فى زمن المباريات تحن الأقلام إلى كلمة الانتصار، لكن فى اللحظات الحرجة من عمر الأوطان تتشوق إلى كلمات الهمة والإرادة والطموح، وإذا كان القلم يحار بين الاثنين، فالهوامش قد تكون ملاذاً يمنحه راحة وطمأنينة، وتضعه فى منزلة بين المنزلتين، ليلتمس واقعه ولا يرتفع بسقف أحلام صنعتها مباراة، فالسطور حياة والكلمات مقدسة، وفى التالى هوامش لمصر 14 نوفمبر، تمنح نظرة أخرى إلى حدث التفَّ حوله المصريون. سائق تاكسى.. رئيس وزراء الساعة تشير إلى الثانية ظهراً، سائق تاكسى يقبل بعد عناء أن يقلنا إلى استاد القاهرة، بادرنا بحكاية عن أمريكى ركب معه السيارة لمنزله ليلحق بالمباراة حاملاً علم منتخب مصر، ولم ينتظر طويلاً ليبث شكواه ويدلو بدلوه سواء فى المباراة أو القضايا العامة.. «محمد أبوزيد»، دبلوم صنايع، يرغب أن يصبح رئيساً للوزراء لعامين فقط ليحل مشكلات مصر، يبدؤها بقرار لزيادة رواتب رجال الشرطة حتى لا يبحث أحدهم عن 5 أو 10 جنيهات، يرفض أن تكون هناك وزارة للعدل، فالعدل لديه منهج حكم وليس وزارة فى وسط المدينة، سيلغى قانون المرور، ستنتهى الانتقائية فى عهده، فلن تنسج القوانين لفئة فى قمة المجتمع، بل ستخدم كل المصريين بإعلاء مبدأ المساواة، لم تمنعه شهادته المتوسطة أن يطرح أفكاره الوجيهة وكلماته التى تشير إلى حكمة واطلاع، قفز بحديثه إلى المباراة مرة أخرى واصفاً منتخب مصر بالأستاذ فى مواجهة التلميذ، فنحن الحضارة وهم من تعلموها منا، فتجرؤ الجزائريين - حسب رأيه - لابد أن نقابله بمفرمة اللحم، أى أن يدخل كل جزائرى بعيداً عن أعين الصحافة والإعلام المفرمة حتى لا يفعل ذلك ثانية. سألته قائلاً: «لقد استُنفر المصريون من أجل مباراة فلماذا لم يُستنفروا ليطالبوا بحقوقهم؟»، فرد: «لأن رئيسهم راض عن الأولى فقط، فأعطاهم صك الحماية ليخرجوا للشوارع ويحملوا الأعلام ويهتفوا بحرية». أمن.. أبناء وجلادون الساعة الثالثة عصراً.. البوابة الرئيسية للدخول إلى الاستاد، رجال أمن يتراصون على الجانبين، يفتشون الجميع الذين تحركهم أمواج تِلْوَ أمواج، مخترقة السياج الأمنى الذى تفرق عبر 4 نقاط، إلى أن وصلت إلى الباب الرئيسى للدخول، وهنا حدثت الملهاة: الأبواب مغلقة أمام حشد يقارب 10 آلاف متفرج، يحملون تذاكر قيمة الواحدة 250 جنيهاً لكنها بيعت لهم بمبالغ تراوحت بين 500 و1500 جنيه، الهتافات تغيرت من «النصر لمصر» إلى «حكومة ......» و«الصحافة فين ..... أهوه»، البعض قفز الأسوار والبعض الآخر انشغل بإتلاف اللافتات الإرشادية، وبدأت المعمعة، فمن تجاوز الأسوار اصطدم بتشكيلات أمنية لم تجد بُداً من إلهاب ظهور كل من تخطى البوابة، وفى الجهة الأخرى من بوابات الدخول أناس يدخلون بكل سلاسة ويسر، فسرها لنا حديث دار بين ضابط جاورته فى جلستى وبين زميله، قال أحدهم للآخر: «لم يجد هؤلاء مكاناً - يشير إلى الجماهير التى افترشت