عاجل: ما حقيقة انخفاض الأرز الأبيض والشعير من جديد 2024 ؟    «الزراعة» : منتجات مبادرة «خير مزارعنا لأهالينا» الغذائية داخل كاتدرائية العباسية    مصر والكويت.. انقشاع الغبار    أنشيلوتي أبرزهم.. المرشحين لجائزة مدرب الشهر في الدوري الإسباني    أزمة الضمير الرياضى    الاستماع لأقوال شهود العيان في مقتل شاب خلال مشاجرة بالقليوبية    "حول الحكم والإدارة".. صدور الجزء الرابع من كتاب الرئيس الصيني بالعربية    قبل طرحه في السينمات.. تفاصيل شخصية شريف منير في فيلم «السرب»    منى الحسيني ل البوابة نيوز : نعمة الافوكاتو وحق عرب عشرة على عشرة وسر إلهي مبالغ فيه    جمعة فى مؤتمر رابطة العالم الإسلامى بالرياض: نرفض أى محاولة لتهجير الشعب الفلسطينى وتصفية قضيته    سفير الصين: العلاقات مع مصر في أفضل حالاتها.. وتجمعنا طموحات مشتركة    تنمية شاملة بعد عقود من الإهمال| مشروعات زراعية وصناعية وبنى تحتية فى كل شبر من أرض الفيروز    تحرير سيناء.. «قصة كفاح نحو البناء والتنمية» ندوة بمجمع إعلام قنا    تشكيل بيراميدز في مواجهة البنك الأهلي    رياضة الوادى الجديد تختتم فعاليات الحوار المجتمعي «دوي» وإعلان المبادرات الفائزة ببرنامج نتشارك    تريزيجيه ينافس مبابي ووالكر في قائمة مميزة حول العالم    عاجل.. تنبيه مهم من البنوك لملايين العملاء بشأن الخدمات المصرفية    وزارة التخطيط وهيئة النيابة الإدارية يطلقان برنامج تنمية مهارات الحاسب الآلي    سيناء من التحرير للتعمير    خبير سياسات دولية: اللوبي الإسرائيلي ما زال يضغط على الولايات المتحدة (فيديو)    تعرف على إجمالي إيرادات فيلم "شقو"    عناوين مكاتب تطعيمات الحج والعمرة بمحافظة كفر الشيخ ومواعيد العمل    عاجل من الصحة بشأن منع هذه الفئات من الخروج في الموجة الحارة (فيديو)    فوز مصر بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية    طلاب كولومبيا: لن ندخل في مفاوضات مع إدارة الجامعة    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    حجز قضية مصرع شاب على يد 6 أشخاص في المنصورة للنطق بالحكم (فيديو)    العروسة في العناية بفستان الفرح وصاحبتها ماتت.. ماذا جرى في زفة ديبي بكفر الشيخ؟    هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية: تلقينا بلاغ عن وقوع انفجار جنوب شرق جيبوتي    أوراسكوم للتنمية تطلق تقرير الاستدامة البيئية والمجتمعية وحوكمة الشركات    إجازة شم النسيم 2024.. موعدها وعدد أيامها بعد قرار مجلس الوزراء بترحيل الإجازات    رئيس جامعة جنوب الوادي يكرم الوفود المشاركة بالملتقى الفني 21 لشباب الجامعات    عيد الربيع .. هاني شاكر يحيى حفلا غنائيا في الأوبرا    توقعات برج الثور في الأسبوع الأخير من إبريل: «مصدر دخل جديد و ارتباط بشخص يُكمل شخصيتك»    حكم الاحتفال بشم النسيم.. الإفتاء تجيب    هل هناك أذكار وأدعية تقال في الحر الشديد؟.. رد واضح من الإفتاء    رغم توافر السيولة الدولارية.. لماذا يرفض التجار استلام بضائعهم من الموانئ؟