اندهش صديقى بعد أن قرأ مقال د. فؤاد زكريا فى أهرام الجمعة الماضى عن الموسيقى الكلاسيكية وقال فرحاً «ياه.. فؤاد زكريا لسه موجود»!، كان قد تخيل من فرط الاختفاء وعدم الاحتفاء أن فؤاد زكريا غير موجود، يااااه.. هذا الفيلسوف العملاق بيننا ونحن لا نحس به، فؤاد زكريا موجود ولا توجد قناة تليفزيونية واحدة حكومية أو خاصة فكرت فى أن تجرى حواراً معه، فؤاد زكريا فى مصر ولا توجد مجلة أو جريدة فكرت فى أن تجمع مذكراته أو تستكتبه أسبوعياً أو حتى شهرياً، فؤاد زكريا يعيش منعزلاً فى بيته، وحيداً ونحن لا نسأله عما ألم بنا، خيوط مشكلاتنا الفكرية المعقدة ككرة الصوف المتشابكة تحتاج إلى فيلسوف بوزن وقامة فؤاد زكريا ونحن نغتاله بالإهمال واللامبالاة والطناش، نجعله فى آخر الطابور بل نخرجه من الطابور أصلاً لصالح أن يتقدم الأقزام طابورنا الخايب، نغرقه فى محيط الجفاء والخفاء لكى تطفو الطحالب والهوام على السطح، لست أنت المسكين يافؤاد بل نحن المساكين ومجتمعنا هو المسكين المذبوح بالسكين . اكتئاب فؤاد زكريا وانزواؤه وإهمالنا لتسجيل ملاحظاته ومذكراته وإعادة طبع مؤلفاته هو جريمة بكل المقاييس وكارثة بكل المعايير، لو كان فؤاد زكريا يعيش فى بلد آخر لخصص له احتفالاً طوال السنة، ندوات ومحاضرات وأفلام وثائقية عن كتبه وفكره ومعاركه وفلسفته ومسيرة حياته، فؤاد زكريا قيمة ضخمة جداً فى حياتنا الثقافية العربية وليست المصرية فقط، هو أول من علمنا ماهو المنهج العلمى، وأول من شرح لنا الحقيقة والوهم فى الحركة الإسلامية المعاصرة، ترجم لنا حكمة الغرب لبرتراند راسل، قدم لنا الفلسفة الغربية ومبادئها بأسلوب فى منتهى السلاسة، جعل أصعب العلوم الفلسفية عند أطراف أصابعنا وفى متناول عقولنا الكارهة بالسليقة للفلسفة، عند رئاسته لتحرير مجلة الفكر المعاصر جعل همه الأساسى هو أن يستفزنا بالسؤال ويعلمنا فضيلة الدهشة وألا نقبل أى فكرة على أنها صادقة لمجرد أنها قديمة أو لمجرد أن صاحبها السياسى أو الرئيس أو الكاهن أو الشيخ يقدس آراءه التابعون المنومون مغناطيسياً، حتى فى هجرته للكويت أصر على أن يخلق مشروعاً بديلاً وهو مشروع «عالم المعرفة»، هذه السلسلة الرائعة التى نهل من معينها كل المثقفين العرب، هذه السلسلة صاحبة الأيادى البيضاء على الفكر العربى والتى لديها رؤية تنويرية واضحة هى من بنات أفكار هذا الرجل العظيم. فؤاد زكريا لم يقبل بأنصاف الحلول، ظل يحارب طيور الظلام ويدعو للمنطق والعلم واحترام العقل وتمجيد الفنون، خاصة الموسيقى الكلاسيكية التى كتب عنها وعن أساطينها أفضل مما كتب المتخصصون. تحية إليك، واعتذار واجب، وقبلة على جبينك الوضاء، وانحناءة تعظيم وإجلال لعقل جبار حكيم جسور، وقبلها وقفة دقيقة أو فلنقل قرناً حداداً على وطن لايحتفى على شاشته أو فى أروقته إلا بالدجالين والمهرجين.