سلالم الاستاد - لأن كل ضابط جاء ببعض أقاربه، فهناك 1500 ضابط، ومن ثم فى حال جاء كل واحد منهم بخمسة أشخاص فسيكون الإجمالى أكثر من 7 آلاف، ولم يفت الشرطة أن تنسى شعارها القديم (الشرطة فى خدمة الشعب)، فوزعت منشورات تهدى النصر لمصر تحت توقيع محبى المنتخب الوطنى، مع إشارة قد تخطئها العين بطباعتها فى مطابع الشرطة». دين وسياسة الساعة تجاوزت الخامسة.. المذيع الداخلى يطلب من الجماهير أن تصمت لرفع الأذان، فساد الصمت للحظات لتعود المدرجات الملتهبة إلى ثورتها العارمة المزدانة بعلم مصر، ليعود بعدها المذيع بدعوة الجماهير لترديد فاتحة الكتاب وراءه لتكرار ما حدث عام 1989، يستجيب الجمهور، ثم يعاود المذيع ترديد «قل هو الله أحد»، ثم يهتف «الله أكبر» ثم «يارب»، والجمهور وراءه، لدقائق، وإذا كان الدين حاضراً طيلة اللقاء فإن السياسة لم تغب، ولعب المذيع الداخلى نفس الدور بترديد اسم الرئيس مبارك، راعى الرياضة - كما قال - لاصطياد تصفيق الجماهير، وقد نجح فى ذلك لكنه لم يفلح فى انتزاعه عند ذكر اسم نجلى الرئيس جمال ثم علاء، ليسود صمت مع استهجان ضعيف من المدرجات، وعلى نفس المنوال استقبلت الجماهير حسن صقر، رئيس جهاز الرياضة، وإذا ما قارنت ما حصده أبوتريكة أو نجوم المنتخب من تصفيق فالفارق شاسع كما هو بين الأرض والسماء. جمهور.. يشتم ثم يطلب مدداً من السماء متقلب، يخدعك، لا تستطيع أن تتصور ردود أفعاله، هكذا بدا طيلة المباراة، يغضب، يحزن، يهتف، يشتم، يصفق، يلعن، يفرح، بدأ بهتاف «كل الناس بيقولوا يارب» لكنه لم يتوان عن سباب جماهير الجزائر ودولتهم، وبعبقرية يحسد عليها قام بتأليف هتافات وشعارات يخجل القلم من كتابتها منها تحريف لأغنية «دقوا المزاهر»، وكان مؤدباً جزئياً عندما قال بكل حرارة «واحدة واحدة تاتا.. الجزائر هتشيل تلاتة»، احتفائه بعلم مصر يملأ الأعين بفرحة الانتماء، فالأعلام الضخمة التى تجولت فى المدرجات متنقلة من الدرجة الأولى إلى الثانية ثم الثالثة، دليل على روح فريق ورغبة فى تأثير، توجتها موجات بشرية تِلْوَ موجات تذكرك بملاعب أوروبا، مع أعلام رُفعت فى وقت واحد لدى دخول منتخب الجزائر، فاختفت الجماهير وراء الأعلام فصارت المدرجات جميعها ألوان علمنا المصرى. صفارة النهاية.. الأمن يفسح طريقاً لجمال وعلاء مبارك، اللذين تعلو وجهيهما ابتسامة عريضة، والجماهير يخرجون محتفلين بالانتصار، يشيرون إلى السماء التى أنصفتهم، لكن البعض أراد أن يقول كلمته الأخيرة ولكن بعشوائية الغوغاء، صعدوا فوق السيارات المتراصة أمام البوابة الرئيسية للاستاد فصارت هياكل معدنية وتكسر زجاجها، وإذا كان الختام سيئاً، فصوت شادية يلتقيك فى مترو الأنفاق «أصله ماعداش على مصر» ممزوجاً بهتافات «مصر.. مصر»، قد ينسيك بعضاً من عناء أو غضب لكنه وجَّه بصرك إلى الجنوب، وتحديداً إلى الخرطوم حيث تولد الأحلام.