فى الكتاب المنسوب غلافه لنيافة الأنبا بيشوى (مطران دمياط وكفر الشيخ وبرارى بلقاس، إلخ) عجائبُ كثيرة، من أغربها وأكثرها مدعاة للدهشة، تلك الإشارة التى وردت فى بداية الكتاب، حيث يقول المطران أو أحد (المعاونين) الذين تعاقبوا جميعاً على تجميع هذا الكتاب الأعجوبة، ما نصه بالحرف الواحد: «ما هو الهدف من رواية د. يوسف زيدان؟! (علامة الاستفهام من عندهم، وعلامة التعجب من عندى) هل معرفة جزء من تاريخ مصر كما أراده ورآه د. يوسف زيدان، وصديقه فى حلب نيافة المطران، الذى نكاد نرى بصماته فى كل فصل من فصول الرواية، وربما فى أغلب صفحاتها. أم أن الهدف هو تحطيم إيمان النفوس الضعيفة.. إلخ» ص 13. وللوهلة الأولى، بدت لى الفقرة السابقة كواحدة من السقطات غير المقصودة، أو كواحد من سهام المطران الطائشة التى يمتلئ بها الكتاب المنسوب إليه، خاصةً أنها تأتى دون مناسبة، ودون معنى، فى حق عالم جليل يعترف بفضله الجميع، هو الأب الجليل يوحنا إبراهيم (غريغوريوس) مطران السريان الأرثوذكس بسوريا، ورئيس الطائفة فى حلب. وهو مطران أَبرشية حلب العريقة، الضاربة بجذورها فى التاريخ المسيحى، وأحد كبار اللاهوتيين، وأكثرهم احتراماً على مستوى العالم أجمع. ولم أفهم، للوهلة الأولى، ما يقصده المطران (بيشوى) من إشارته للمطران (يوحنا) ولماذا يتوهَّم أن «بصماته فى أغلب صفحات رواية عزازيل».. فظننتُ أن الأمر فيه خطأ مطبعى، أو فقرة ساقطة، أو اضطراب فى ترتيب الكتاب الطافح بالاضطرابات أصلاً. ومن هنا، غضضتُ النظر عن تلك الإشارة غير اللائقة، بل المسيئة لى وللمطران الجليل يوحنا إبراهيم، الذى عرفته أواخر سنة 2007 فى الوقت ذاته الذى تعرفت فيه إلى الأنبا بيشوى (أى بعد الانتهاء من كتابتى للرواية) ثم كان لقائى الثانى به، فى حضور الأنبا بيشوى، حيث دعوتهما معاً إلى مائدة غداء واحدة (شهر مايو 2008) أى بعد صدور رواية عزازيل بفترة، وكان اللقاء بيننا يومها ودياً للغاية، حسبما ظننتُ آنذاك. بل جرى الكلام أثناء الغداء، عن الرواية (عزازيل) فامتدحها المطران (يوحنا) أمام المطران (بيشوى).. ومرَّ اليوم مفعماً بالمسرة والمحبة. ولما سبق، لم أتوقَّف عند الإشارة السابقة، واعتبرتها كأنها سهو أو خطأ غير مقصود. ولكن كانت الفاجعة غير المتوقعة من الأنبا بيشوى، بعد ثلاثمائة صفحة من كتابه (الأعجوبة) وتحديداً فى الفصل الثالث من الباب الثالث من الكتاب، وهو الفصل الذى جاء بعنوان غامض، كأنه عنوان فيلم سينمائى (سر المطران) وقد اعتقدتُ أولاً أن الأنبا يقصد نفسه، أو أن لديه أسراراً سوف يُفصح عنها فى هذا الفصل.. لكن الأمر اتضح جلياً مع ابتداء هذا الفصل الأغرب، الذى يشغل تسع صفحات تبدأ من صفحة (313).. وهى بالمصادفة، سنة إصدار مرسوم ميلان للتسامح الدينى مع الديانة المسيحية، والاعتراف بها كواحدة من (الديانات) المسموح بها فى الإمبراطورية البيزنطية، إلى جانب الديانات الوثنية المعترف بها آنذاك . فى هذه الصفحة البائسة (313) وضع الأنبا بيشوى عنوان الفصل كاملاً، كالتالى: سر المطران