمامه فتح باب للشيطان». وبقدر ما تبهجنا وتذكى الأملَ فى نفوسنا عقولُ شيوخ أجلاّء مثل د. طنطاوى ود. عاشور، بقدر ما تحزننا وتخيفنا من المقبل عقولٌ أخرى تعملُ على وأد ائتلاف هذا الوطن الحزين الطيب: مصر. يخرج علينا الشيخ يوسف البدرى بردٍّ مؤلم بقدر ما هو عجيب. إذ يقول: «تصريحُ شيخ الأزهر كلامٌ باطل، فلا تجوز إطلاقًا المساعدةُ فى بناء الكنائس، فكيف يمكن للمسلم أن يساعد فى نشر شريعة غير شريعته، الأمر هنا مثل الذى يشارك فى بناء فندق به دعارة؟» انتهى كلام الشيخ يوسف، وأكادُ لا أصدّق أن يصدر عنه هذا التصريحُ العجيب! إذْ مستحيلٌ منطقيًّا أن ينطقَ رجلُ دين بهذا القول! وأدعو اللهَ، منذ قرأتُ هذا التصريح بالصحف، أن يكون لبسًا ما قد خالط قولَ الشيخ، فلا تكون الصحيفة قد نقلت بدقّة ما قاله الرجل. إذ لا يقبلُ عقلى ومنطقى أن يشبّه إنسانٌ، فضلاً عن أن يكون رجلَ دين، فضلاً عن أن يكون «شهيرًا جدًّا» مثل يوسف البدرى، دارَ عبادةٍ ببيت دعارة!! إلى هنا وأناشد السيد الرئيس بالالتفات للحملة التى تبنّاها المركزُ المصرىُّ لحقوق الإنسان باعتماد قانون موحّد لبناء دور العبادة، من أجل دولة المواطَنة، تلك التى ننشدها جميعنا. [email protected]