| تفاصيل    زيادة وتيرة حرب أسعار السيارات الكهربائية في الصين    قريبا.. مباريات الدوري الإسباني ستقام في أمريكا    محافظ المنيا: تقديم كافة الدعم للأشقاء الفلسطينيين بالمستشفى الجامعي لحين تماثلهم للشفاء    خدماتها مجانية.. تدشين عيادات تحضيرية لزراعة الكبد ب«المستشفيات التعليمية»    حزب الحركة الوطنية يناقش خطة عمل المرحلة المقبلة والاستعداد لانتخابات المحليات    مديريات تعليمية تعلن ضوابط تأمين امتحانات نهاية العام    تفاصيل مؤتمر بصيرة حول الأعراف الاجتماعية المؤثرة على التمكين الاقتصادي للمرأة (صور)    روسيا تبحث إنشاء موانئ في مصر والجزائر ودول إفريقية أخرى    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع الخامس لسرقته    الصين تعلن انضمام شركاء جدد لبناء وتشغيل محطة أبحاث القمر الدولية    حقيقة حديث "الجنة تحت أقدام الأمهات" في الإسلام    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم العراقي مهدي عباس    هل يجوز أداء صلاة الحاجة لقضاء أكثر من مصلحة؟ تعرف على الدعاء الصحيح    نقيب «أسنان القاهرة» : تقديم خدمات نوعية لأعضاء النقابة تيسيرا لهم    دماء على «فرشة خضار».. طعنة في القلب تطيح بعشرة السنين في شبين القناطر    الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق مستقل بشأن المقابر الجماعية في غزة    اسكواش - فرج: اسألوا كريم درويش عن سر التأهل ل 10 نهائيات.. ومواجهة الشوربجي كابوس    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    الحج في الإسلام: شروطه وحكمه ومقاصده    بشير التابعي: أتوقع تواجد شيكابالا وزيزو في التشكيل الأساسي للزمالك أمام دريمز    دعاء العواصف والرياح.. الأزهر الشريف ينشر الكلمات المستحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. يوسف زيدان يكتب: الرؤية الصوفية للعالم (2-7) القولُ الثانى: فى جوهر الديانات

أتذكَّرُ.. قبل أعوامٍ بعيدة، أيامَ كان القلبُ أخضر وآماله أكبر، أننى نويتُ اختيار (فلسفة الجيلى الصوفية) موضوعاً لرسالتى للماجستير. ولما أخبرتُ المشرفَ باختيارى، وكان ذلك، فى مجلس د. محمد على أبو ريان، رحمه الله، الذى كان أستاذاً لى وأستاذاً لأستاذى أيضاً، صاح د. أبو ريان فىَّ، مهتاجاً: ما هذا الموضوع، كيف ستنتهى منه، أنا نفسى لم أفهم عبد الكريم الجيلى، فكيف ستفهمه أنت؟.. ولأن د. أبو ريان كان أستاذاً طيب القلب، كإنسانٍ، فسرعان ما هدأ بعد ما قاله، وأضاف قائلاً بنبرة هادئة: ابحث لنفسك عن موضوع أسهل من الجيلى، الذى أعتبره المشعبذ الأعظم! هكذا قال، فانصرفت من المجلس كسيرَ الخاطر كسيفَ البال.
وأتذكَّرُ أننى قضيتُ ليلةً ليلاء، غير قمراء، ولا أملَ لى إلا الذهاب لجامعة أخرى- غير جامعة الإسكندرية- كى أتمكَّن مما لم يمكننى فى جامعتى. ولكن جرى ما لم أتوقعه! ففى الصباح الباكر، هاتفنى أستاذى المشرف د. حسن الشرقاوى، رحمه الله، وقال حازماً: تعالَ الآن، ومعك خُطة بحث الماجستير.. وذهبتُ إليه من فورى فوقَّع عليها بالموافقة، وفسَّر لى الأمر بأنه رأى الجيلى فى المنام، يأمره بإنهاء الأمر!
كان حسن الشرقاوى صوفياً من طراز عجيب. المهم، أننى أخذت الأوراق موقَّعةً، وطرتُ بها إلى رئيس القسم الذى كان مشهوراً بأنه يتردَّد كثيراً قبل أن يوقِّع أوراقاً، لكنه وقَّع على الأوراق من فوره، على غير عادته. بل لفت نظرى إلى أن مجلس الكلية منعقد، وبالإمكان اعتماد الموضوع فوراً. ولأن د. محمد على الكردى، أطال الله عمره، كان المسؤول آنذاك، وكان متحمِّساً لى، فقد تجرأتُ وأدخلتُ خطة البحث أثناء انعقاد المجلس لاعتمادها.. وبانتهاء ذاك اليوم، كان الأمرُ قد تمَّ حسبما تمنيتُ.