المسيحى الأرثوذكسى المعجب بشغف بالرواية الهدَّامة للمسيحية الأرثوذكسية! (علامة التعجب من عندى) ثم راح يقول ما نصه: «هذا المطران يُبدى إعجابه الشديد بهذه الرواية.. وهو فى هذا لا يمثل إلا نفسه فقط.. ونحن نتعجب، كيف وهو راهب، يقرأ الأجزاء اللاأخلاقية فى الرواية.. ثم بعد ذلك يصفها فى الندوة التى أُقيمت فى حلب فى 29/4/2008 بقوله: قرأت الرواية بشغف رغم كثرة مشاغلى وأسفارى، لكنى لم أستطع الكفَّ عن قراءة هذا النص الروائى الممتع، والذى لا يعرف تاريخ المسيحية لن يعرف مراد د. يوسف زيدان من الرواية، فهى رواية لاهوتية بحتة ترتبط بحقائق التاريخ وتخترق الخطوط الحمراء وتخترق أسوار الأديرة، وتقدم لغة على قدر من الإعجاز البيانى، خاصة أنها تربط بين اللغتين السريانية والعربية، لتوجه الأفكار بقوة إلى أهمية التراث والمخطوطات، وإلى التاريخ الذى يسبق الإسلام، لأن يوسف زيدان يرى أن انتماءه العميق لهذه الأمة، يعطيه الحق فى النظر فى تراثها الإسلامى والمسيحى، فالتاريخ المسيحى ليس ملكاً للمسيحيين وحدهم». وبعدما قدم المطران (بيشوى) هذا الاقتباس من كلام المطران يوحنا راح يتخبط، كمن يبحث عن قطة سوداء فى غرفة ظلماء فى ليلة غير قمراء. حتى إنه لم يتورع، مع أنه أهل للورع، عن القول «ماذا يعنى نيافة المطران (يوحنا) بهذا الكلام؟ هل هو على غير قصد منه، قد كشف أن صديقه (يوسف زيدان) وضع ما يدور فى فكره من تيه، وتشوُّش، وحقد على الديانة المسيحية..». وبطبيعة الحال، فلن ننظر فى تناقضات المطران هذه، على أساس منطقى عقلانى. لأن كلام المطران (بيشوى) لا يخضع للعقل ولا المنطق، وإلا فكيف يقول أولاً إن المطران (يوحنا) تظهر بصماته فى أغلب صفحات الرواية، موحياً بأنه كتبها معى، ثم يقول بعدها إننى وضعت فى الرواية ما يدور فى فكر المطران يوحنا! وكيف يقال على الأب الجليل، العلامة (يوحنا إبراهيم) إنه حاقد على الديانة المسيحية؟ وهو الذى قضى عمره كله، ولا يزال يقضيه، فى خدمة كنيسته الأنطاكية الوقور التى قدمت للمسيحية تراثاً هائلاً فى الفهم والتفهم والتسامح، منذ قديسها البديع يوحنا ذهبى الفم.. بل من قبله أيضاً ومن بعده. وليت المطران (بيشوى) قد اكتفى بهذا القدر من الهجوم على المطران (يوحنا) وإنما نراه يقول، غير عابئ بكل ما أوصى به يسوع المسيح، عيسى عليه السلام، من المحبة حتى مع الأعداء، ومن التواضع حتى مع الأقل شأناً، ومن التسامح حتى مع الذين يلطمون خدودنا.. رحماتك يا أم النور.. يقول المطران بيشوى ما نصه: «أكد نيافة المطران (يوحنا) أنه قرأ الرواية قبل صدورها» وهذا حقٌ، لأننى أرسلت له نسخة إلكترونية فى شهر ديسمبر 2007 قبل صدورها بشهر، لأنه كان خارج سوريا. «وأبدى إعجابه الشديد بها كعمل فنى من طراز رفيع، وأن يوسف زيدان كتب بريشة راهب يرسم أحداثاً كنسية حدثت بالفعل..» ثم يقول المطران (بيشوى) بعد ذلك: «السر وراء الموقف الغريب الذى يتخذه نيافة المطران (يوحنا) أنه قدم بحثاً عام 1997 بواشنطن، دافع فيه عن نسطور، ولكن منعته الرئاسات الكنسية من نشره، وقدَّمه