اللواء الجريدلي يكتب ل«المصري اليوم»: تأتى الذكرى التاسعة والثلاثون لحرب 6 أكتوبر 1973 المجيدة ولا تغيب أحداثها وظروفها وانتصاراتها عن كل من عاصرها ومن لم يعاصرها، ولتمثل نموذجاً رائعا لإرادة الشعب المصرى العظيم فى أن يقهر المستحيل، وأن يحقق نقطة تحول فارقة فى الانتصار على غطرسة القوة العسكرية الإسرائيلية التى كانت تصفها إسرائيل بأنها لا تقهر. لقد ذكر المؤرخ العسكرى الأمريكى «تريفور ديبوى»-رئيس مؤسسة هيرو للتقييم العلمى للمعارك التاريخية بواشنطن- فى الندوة الدولية عن حرب أكتوبر التى عقدت بالقاهرة فى الفترة من 27-31 أكتوبر 1975 أنه ليس هناك شك من الوجهة الاستراتيجية والسياسية فى أن مصر قد كسبت الحرب، وأن كفاءة الاحتراف فى التخطيط والأداء التى تمت بها عملية العبور لم يكن ممكنا لأى جيش آخر فى العالم أن يفعل ما هو أفضل منها، ولقد كانت نتيجة هذا العمل الدقيق من جانب أركان الحرب، وعلى الأخص عنصر المفاجأة الذى تم تحقيقه هو ذلك النجاح الملحوظ فى عبور قناة السويس على جبهة عريضة. لقد فشلت المخابرات الإسرائيلية فشلا ذريعاً حيث تركز نشاط المخابرات العسكرية على النوايا المعادية، بينما تم تجاهل القدرات المعادية، لأنها لم تكن فى الحسبان، وأدى الخطأ فى حساب القدرات العربية إلى نظريات خاطئة حول النوايا العربية، ومن جانب آخر يجب إعطاء فضل كبير إلى الأمن العربى والسرية التى حجبت الحقائق بقدر يكفى لتأكيد المفاهيم الإسرائيلية الخاطئة المسبقة، لقد خاض المصريون الحرب البحرية فى جوهرها بأسلوب إستراتيجى، وخاضها الإسرائيليون بأسلوب تكتيكى، فرض المصريون حصاراً ناجحاً على حركة الملاحة إلى ميناء إيلات. وذلك بإغلاق مضيق باب المندب، ويبدو أن حصارهم فى البحر المتوسط منع معظم السفن المحايدة والإسرائيلية من الاقتراب من الشاطئ الإسرائيلى، لقد فشلت محاولات إسرائيل بالجبهة الجنوبية فى دلتا النيل فشلاً ذريعاً فى تدمير قواعد الطيران المصرى بفضل فاعلية الدفاع المصرى، وحينما قرر الإسرائيليون أيضاً محاولة الاستيلاء على مدينة السويس، ورغم أن دباباتهم توغلت إلى قلب المدينة كانت المقاومة عنيفة جداً لدرجة أجبرتهم على الانسحاب بعد أن أصيبوا بخسائر كبيرة، كما قال الجنرال الفرنسى أندريه بوفر «أن النجاح العظيم الذى حققه العرب فى هجومهم يوم 6 أكتوبر إنما يكمن فى أنهم حققوا تأثيرا سيكولوجيا هائلا فى معسكر الخصم وفى المجال العالمى كذلك»، فى الوقت الذى أعلن فيه «موشى ديان»- وزير الدفاع الإسرائيلى خلال الحرب. وفى التاسع من أكتوبر: «إن الحرب قد أظهرت أننا لسنا أقوى من المصريين، وأن هالة التفوق والمبدأ السياسى والعسكرى القائل بأن إسرائيل أقوى من العرب وأن الهزيمة ستلحق بهم إذا اجترأوا على بدء الحرب، هذا المبدأ لم يثبت، لقد كانت لى نظرية فى أن إقامة الجسور ستستغرق منهم طوال الليل وأننا نستطيع منع هذا بمدرعاتنا ولكن تبين لنا أن منعهم ليست مسألة سهلة، وقد كلفنا جهدنا لإرسال الدبابات إلى جبهة القتال ثمناً غالياً جداً، فنحن لم نتوقع ذلك مطلقا». وهو ذاته الذى قال فى ديسمبر 73: «إن حرب أكتوبر كانت بمثابة زلزال تعرضت له إسرائيل وأن ماحدث فى هذه الحرب قد أزال الغبار عن العيون، وأظهر لنا مالم نكن نراه قبلها، وأدى كل ذلك الى تغير عقلية القادة الإسرائيليين»، عشرات التصاريح