وأتذكرُ أننى قضيت مع عبد الكريم الجيلى (المتوفى سنة 928 هجرية) سنواتٍ مفعمةً بالدهشة، والتحليق فى الآفاق الصوفية التى لا حدَّ لها، وعرفت وعورة لغته ورهافة رموزه وروعة معانيه. وفهمت آنذاك القول الصوفى الشهير، الذى ينطق به المتصوف حين تتسع رؤاه، فيصرِّح قائلاً: بحرى لا ساحل له!
وقد كان من أغرب المدهشات لى فى فلسفة الجيلى الصوفية التى عاينتها فى ذاك الزمان، رؤيته الخاصة للديانات وفَهْمه الصوفى لجوهر العقائد وسبب اختلاف الناس بسببها.
■ ■ ■
وفى واقع الحال، لم يكن عبد الكريم الجيلى هو أول صوفى مسلم يتحدَّث عن حقيقة الدين وجوهر المعتقدات، فقد سبقه إلى ذلك صوفيةٌ مبكرون من أمثال «أبى يزيد البسطامى» الذى كان صوفياً عارماً مشهوراً بشطحاته (والشطح مفهومٌ صوفىٌّ خاصٌّ، سوف نتحدث عنه فى المقالة الأخيرة من هذه السباعية) فقد نُقل عن «البسطامى» أنه حين مَرَّ على مقابر المسلمين، قال: مغرورون. ولما مَرَّ على مقابر اليهود والنصارى، قال: معذورون ! وهى إشارة إلى توهمات أهل الديانات بصدد ما يعتقدون.. ومن قبل البسطامى كانت رابعة العدوية، التى شوَّه الفيلم السينمائى سيرتها؛ تقول إنها لا تعبد الله خوفاً وطمعاً، وإنما حباً فى ذاته. وأبياتها فى هذا الشأن مشهورة، أعنى تلك التى غنَّتها لنا أمُّ كلثوم، وكان مطلعها: أحبك حُبَّين.. (بالمناسبة هذه الأبيات قالها ذو النون المصرى، لا رابعة).
إذن (الدين الحق) عند الصوفية المبكرين، بل والمتأخرين عليهم زمناً، هو: المحبة. ومن هنا قال شيخ الصوفية الأكبر «محيى الدين بن عربى، المتوفى 638 هجرية» أبياته الشعرية الشهيرة، التى آخرها: أدين بدين الحب، أنَّى توجَّهتْ ركائبه، فالحبُّ دينى وإيمانى.
فإذا كانت المحبة عند الصوفية هى حقيقةُ (الدين) وجوهره، فماذا عن تلك الديانات المتعدِّدة التى يؤمن بها الناس، وقد يتحزَّبون لها، ويتقاتلون من أجلها، فيقتلون ويُقتلون.. حين نبحث عن إجابة لهذا السؤال، فسوف يصدمنا للوهلة الأولى، قول ابن عربى: عقد الخلائقُ فى الإله عقائداً/ وأنا اعتقدتُ جميع ما عقدوه.
كلامٌ عجيبٌ.. فما معناه، وما مراد ابن عربى منه؟ هذا السؤال هو الذى يقودنا إلى رؤية الجيلى لحقيقة (الديانات) التى سنعرض لها فيما يلى، ولحقيقة (العبادات) التى سنعرضها فى المقال القادم.. فنقولُ فى ذلك والله المستعان، داعين القارئ إلى عدم المبادرة بالإنكار، وذاكرين بعضاً مما أوردناه فى كتابنا (عبد الكريم الجيلى فيلسوف الصوفية) الصادرة طبعته الأولى، قبل أكثر من ربع قرن!
■ ■ ■
يرتفع الصوفى بحسِّه المرهف فوق المظاهر الفانية للأشكال الدنيوية، وتغوص بصيرته فى قلب الأشياء لتشهد باطنها المحتجب وراء هذا الشكل الظاهر. ويشعر الصوفى فى هذا (الحال) بأن العالم اللامتناهى قد امتد أمام عين قلبه، وغدا مرئيًا على نحو لا مثيل له من الوضوح.
وعندما يقف الصوفى على هذا المشهد الإلهى الذى تطوى فيه المسافات وتجتمع الحدود، يكون كله أذنًا تتسمَّع تسبيح الموجودات ونجواها مع خالقها، فيدرك حقيقة قوله تعالى: (وإِن مّنِ شَىءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ). فإذا نظر الصوفى فى معنى هذه الآية الكريمة، أدرك أن خرير الماء تسبيحٌ، وهديل الحمام تسبيحٌ، وتغريد الطير تسبيحٌ، وصمت السواكن تسبيح للخالق عز وجل.
