كان واحد من مشاهير المتفلسفين المحدثين هو «لودفيج فتجنشتين» يقول إن اللغة هى رسم للعالم، أو هى بعبارة أوضح، العالم مرسوماً فى أذهاننا بالألفاظ، ومع أن هذه الفكرة، كانت الأساس الذى قامت عليه الفلسفة المعروفة باسم «الوضعية المنطقية» إلا أنها سرعان ما اهتزت وتداعت، مع إدراك أن العالم يظل دوماً: أعمق من اللغة المعبرة عنه، ومع الانتباه إلى أن المفردات اللغوية مهما كانت دقيقة، فسوف يظل رسمها للعالم غير دقيق، ولذلك اتجهت العلوم المعاصرة إلى التعبير عن محتواه بالرموز والمصطلحات والاختصارات، التى تنأى باللغة العلمية عن المجاز، وتسعى بها نحو التجريد والإيجاز.. وهو ما حدث أيضاً فى ميدان «المنطق»، الذى صاغه للمرة الأولى الفيلسوف اليونانى القديم «أرسطو» فكان مرتبطاً عنده باللغة اليونانية، ثم تطورت المباحث المنطقية، حتى انتهت إلى ما يُعرف اليوم بالمنطق الرمزى الذى يستغنى بالرموز والمصطلحات والاختصارات عن العبارات والصيغ اللغوية المجازية، القابلة بطبعها للتأويل. وكان واحد من مشاهير اللغويين العرب القدامى هو «ابن جنى» يقول إن اللغة بحسب التعريف والحد هى: أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم.. وهو تعريف يتضمن أن الغرض من «اللغة» هو التعبيرعن الغرض المراد التعبير عنه، وبالتالى فإن كل لغة هى مثل كل لغة، فلا تفضل واحدة من اللغات على الأخرى، لأنها جميعها «وسائل اتصال» بين أولئك أو هؤلاء، يعبرون بها عن «الأغراض» التى يودون التعبير عنها. فماذا عن اللغة الصوفية؟ أو بالأحرى: ماذا عن مشكلة اللغة عند الصوفية المسلمين؟ وهل استطاعوا أن يرسموا بها هذا العالم السحرى «الرؤياوى» الذى عاينوه فى مسيرتهم الروحية ومشاهداتهم الذوقية؟ أم اصطدم عندهم المعنى الواسع بحدود اللفظ الضيق؟ وكيف انفلتت منهم العبارات التى سُميت لاحقاً الشطحات؟ وما ثمن الشطح، وما معناه، وما السبيل الذى سار عليه الصوفية للخروج من مأزق الشطح وأزمة اللغة؟ تلك هى الأسئلة الأساسية، التى يسعى هذا المقال للاقتراب منها.. وفى ذلك نقول والله المستعان. ■ ■ ■ لم يشهد القرن الهجرى الأول، أى مشكلات تتعلق بالتعبيرات والأقوال الصوفية، لأن «التصوف» ذاته لم يكن آنذاك قد تشكل قوامه ففى هذا الوقت المبكر من حياة المسلمين، كانت «الدولة» هى القضية الكبرى التى تشغل الأذهان، وكانت التجارب الروحية تتم فى إطار محدود جداً، وتعبر عن نفسها من خلال «أنماط أولية» مثل تلك التى عرفناها فى جماعة «أهل الصفة»، الذين انقطعوا للعبادة فى المسجد النبوى، أيام النبى.. أو فى جماعة «الزهاد» الذين هجروا المتاع الدنيوى الزائل، الذى عربدت مظاهره فى زمن الأمويين وأمرائهم المشهورين باللهو والمجون.. أو فى جماعة «المرابطين» الذين تركوا المدن والحواضر المترعة بالترف، وارتضوا العيش المتقشف فى الثغور والأطراف الحدودية لدولة الإسلام. لم يكن التصوف، إذن، قد اتخذ فى القرن الهجرى الأول قوامه المعروف ومقامه المتعارف