لى شخصياً لكى أعدِّله وأحذف منه.. لذلك استتر وراء الكاتب المسلم، وشجعه أن ينشر ما عجز هو عن نشره.. فعلى ما يظهر أنه (أى المطران يوحنا) أمدَّ المؤلف بالمادة المطلوبة، ثم قام بمراجعة الرواية فى النهاية». ويضيف المطران (بيشوى) وليته ما أضاف، قائلاً: «وفى إطار التحالف المذكور بين د. زيدان ونيافة المطران.. فإننى أشفق على شعب كنيستينا الشقيقتين (الإسكندرية، أنطاكية) من هذا التضليل الذى يحاول أن يعيد الصراع المفتعل بين مدرستيهما..». ما الذى يقوله الأنبا بيشوى؟ وعلى أى أساس يطلق هذه الاتهامات العشوائية عن (التحالف.. البصمات.. الحقد على الديانة المسيحية.. الصراع بين الكنائس.. إلخ) وكيف جاز له أن يظلم المطران الجليل، يوحنا إبراهيم، ويتهمه بأنه قدم لى (مادة) الرواية؟ مع أنه قال قبل شهور، إنه هو نفسه الذى قدم لى (المادة) التى اعتمدت عليها فى الرواية.. وهذا كله فى حقيقة الأمر، باطل من تحته باطل ومن فوقه باطل! لسبب بسيط،هو أن هذه (المادة) تطفح بها المصادر والمراجع التى يعرفها المطران (بيشوى) والتى لا يعرفها. ولو كان قد قرأ أعمال الباحث المصرى د. رأفت عبدالحميد، لكان قد عرف أن الأمر لا يستحق كل هذه التحالفات والاتهامات المتناقضة التى يجربها واحدة بعد أخرى. فقد ذكر هذا الباحث المصرى فى كتبه الكثيرة المتداولة، حقائق أشد وأعتى مما ورد فى روايتى، بكثير. وعلى كل حال، وتطبيقاً لما دعا إليه السيد المسيح، فسوف أشرح للمطران (بيشوى) موقف المطران (يوحنا) كى يهدأ قليلاً ويرتاح باله، ثم أشرح له «السر» فى حملته الشعواء النكراء على المطران الجليل يوحنا، ثم أبين له أخيراً أن المطران الجليل لم يتدخل من قريب أو بعيد، أثناء الرواية، لأننى لم أكن أصلاً قد عرفته آنذاك.. فأقول أولاً: أما الذى دعا المطران يوحنا للإعجاب برواية (عزازيل) فهو أنه بالفعل متخصص فى اللاهوت، وليس فى أشياء أخرى، فقد درس هذه الموضوعات المعقدة منذ صغره، فحاز دبلوم العلوم اللاهوتية والفلسفية من كلية مار أفرام اللاهوتية بلبنان، ثم التحق بالمعهد الحبرى الشرقى فى روما وحصل منه على الليسانس، ثم التحق بجامعة برمنجهام البريطانية.. وبعد حين من الزمان، صار يوحنا إبراهيم (المطران الجليل) مديراً لكلية مار أفرام اللاهوتية بلبنان، وفى العام 1979 تمت سيامته مطراناً لأبرشية حلب! إذن، فهذا الأب الجليل يعرف اللاهوت حقاً، وقضى عمره فى دراسته، ولم يقض أيامه فى اللعب السياسى. وهو لم يُعرف عنه الهجوم على أعلام الكنائس الكبار، مثل الأب متى المسكين، والأنبا غريغوريوس (القبطى) الذى كان بالفعل واحداً من أجلاء الآباء.. ولهذه الأسباب، أدرك المطران الجليل (يوحنا إبراهيم) قيمة الجهد البحثى الجهيد، الذى بُذل قبل كتابة الرواية، وقد ظهر هذا الجهد الذى لا يعلمه إلا الله، بشكلٍ هامس فى النص الروائى حسبما يقتضى السياق الروائى. ولأن الأب الجليل، المطران يوحنا، متخصصٌ فى الموسيقى السريانية والترانيم الكنسية، فقد أدرك ما لم يدركه المطران (بيشوى) من الرهافة الروحية والفنية