ويقرأ الصوفى قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإِنسَ إِلاَّ ليَعْبُدُونِ) فيعرف أنه ما من موجود، إلا وهو مجبول على عبادة الخالق ومفطور على طاعته.. ونسأل الجيلى فى ذلك؛ فنراه يؤكد أنه لا يوجد مخلوقٌ إلا وهو يعبد الله! إما بحاله، أو بمقاله، أو بفعاله.. أو بذاته وصفاته. فكل إنس وكل جان، بل كل ما فى الوجود، عابدٌ لله بالضرورة.
ونعود فنتساءل: فما بال الأمر بالنسبة للملاحدة والزنادقة والخارجين عن دين الحق من أهل الأهواء والملل والنحل ؟ فيقول الجيلى: كلهم عابد لله، والله تعالى يهدى ويضل، فلا بد من ظهور الهداية والضلال فى خَلْقه، فكما يجب ظهور أثر اسمه (المنعم) يجب كذلك ظهور أثر اسمه المنتقم. أما اختلاف عبادات أهل الديانات، فيرجع فى رأى الجيلى إلى اختلاف مقتضيات الأسماء والصفات الإلهية، فالله تعالى يقول: (كَاَنَ النَّاسُ أُمَّةً واَحِدةً) يعنى أنهم مَجْبولون على عبادته من حيث الفطرة الأصلية التى فطر الله الناس عليها.
ثم بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، ليعبده مَنْ اتبع الرسل من حيث اسمه الهادى، وليعبده مَنْ خالف الرسل من حيث هو (تعالى) المضل لمن يشاء.. فاختلف الناس وافترقت الملل، حين ذهبت كل طائفة إلى ما اعتقدت أنه الصواب. وهكذا ظهرت النحل والديانات، السماوية وغير السماوية.
وحسبما يرى الجيلى، فإن بعض ذرية آدم، انشغلوا من بعده بالدنيا ولذاتها الفانية، فغفلوا عن فحوى الوقائع الإلهية التى جرت مع آدم، ونسى كُلٌّ منهم ذِكْرَ الرب، واتبع هواه فكان أمره فُرُطاً.. وهؤلاء امتد بهم الزمان جيلاً بعد جيل، حتى نسوا الله وأنكروه، مع أنه متجلٍّ فى الكون كله، فكانوا هم (الكفَّار) لأن الكفر فى اللغة والمفهوم الصوفى، هو: الإخفاء! ويدل على ذلك، ويؤكده، الآيةُ القرآنية التى تذكر الذين يدفنون البذور فى الأرض، فتسميهم الكفار. قال تعالى: (يُعجب الكُفَّار نباته).
وقد ذهبت جماعةٌ من ذرية آدم إلى عبادة الأوثان، لأنها تذكِّرهم بالإله، لكنهم بعد حين من الدهر، توجَّهوا بالعبادة إلى صورة الوثن، ونسوا أن سابقيهم كانوا يتقربون بذلك إلى الله زلفى.. فبلغ من جهل المتأخرين منهم، أنهم اعتقدوا أن الله (تعالى) هو ذلك الوثن أو ذاك.
جماعةٌ أخرى من البشر، قالت إن عبادة الأوثان لا تضر ولاتنفع، فالأَوْلى أن يعبدوا ما يضرهم وينفعهم، وظنوا أن هذا الضرر والنفع، من شأن الكواكب السبعة (زحل، المشترى، المريخ، الشمس، الزهرة، عطارد، القمر) فهذه «الكواكب» عند الصابئة، تؤثر فى الأشياء، فهى أولى بالعبادة.. فكانوا هم (الصابئة) أو عبدة الكواكب والنجوم.
يضيف الجيلى: وآخرون من بنى آدم انبهروا بقدرة العقل الإنسانى فاتبعوه، ومضوا فى قياس الأمور بعقولهم، فوجدوا أن عبادة الأوثان سفاهةٌ وعبادة النجوم تخييلٌ. فنظروا فى الوجود بعقولهم، فانتهوا إلى أن هناك طبائع أربعة هى أصل الوجود، والعالم مركب من هذه الطبائع (الحرارة، البرودة، اليبوسة، الرطوبة) فإذا كانت هذه الطبائع هى أصل العالم، فالعبادة للأصل أولى، ولذا عبدوا عناصر الطبيعة.. وهؤلاء هم الطبائعية (الفلاسفة).