عليه، ولم تكن ملامحه نفسها قد تحددت بعد آنذاك.. ولما انتصف القرن الهجرى الثانى، وتأسست الدولة العباسية ثم استقرت فى عاصمة الخلافة «بغداد» وأقرت بعد حين من استقرارها مظاهر ترف وبذخ ولهو لم يكن للمسلمين بها سابق عهد، عاهد الزهاد المسلمون أنفسهم على التوغل فى آفاق التجربة الروحية، وكأنهم يعيدون «التوازن» الذى اختل مع الغرق العباسى فى الملذات. ومع نهاية القرن الهجرى الثانى ودخول القرن الثالث، كانت ملامح «التصوف» قد راحت تتحدد شيئاً فشيئاً، وصارت التجارب الروحية تنتظم فى أطر معترف بها فى المجتمع الإسلامى، بل مُرحب بها ومندوب إليها، على اعتبار أنها المعبر الأول عن صفاء الإيمان وصدق التدين وحقيقة الولاية. وفى ذاك الزمان، ظهر أولياء الله أوقفوا حياتهم على محور الروح، وانجذبوا بقلوبهم نحو الرحاب الإلهى، وهجروا الدنيا قلباً وقالباً. فلما حدقوا فى مرآة نفوسهم، وقد تجلت على صفحتها آيات (الذات الإلهية) عبر تجليات لا يبلغها الإحصاء، صارت للصوفية مشاهدات خاصة، ورؤى روحية، استقلوا بها عن بقية المسلمين.. وأرادوا التعبير عن أحوالهم هذه، بالمعتاد من المفردات، فشطحوا! وقد شهد القرن الثالث الهجرى، والرابع أيضاً، كثيراً من شطحات الصوفية وعباراتهم الغريبة الدالة على أنهم يستعملون اللغة العادية، للتعبير عن رؤى غير معتادة وغير معترف بها عند أهل زمانهم. وقد اشتهر بالشطح واحد من كبار الأولياء فى القرن الثالث الهجرى، هو البسطامى (أبويزيد، طيفور بن عيسى، المتوفى 261 هجرية)، الذى نقل عنه المؤرخون عجائب العبارات، وبدائع الشطحات، التى سنذكر طرفاً منها بعد قليل. لكن البسطامى لم يكن أول الذين شطحوا، فقد سبقه إلى ذلك متصوفون ومتصوفات من أمثال رابعة العدوية. وشطح بعده آخرون، من أمثال الحلاج (أبى المغيث، الحسين بن منصور، المقتول ببغداد سنة 309 هجرية) والشبلى (أبى بكر، دلف بن جحدر، المتوفى سنة 334 هجرية).. وقبل أن نورد بعضاً من هذه الشطحات، علينا أن نوضح المقصود بالشطح. فى فصيح اللغة العربية، الشطح هو الذهاب إلى بعيد! وهو يقترب من لفظه ومعناه، من «الشطط» الذى هو بحسب تعريف ابن منظور فى معجمه الشهير (لسان العرب): مجاوزة القدر والجور فى الحكم، فيقال «اشتط الرجل فيما يطلب» إذا لم يقتصد.. وقد اشتط الصوفية المبكرون فى عباراتهم التى سعوا بها إلى البوح عن مشاهداتهم ورؤاهم، كما سنرى بعد قليل.. أما فى التعريف الصوفى المتأخر، فإن الشطح هو: أقوال أو عبارات عليها رائحة رعونة واندفاع، يكون ظاهرها مستبشعاً، لكن باطنها صحيح مستقيم.. والدافع إلى الشطح، هو محاولة التعبير عن معان بالغة الدقة بمفردات شديدة العمومية. ولذلك، أدهشت (الشطحات) الناس فى ذاك الزمان، على الرغم من حسن اعتقادهم فى «ولاية» هؤلاء الشاطحين، وعلى الرغم من صبرهم على شطحاتهم الغريبة.. ولكن الصبر له حدود! اعتقد معاصرو «رابعة العدوية» فى صلاحها وعمق إيمانها وحسن مقصدها، لكن بعض كلامها كان يصدمهم، فيسكتون