شاعت نظرية العقد الاجتماعى فى أوروبا فى القرن السابع عشر بفضل فيلسوفين إنجليزيين أحدهما هو توماس هوبز والآخر هو جون لوك. إلا أن بينهما اتفاقاً وافتراقاً. الاتفاق يكمن فى تحديد العلاقة بين الحاكم والشعب، وهى علاقة قائمة على تنازل كل فرد من أفراد الشعب عن بعض حقوقه لسلطة عامة من أجل تحقيق الأمن والأمان. أما الافتراق فهو قائم فى أن السلطة العامة، عند هوبز هى سلطة مطلقة، وبالتالى يكون من واجب الفرد الخضوع المطلق، ومن ثم يعيدنا هوبز مرة أخرى إلى الحق الإلهى للحاكم. أما لوك فإنه يقف ضد الحكم الإلهى للحاكم لأن المجتمع، فى رأيه، هو من صنع البشر وليس من صنع الله. والمقابل المصرى لجون لوك هو الشيخ على عبدالرازق الذى أصدر كتابه المأساوى واشتهر به وعنوانه «الإسلام وأصول الحكم» (1925) جاء فيه أن ثمة مذهبين فى مسألة الخلافة عند المسلمين، المذهب الأول أن الخليفة يستمد سلطانه من الله فى أرضه، ولذلك فإن الله نفسه هو الذى يختار الخليفة ويسوق الخلافة. وهذا المذهب فاش عند المسلمين. أما المذهب الثانى فهو القائل بأن الخليفة يستمد سلطانه من الأمة، إذ هى مصدر قوته. ثم يقول معقباً على هذين المذهبين: «مثل هذا الخلاف بين المسلمين فى مصدر سلطان الخليفة قد ظهر بين الأوروبيين وكان له أثر فعلى فى تطور التاريخ الأوروبى. ويكاد المذهب يكون موافقاً لما اشتهر به الفيلسوف «هوبز» من أن سلطان الملوك مقدس وحقهم سماوى. وأما المذهب الثانى فهو يشبه أن يكون المذهب نفسه الذى اشتهر به الفيلسوف «لوك». والجدير بالتنويه فى هذا القول أن على عبدالرازق يلفت الانتباه إلى أن ثمة تماثلاً بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية فى تناول مسألة الحكم المطلق. والجدير بالتنويه أيضاً أن على عبدالرازق آثر لوك على هوبز، لأن هوبز من أنصار الحق الإلهى للحاكم أو من أنصار الخلافة على حد التعبير الإسلامى. أما لوك فهو من معارضى الحق الإلهى أو من أنصار إنكار الخلافة. والسؤال بعد ذلك: ماذا حدث للشيخ على عبدالرازق؟ قدمت إلى مشيخة الجامع الأزهر عرائض وعليها إمضاء جمع غفير من العلماء بدعوى أن كتاب على عبدالرازق يحوى أموراً مخالفة للدين. ومن أهم هذه الأمور قول مؤلفه إن حكومة أبى بكر والخلفاء الراشدين من بعده رضى الله عنهم كانت لا دينية. وفى 12 أغسطس عام 1925 صدر حكم من شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين عالماً من هيئة كبار العلماء إخراج الشيخ على عبدالرازق من زمرة العلماء وطرده من وظيفته وعدم أهليته للقيام بأى وظيفة عمومية دينية كانت أو لا دينية. وفى 20 أغسطس عام 1925 أيد زعيم الأمة سعد زغلول قرار هيئة كبار العلماء قائلاً: «لقد قرأت للمستشرقين ولسواهم فما وجدت ممن طعن منهم فى الإسلام حدة كهذه الحدة فى التعبير على نحو ما كتب الشيخ على عبدالرازق». ومغزى عبارة سعد زغلول تكمن فى ألا فرق بين الإخوان المسلمين والوفد فى مسألة ضرورة الخلافة، ولهذا كان من المشروع تحالف الوفد الجديد برئاسة فؤاد سراج الدين مع الإخوان المسلمين وقد جاءت المادة الثانية من الدستور التى تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع معبرة عن ضرورة الخلافة وضرورة الحق الإلهى للحاكم. والسؤال بعد ذلك: ما الفارق بين جون لوك والشيخ على عبدالرازق مع أنهما معاً ضد الحق الإلهى للحاكم؟ أصبح لوك هو المنظر الأساسى للعلمانية فى أوروبا فى ضوء نظرية العقد الاجتماعى المكون الثانى لرباعية الديمقراطية والذى يأتى فى المرتبة الثانية بعد المكون الأول وهو العلمانية. أما الشيخ على عبدالرازق فقد أصبح الخائف الأساسى من ذكر كتابه إلى الحد الذى هدد فيه بإقامة دعوى قضائية ضد كل من يجرؤ على طبع كتابه ونشره، وأصبحت وسائل الإعلام والمؤسسات الحكومية والنقابات المهنية فى خدمة حركة الإخوان المسلمين التى تدعو إلى التأسيس الدينى للمجتمع والدولة والوطن، ومصادرة الفكر الذى يدعو إلى النقيض من هذا التأسيس، وهو العلمانية وما يلازمها من نظرية العقد الاجتماعى على نحو ما جاءت عند جون لوك أو على عبدالرازق.