التى صدرت من العدو قبل الصديق التى كانت تشيد بالجانب المصرى وما حققه من انتصار سجلها التاريخ ليكون درسا تنهل منه الأجيال المتعاقبة.. لقد أصبحت حرب أكتوبر 73 تمثل النموذج الأبرز والأكثر نجاحاً إزاء كيفية نجاح مصر فى توفير وحشد محصلة قدراتها الشاملة بجوانبها البشرية والعسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمعلوماتية والعلمية والتكنولوجية والإعلامية والمعنوية فى منظومة رائعة، ولتتكامل أيضا مع استثمار مقومات القوة العربية، لصالح تحرير أرض سيناء الغالية. وبالتالى التأكيد على عدم التفريط إطلاقا فى تأمين كيان الدولة، حيث نجحت مصر فى تغيير معادلة القوة الشاملة فى وقت استمرت فيه إسرائيل حبيسة صورتها الذهنية الخاطئة عن الواقع المصرى الذى تغير تماما وأصبح مستعدا لخوض حرب الشرف والكرامة، وهنا يأتى تصريح «أبا ابيان» -وزير خارجية إسرائيل- فى نوفمبر1973 «لقد طرأت متغيرات كثيرة منذ السادس من أكتوبر لذلك ينبغى ألا نبالغ فى مسألة التفوق العسكرى الإسرائيلى بل على العكس فإن هناك شعوراً طاغياً فى إسرائيل الآن بضرورة إعادة النظر فى علم البلاغة الوطنية، وعلينا أن نكون أكثر واقعية وأن نبتعد عن المبالغة). ثم يأتى تصريح «أهارون ياريف»- مدير المخابرات الإسرائيلية الأسبق- فى ندوة عن حرب أكتوبر بالقدس فى 16-9- 1974 «لاشك أن العرب قد خرجوا من الحرب منتصرين بينما نحن من ناحية الصورة والإحساس قد خرجنا ممزقين وضعفاء، وحينما سئل السادات هل انتصرت فى الحرب أجاب أنظروا إلى مايجرى فى إسرائيل بعد الحرب وأنتم تعرفون الإجابة عن هذا السؤال».. إننا حينما نطبق المفهوم العلمى المعاصر حاليا لمفهوم الأمن القومى للدولة نجد أنه يرتكز على سعى كل جهات الدولة المعنية لتوفير القدرة بمفهومها الشامل، لصالح تأمين كيان الدولة وحماية مصالحها الحيوية، فى مواجهة أى تهديدات ومخاطر، وبشكل يتسق مع تحقيق الغاية القومية للدولة، وهنا نجد أن هذا ما طبقته بالتحديد ملحمة حرب أكتوبر 73، وبالتركيز سواء على وضوح الهدف والإيمان الكامل به وما ترتب عليه من تخطيط جيد أو بالأهمية البالغة بتوظيف محصلة القدرة الشاملة المصرية وأيضا العربية بما يتوافق مع احتياجات وأولويات تحقيق أهداف الحرب العسكرية والسياسية والسيكولوجية. ولاشك، ونحن نقوم بتقييم الأداء المصرى خلال حرب أكتوبر المجيدة بعد هذه الفترة الطويلة فإننا نكتشف أبعاداً متجددة لهذه الحرب، حيث يتضح أهمية ما تم من جهد متواصل لإعداد الدولة للدفاع والحرب وباستثمار رائع لمحصلة القدرة الشاملة، وليتم تحويلها من مجرد كونها «قدرات» إلى صهرها جميعا فى «قوة»، وبمعنى آخر الحرص على التلاحم عند وضع استراتيجية الدولة من جانب والاستثمار الجيد لمحصلة القدرة الشاملة التى وفرتها مختلف جهات ومؤسسات الدولة، وهو ما أصبح يعبر عنه فى الفترة المعاصرة فى العلوم الاستراتيجية الحديثة بمصطلح «استراتيجية الأمن القومى للدولة» لأنه كيف يتم تنفيذ إستراتيجية ما دون توافر قدرات، وهذا بحق ما نستطيع أن نذكره بكل اعتزاز عن حرب أكتوبر 73، والتى سبقت عصرها، وحتى يمكن توضيح هذه النقطة فإن الأمن القومى للدولة يجب ألا يغيب عنه أبداً أن يتسق فى حركته مع تحقيق الغاية القومية للدولة والتى من ركائزها الرئيسية «البقاء والحرية والرفاهية» وهى ما ترجمها شعب مصر