عنه، فمن ذلك ما تناقله الناس عنها من أنها حين ذهبت للحج، وبدت لها الكعبة التى يطوف حولها الحجاج المسلمون، قالت: ما هذا الوثن المعبود فى الأرض؟.. والغريب أن معاصرى رابعة لم يثوروا عليها بسبب صدور هذا القول «الشاطح» عنها! والأغرب أن فقيهاً شهيراً جاء بعدها بقرابة خمسة قرون، وعرف بتشدده، هو الإمام أحمد بن تيمية «المتوفى 728 هجرية» ينزه رابعة عن نسبة هذا القول إليها، ويبرره بأن المسلمين لا يعبدون الكعبة، وإنما يعبدون الله بالطواف حولها. وكان إمام آخر، لا خلاف حول مكانته عند المسلمين، هو أبوالقاسم الجنيد «المتوفى 298 هجرية» قد تأول أيضاً شطحات رابعة العدوية، وأوجد لها وجوهاً مقبولة شرعاً، على الرغم من صعوبة هذه الغاية، نظراً لوعورة شطحاتها.. فمن المشهور من شطحات «رابعة العدوية» أنها قالت: ما عبدته خوفاً من ناره ولا طمعاً فى جنته، فأكون كأجير السوء إذا عمل سارع إلى طلب الأجر.. وقالت: يارب، أما كان لك عقوبة ولا أدب، غير النار.. وحين سمعت الآية القرآنية «إن أصحاب الجنة اليوم فى شغل فاكهون»، التى تعنى أن أهل الجنة يفتضون أبكار الحور العين، قالت: مساكين أهل الجنة، فى شغل هم وأزواجهم. ومن شطحات أبى يزيد البسطامى، قوله: الجنة فى الحجاب الأكبر، لأن أهل الجنة سكنوا إلى الجنة، ولكل من سكن إلى ما سوى الله، فهو محجوب بما سكن إليه.. وقوله: إن لله من خواص عباده طائفة، لو حجبهم فى الجنة عن رؤيته ساعة، لاستغاثوا كى يخرجوا من الجنة، مثلما يستغيث أهل النار للخروج من النار.. وقوله: من عرف الله صار للجنة ثواباً، وصارت الجنة عليه وبالاً! ومن أشد الشطحات التى رويت عن البسطامى، أنه قال: رفعنى الله إليه مرة، فأقامنى بين يديه وقال لى يا أبا يزيد إن خلقى يحبون أن يروك، فقلت: زينى بوحدانيتك، وألبسنى أنانيتك، وارفعنى إلى أحديتك، حتى إذا رآنى خلقك قالوا رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هناك.. وهذه الشطحة سوف تكون الأساس المبكر لما سوف يعرف لاحقاً فى الأدب الصوفى بنصوص «الخطاب الفهوانى»، وهى النصوص العجيبة التى منها كتاب محمد بن عبدالجبار النفرى: المواقف والمخاطبات. ومنها رسالة الإمام عبدالقادر الجيلانى (المتوفى 561 هجرية)، التى نسبت أيضاً للشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى (المتوفى 638 هجرية) وعنوانها: «الغوثية». ومن شطحات البسطامى المشهورات الدالة على طبيعة (الشطح) عموماً، قوله: أول ما صرت إلى وحدانيته، صرت طيراً جسمه من الأحدية، وجناحاه من الديمومية، فلم أزل أطير فى هواء الكيفية عشر سنين حتى صرت إلى هواء (سماء) مثل ذلك (الذى نعرفه) مائة ألف مرة، فلم أزل أطير إلى أن صرت فى ميدان الأزلية، فرأيت فيها شجرة الأحدية، فنظرت، فعلمت أن هذا كله خدعة.. وقوله: أشرفت على ميدان الليسيه، فما زلت أطير فيه عشر سنين، حتى صرت من «ليس» فى «ليس» بليس، ثم أشرفت على التضييع حتى ضعت فى الضياع ضياعاً.. وقوله: ضربت خيمتى