فى الرواية. وقد عبر صراحةً عن اندهاشه وإعجابه بها، من دون تلك (الحسابات) السياسية، بالمعنى السيئ للكلمة، ومن دون التوغل فى متاهة المؤلف المسلم والنص المسيحى.. فالمؤلف فى النهاية إنسانٌ، يكتب عن الإنسان! وأما الحملة الشعواء للمطران (بيشوى) على المطران (يوحنا) فالسر فيها هو الآتى: يعتقد الأنبا بيشوى فى ذاته، أنه امتداد للأسقف (البابا) كيرلس الملقب لاحقاً بعمود الدين، مثلما يلقب الأنبا بيشوى حالياً بأسد الكنيسة ! لا بأس إن كان ذاك عموداً أو كان هذا أسداً! فإن هى إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل الله بها من سلطان. ولكن هذا الاعتقاد بالمماثلة، قاد الأنبا بيشوى إلى سلسلة من المماثلات المرتبطة بهذا الوهم. وقد أشرتُ فى مقالة سابقة إلى أن الأنبا بيشوى يعتقد أننى أمثل شخص نسطور! وهو لا يكف عن إظهار دهشته مما يعتقده من إعجابى بالأسقف الجليل نسطور (وسوف أشرح له هذا الأمر فى مقالتى التالية، الأخيرة).. وقد كان من أنصار نسطور، قديماً، مطران حلب ورئيس أبرشيتها، الذى كان اسمه أيضاً (يوحنا) وكان أيضاً تابعاً لكنيسة (أنطاكية) التى يتبعها اليوم المطران يوحنا إبراهيم.. ولأن المطران يوحنا الحلبى الأنطاكى القديم، انتصر لنسطور وحكم بحرم الأسقف كيرلس السكندرى (أى إخراجه من نطاق الديانة المسيحية تماماً) ولأن المطران يوحنا الحلبى الأنطاكى المعاصر، انتصر لرواية عزازيل.. فقد تخيل الأنبا بيشوى أننا عدنا إلى سنة 431 ميلادية، وأننا فى أجواء مجمع أفسوس المسكونى، وأن عليه أن يصب اللعنات (الأناثيما) على رؤوس المخالفين له فى الرأى. ولذلك، لم يتورَّع عن اتهام المطران (يوحنا) تهمة لو صحت، لكانت كفيلة أن تخرجه عن نطاق الديانة: الحقد على الديانة المسيحية.. معاذ الله! فيا نيافة الأنبا (بيشوى) حنانيك.. اهدأ قليلاً.. ولا يغرنك من حولك من أهل التهليل والتهويل.. ولا تظنن أنك تشوى المخالفين فنيرانك موهومة.. وهذه النيران التى يلتهب بها كتابك، وتصريحاتك الصحفية، غير محرقة! واتهاماتك التى تجرِّب منها واحدا بعد آخر، غير مقنعة! وثورتك العارمة على رواية عزازيل، غير مجدية.. فأنا لست نسطور، وهو ليس يوحنا الأنطاكى، وأنت لست الأسقف كيرلس. أنت الآن مطران، أى رئيس أساقفة! وكذلك المطران يوحنا إبراهيم! ولا يجوز أن يعرِّض المطران بالمطران على هذا النحو، ولا يجوز لك أن تظلمه هذا الظلم الفادح . ولسوف نجتمع معاً فى ميقات يومٍ معلوم، ويعلم آنذاك الذين ظلموا، أىَّ منقلبٍ ينقلبون. وأما النقطة الأخيرة هنا، وهى أن المطران يوحنا إبراهيم لم يكن له دخل من قريب أو بعيد فى نص (عزازيل) الذى يتوهَّم المطران (بيشوى) أن بصماته تظهر فى معظم صفحاتها. فبيان ذلك لن أصرح به إلا رمزاً وتلميحاً، واستعارةً لواقعة سابقة، مع اختلاف الحال والمقام. وأرجو من الأنبا بيشوى أن يستفهم مرادى التالى، من أحد العلماء.. قال تعالى (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلِّمه بشر، لسانُ الذى يلحدون إليه أعجمىٌّ وهذا لسانٌ عربىٌّ مبين).