علينا أن نسأل، وبشكل واقعى وموضوعى، هل كان إغلاق مكتبة المركز الثقافى البريطانى فى القاهرة بعد أكثر من 70 عاما، صدمة ومفاجأة لنا.. وهل ما قاله المسؤول الثقافى البريطانى بول سميث إننا المصريون «شعب غير صديق للقراءة»، أدهشنا وأصابنا بالوجع والحسرة والمرارة.. أليست هى الحقيقة المؤلمة بأننا أصبحنا لا نقرأ وعاجزين عن ممارسة فعل القراءة وعادة اقتناء الكتاب؟! من يتأمل واقع ما نعيشه وينظر بعمق الى صورة المجتمع وتحولاته وتبدلاته وتشوهات القيم والأخلاق فيه سيدرك الاجابة، ومن يتأمل أيضا واقع المعرفة والثقافة وقيمة وأهمية القراءة لدى الناس لن يشعر سوى بالحزن والخزى ولن تعتريه حالة الدهشة فى زمن لا داعى فيه للاندهاش. فالقضية أعمق بكثير من مجرد اغلاق مركز أو اعلان وفاة مكتبة، والمسألة تتعلق بهوية مجتمع وشخصية دولة تبدلت فيها كل القيم ولم يعد لقيمة العمل والعلم والقراءة والمعرفة فيها مكان، وسيطرت على أفرادها مفاهيم وثقافات غريبة فى العقود الثلاثة الماضية: الفهلوة والشطارة والنصب والاحتيال محل الجد والاجتهاد والعمل وتحصيل العلم، فرموز الفهلوة والكسب السريع للثروة دون عمل أو مكانة علمية أصبحوا الأبطال والقدوة، أما المبدعون والعلماء والمفكرون، «بتوع الثقافة ولا مؤاخذة»، فتواروا وعاشوا كالغرباء يلهثون بدورهم وراء لقمة العيش ويستجدون العلاج من المرض. إذن المقدمات دائماً ما تؤدى إلى نتيجة وحقيقة مريرة، أقل ظواهرها أن يتهمنا الأخ سميث بأننا شعب لا يقرأ ولسنا خير جلساء للكتاب فى الزمان، بغض النظر عن دوافع الإغلاق ومبرراته الأخرى. وقد لا نفاجأ أو نندهش إذا سارت مراكز أخرى على خطى البريطانى مثل جوتة الألمانى أو دانتى الإيطالى أو سيرفانتس الإسبانى أو الثقافى الروسى، وقررت إغلاق أبوابها بسبب بوار تجارتها وركود بضاعتها نظراً لانصراف الزبائن المصريين أعداء القراءة والاطلاع والمعرفة. أظن أن الحزن والألم والصدمة من إغلاق المكتبة البريطانية فى القاهرة مبعثه شعور مازال ساكناً بداخلنا بأننا الدولة التى كانت صاحبة الحضارة العريقة ومركز الإشعاع الثقافى وقبلة العلوم والفنون فى قديم الزمان، وتأسست بها أقدم مكتبة فى التاريخ، تعلم فيها فلاسفة وعلماء العالم القديم، وبأننا الدولة التى كانت، حتى عهد قريب، مئذنة للعلم ومنارة للمعرفة وجامعة للثقافة للأشقاء والأصدقاء من العرب والمسلمين والأفارقة، ثم تنازلت بإرادتها، أو بفعل فاعل، عن كل ذلك، وبالتالى كيف تغلق مكتبة فى القاهرة عاصمة الحضارة والثقافة. تلك هى الصدمة، ولكنها الواقع والحقيقة التى دائماً ما نتغاضى عنها ولا نواجهها. ثم لماذا كل هذا الاندهاش والحزن، فنحن بالفعل أمة لا تقرأ وندرك ذلك جيدا والأرقام خير دليل، فالمنظمة الدولية المسؤولة عن الثقافة والعلوم «اليونسكو» تكشف الواقع المرير، فالطفل لدينا مثلا يقرأ 7 دقائق فى السنة، بينما الطفل الأوروبى يقرأ 6 دقائق يومياً..! ولا نلوم طفلنا المظلوم لأن مناهج التعليم لدينا تغرس فى نفسه الكراهية والعدوانية الطبيعية مع القراءة، إضافة إلى أن ما يخصص للطفل من الكتب سنويا أقل من 400 كتاب، بينما المخصص له فى أوروبا أكثر من 6 آلاف، وفى أمريكا أكثر من 13 ألف كتاب. على مستوى الكبار أيضاً، يقرأ الفرد فى مجتمعاتنا أقل من ربع كتاب سنوياً، فيما يقرأ «الإسرائيلى» 40 كتاباً سنوياً، والأوروبى 35 كتاباً. ابحثوا عن الأسباب ولا تندهشوا من النتيجة، والأمم المحترمة تواجه مخاطرها وتشخص أمراضها وتعمل على علاجها.