بإزاء العرش! ولم ينقم معاصرو البسطامى عليه بسبب شطحاته، لكن معاصرى الحلاج قتلوه بسبب شطحه، قتلة شنيعة. أو حسبما أشرت فى مقالى السابق، فقد قتله حكام وفقهاء زمانه لأسباب سياسية، متعللين فى ذلك ومعللين له، بما روى عن الحلاج من (شطحات) كقوله: ما فى الجبَّة إلا الله!.. وقوله شعراً: مزجت روحك روحى كما تمزج الخمر بالماء الزلال. ويدل على أن مقتل الحلاج لم يكن فى الحقيقة بسبب شطحاته، أن معاصره وصديقه (الشبلى) رويت عنه شطحات لا تقل رعونة ولا غرابة فى المعنى، لكن ذلك لم يأخذ بالشبلى إلى حتفه. وقد تحايل معاصروه على الأمر، بأن قبلوا فكرة أنه (مجنون) فأودعوه مستشفى الأمراض العقلية (بيمارستان المجانين) حتى مات ميتة طبيعية، بعد صلب الحلاج بخمسة وعشرين عاما، ظل الشبلى خلالها يردد: أنا والحلاج شىء واحد، فأهلكه عقله وخلَّصنى جنونى! وكان من شطحات الشبلى أنه قال: أنا الوقتُ، ووقتى عزيزٌ، وليس فى الوقت غيرى.. وقال: أنا أقولُ وأنا أسمع، فهل فى الدارين غيرى؟.. وقال: لو دبَّتْ نملةٌ سوداء على صخرة صماء فى ليلة ظلماء، ولم أشعر بها، لقلت إنه ممكورٌ بى.. وقال: لو خطر ببالى أن الجحيم بنيرانها وسعيرها تحرق منى شعرة، لكنت مشركاً.. وإن مرَّ بخاطرى ذكر جبريل وميكائيل، فقد أشركتُ. ■ ■ ■ واختفى «الشطح» من تاريخ التصوف، بعد القرن الرابع الهجرى، بعدما دفع الصوفية ثمناً باهظاً للشطحات، تدرَّج من التجاهل التام إلى القتل. فكان من قتلى الصوفية آنذاك، غير الحلاج، عين القضاة الهمذانى، ومن بعده شيخ الإشراق، شهاب الدين السهروردى.. وهؤلاء جميعاً دفعوا حياتهم ثمناً لأقوالهم الشاطحة. أو بعبارة أدق، حكم عليهم بالقتل، لأنهم تفوهوا بين أهل زمانهم بعبارات مستهجنة. وقد ارتبط اختفاء الشطح بالتطور التدريجى لأساليب التعبير الصوفى شعراً ونثراً وباستقرار المصطلح الصوفى واللغة الرمزية والمفردات الموحية. وهو ما قاد الصوفية فى نهاية الأمر إلى ابتكار نوع أدبى خاص، شعرى ونثرى، صار يعرف لاحقاً بالأدب الصوفى. وهو اللون الأدبى الذى سنتوقف عنده فى مقال الأسبوع المقبل.. أما الآن، فلنختتم الكلام بالإلماح إلى أن د. عبدالرحمن بدوى، كان قد أفرد واحداً من مؤلفاته التى زادت على المائة، لمناقشة وتحليل هذه الظاهرة.. وهو كتابه المعنون صراحةً ب(شطحات الصوفية) وقد أحسن فيه صنعاً، حين استهله بتلك الأبيات الشعرية البديعة، التى قالها عزُّ الدين المقدسى معبراً بها عن حال (الأولياء)، الذين اضطرتهم المشاهدات الروحية إلى الشطحات الصوفية: أباحتْ دمى إذ باح قلبى بحبِّها وحَلَّ لها فى حُكمها ما استحلَّتِ وما كنتُ مَمَّن يُظهر السِّرَّ إنما عروسُ هواها فى ضميرى تجلَّتِ فألقتْ على سرى أشعةَ نورها فلاحتْ لُجلاَّسى خفايا طويتى فإن كنتُ فى سُكرى شطحتُ فإننى حكمتُ بتمزيق الفؤاد المفتَّتِ ومن عجبٍ أن الذين أُحبُّهم وقد علَّقوا أيدى الهوى بأعنَّتى سقونى وقالوا لا تغنِّ ولو سقوا جبالَ حُنين ما سقونى لغنَّتِ