وآخرون ذهبوا إلى عبادة النور والظلمة، فقد وجدوا أن عبادة النور وحده تضييع للجانب الآخر وهو الظلمة، والعالم يتصارع فيه النورُ والظلام كمبدأين متساويين، فعبدوا النور المطلق وسموه (يزدان) وعبدوا الظلمة المطلقة وسموها (أهرمن) وهؤلاء هم الثنوية أو الزنادقة.
ثم ذهبت طائفة من البشر إلى الاعتقاد فى أن النار هى أصل الوجود، وقالوا إن مبنى الحياة على الحرارة الغريزية فى كل حَىٍّ، والنار هى أصلُ الحرارة، فهى أصل الحياة.. فعبدوا النار، وسُموا المجوس.
ومن البشر من نظر فى أحوال الحياة، فوجدوا أنه ما ثَمَّ إلا أرحاما تدفع وأرضاً تبلع، ووجدوا أن الدهر يسير من الأزل إلى الأبد كأعمى ضلَّ وجهته.. فتركوا العبادة كلها، وهؤلاء هم الدهريون أو الملاحدة.
وحسبما يرى عبدالكريم الجيلى فإن أهل هذه الطوائف، وغيرهم من أهل الأهواء والبدع والنحل، منهم مَنْ هو فى الجنة، ومَنْ هو فى النار! ففى الزمان السحيق، وفى النواحى التى لم تصل إليها دعوة الرسل، كان دومًا هناك مَنْ يفعلون الخير، وهم فريق الجنة؛ ومَنْ يفعلون الشر، وهم أهل النار.. وفاعل الخير فى هذه الطوائف، يفعله لأنه يوافق الفطرة الأصلية التى فطر الله الناس عليها.
وفاعل الشر إنما يفعل ما لا تقبله الفطرة، وتكرهه النفوس وتتألم له الأرواح. وهكذا يكون الثواب والعقاب حسبما تقتضيه الفطرة، ما دامت الشرائع الإلهية لم تنزل.. فأما بعد نزول الشرائع، فالحساب يكون على مقتضى ما أمر الله به، وما نهى عنه.
فإذا نظرنا فى تعدد الديانات غير السماوية، وفى حقيقة هذه الديانات، وجدناهم جميعًا يعبدون الله تعالى، على الحقيقة.. فقد خلق الله تعالى هذه الأقوام للعبادة، وما خلقهم (إِلاَّ لِيَعْبُدوُنِ) (سورة الذاريات: 56) ولكن تعددت أشكال العبادة، حتى تظهر حقائق الأسماء والصفات الإلهية، فيكون سبحانه وتعالى متجليًا على جميع خلقه!
فهؤلاء من (عبدة الأوثان) إنما عبدوا الله فى الوثن الذى له يسجدون، وإن ظنوا بأن الوثن هو الإله، فإن ظنهم هذا لا يغير من حقيقة أن الله تعالى موجود فى كل ذرة من ذرات الموجودات، وأنه سبحانه وتعالى ظاهر فى كل الأشياء، ومتجلٍّ على كل الجهات. فلما شعر الوثنيون بوجوده تعالى فى الوثن، الذى هو من خلقه تعالى، عبدوا الله فى الوثن وظنوا بأن الوثن هو صورة الإله.. والله خلقهم وخلق ما يعبدون!
فإن كان عبدة الأوثان هم فى حقيقة الأمر عابدين لله، إلا أن خطأهم يرجع إلى أن عبادتهم لله كانت (على التقييد) وليس على الإطلاق. فعلى الرغم من أن الوثن مظهرٌ من مظاهر أسمائه تعالى، التى لا يبلغها الإحصاء، فقد عبد هؤلاء الله (على التقييد) بهذا المظهر وحده، ولم يدركوا أن الله إنما هو مطلقٌ فى كل المظاهر، ومتجلٍّ فى كل الموجودات، فقيدوا الله سبحانه وتعالى فى صورةٍ واحدةٍ من صور تجلياته التى لا يحصيها الحصر.. وذلك لا يخرج بهم، حسبما يرى الجيلى، عن كونهم قد عبدوا الله، وسبَّحوا له.
والآخرون (الصابئة) الذين عبدوا الكواكب، كانوا يعبدون الله، من حيث الأسماء الحسنى، التى لله سبحانه وتعالى. وعلى الحقيقة، ما (الشمس) إلا مظهر اسمه تعالى (الله) فالشمس تمدُّ بنورها جميع الكواكب، مثلما يمد اسمه (الله) جميع الأسماء الإلهية بحقائقها.
والقمر هو مظهر اسمه تعالى (الرحمن) لأن القمر يتلقَّى نور الشمس ويظهره ليلاً- الجيلى يقول ذلك- مثلما الرحمانية هى المظهر الأعظم والمجلى الأكمل الأعم للألوهية. والكوكب الثالث من الكواكب السبعة التى عبدوها، وهو المشترى، هو مظهر اسمه تعالى (الرب) لأن المشترى أسعد وأشمل كوكب فى السماء. والربوبية شاملة لكمال الكبرياء الإلهية، لاقتضاء الربوبية للمربوب. وكوكب (زحل) هو مظهر الواحدية، فكما يحيط فلك زحل بجميع الأفلاك التى تحت حيطته، يحيط اسمه تعالى (الواحد) بما تحته من جميع الأسماء والصفات الإلهية.
وكما أن زحل هو أول الكواكب السبعة، فكذلك الواحدية هى أول تنزل من تنزلات الأسماء والصفات الإلهية. وأما المريخ فهو مظهر القدرة، لأنه كما يقول الجيلى «النجم المختص بالأفعال القهارية» وكوكب الزهرة مظهر الإرادة، لأنه سريع التقلُّب فى نفسه، وكذلك الحق تعالى يريد فى كل آنٍ شيئًا، وكل يوم هو فى شأن.
والكوكب السابع (عطارد) هو مظهر للعلم الإلهى ومجلى لاسمه تعالى (العليم) ولهذا لُقِّبَ كوكب عطارد بكاتب الأفلاك.. وبقية الكواكب التى يعرفها الناس، هى مظاهر لأسمائه الحسنى التى تحت الإحصاء. وأما ما لا يُعلم من الكواكب الباقية، فإنها مظاهر أخرى لأسمائه تعالى التى لا يبلغها الحصر.
..وعلى هذا النحو، يتتبع عبد الكريم الجيلى الديانات المختلفة، المتخالفة، فيرى أن جوهرها الأصلى هو المتعلق بالله! وأفعال أصحابها هى أشكال من (تسبيح) البشر للإله فلله يسبح كُلُّ شىء فى الوجود، ولكن العقول ذهلت عن تسبيحهم، لوقوعها على ظاهر التسبيح، وليس على حقيقته البعيدة .
أما اليهود، فهم وإن كانوا من عباد الله على الحقيقة، إلا أنهم فى ظاهر الأمر ضالون، لأنهم أخفوا بعضاً من أصول الشريعة التى نزلت عليهم، حين جاء موسى بالألواح، واستبقوا فقط، ما اعتقدوا أنه فى مصلحتهم. فكانوا هم الضالين بظواهرهم المسبِّحين لله ببواطنهم وحقيقة ديانتهم.. وكذلك المسيحيون، الذين أخطأوا بقولهم (الله هو المسيح) الآية، ولو قالوا إن المسيح هو الله، لما كانوا مخطئين فى الظاهر.
لأن الله المحيط والمتجلى بكل شىء، ولا يمكن لشىء واحدٍ أن يحدَّه، فلا يصح أن يقال «الله هو كذا أو كذا..» لأن الله تعالى هو كل شىء، وكل شىء يدلُّ عليه ولا يحيط به.
وقد كنت أود استكمال هذا الكلام، ببيان الرؤية الصوفية لليهودية والمسيحية تفصيلاً، وكيف تطرَّق «الخطأ فى الفهم» إلى أذهان الناس بصدد هاتين الديانتين، مع أن جوهر الديانتين فى الأصل صحيح.. وقد كنتُ أود تفصيل الكلام فى ذلك، ولكن ذلك يحتاج تبصُّراً واتساع أفقٍ..
ونحن نعلم أن نفوس بعض المتأقبطين هذه الأيام، مهتاجةٌ متوترةٌ. والهياجُ والتوترُ يعوق التبصُّر. فدعونا ننتظر قليلاً، لعلَّ الله يُحدث من بعد ذلك أمراً! ومن أراد تعرف ذلك، فليرجع إلى مؤلفات ابن عربى، خاصةً (فصوص الحِكَم) وإلى كتاب عبدالكريم الجيلى: الإنسان الكامل فى معرفة الأواخر والأوائل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.