العظيم فى ثورة 25 يناير «العيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية». ويلى ذلك تحويل هذه الغاية القومية إلى أهداف قومية نوعية «عسكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها»، ثم يتم الارتكاز عليها لوضع السياسات فالخطط النوعية أيضاً والتى تتم بلورتها فى استراتيجيات نوعية يمكن من خلال تطبيقها تحقيق الأهداف القومية للدولة، وهنا تتأتى ثمار محصلة القدرة الشاملة التى تم توفيرها من جانب الجهات العاملة فى مجال الأمن القومى والتى بدونها لا يمكن إخراج هذه الاستراتيجيات إلى واقع فعلى، ودون أن نغفل أنه فى مرحلة الإستراتيجيات يتم صهر «محصلة القدرة الشاملة للدولة» لتصبح «قوة» موحدة الاتجاه، ومرتكزة على إرادة سياسية، ومقومات من التنسيق، والتعاون، والتكامل، وتطوير الطاقات البشرية المصرية فى جبهتيها الداخلية والعسكرية، بالتدريب المستمر، والإعداد الجيد المتكامل الأبعاد للجندى المقاتل، واستيعاب لجوانب المعرفة العلمية، وتطبيقاتها التكنولوجية. لقد تسلحنا فى حرب أكتوبر بإيمان لا يتزعزع بحقنا المشروع فى تحرير الأرض، واستخدمنا كل فنون المبادأة والمفاجأة سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا وبشريا، وحرصنا على التكامل المدنى والعسكرى فى الأداء بشكل أذهل العالم، والتحلى بمعنويات عالية شكلت عاملا فارقا فى مقارنات القوة لنتجاوز بها ماحدث من انهيار معنوى كامل بعد حرب يونيو 67، ولقد أشار المؤرخ العسكرى البريطانى «إدجار أو بالانس» عن ذلك البعد فى الندوة الدولية عن حرب أكتوبر بالقاهرة خلال الفترة من 17-31 اكتوبر 1975 بقوله «فوجئت فى حرب أكتوبر بالجنود العرب يحطمون القيود ويقهرون الإسرائيليين ويأسرون المئات منهم ويسقطون المئات من طائراتهم، ويدمرون المئات من دباباتهم وخلاصة القول أن الجنود العرب قضوا على أسطورة السوبرمان الإسرائيلى الذى لايقهر، وتنطبق على العرب الحكمة التى قالها نابليون وهى أن النسبة بين الروح المعنوية والعتاد الحربى تبلغ ثلاثة إلى واحد. مثلت حرب أكتوبر نقطة تحول فى تاريخ الشرق الأوسط إذا نظرنا إليه قبلها وبعدها، إذ إن أشياء كثيرة فى المجالين العسكرى والاستراتيجى لن تعود أبدا إلى ماكانت عليه قبل هذه الحرب والتى كانت سببا فى إعادة تقييم الاستراتيجيات القومية والدولية».. لقد آمن جيل أكتوبر 73 إيمانا كاملا بقول الله عز وجل فى كتابه الكريم (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِى سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) سورة الأنفال «60»، فلننظر ونتدبر دلالات كلمة «قوة» وليس «قدرة»، وما تعنيه كلمة «قوة» من عدم اقتصارها على القوة العسكرية فقط وإنما لتعنى محصلة القوة الشاملة «السياسية والعسكرية والاقتصادية والمعنوية وغيرها»، ثم دلالة «رباط الخيل» وليس «الخيل» فقط، آيات محكمات تشكل الركيزة الحقيقة لكل من يريد أن يسترد حقه المشروع المسلوب. لقد أوضحت العلاقة بين تحقيق الانتصار فى حرب أكتوبر وتوفير محصلة القوة الشاملة للدولة، ارتكاز أمة عريقة على محكم آيات الله سبحانه وتعالى والتى مثلت مفتاح النصر لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لأمة بأسرها حشدت محصلة قوتها الشاملة لتتخطى محنة هزيمة 67 لنصر أكتوبر 73 المجيد.. لقد جاء فى مذكرات «حاييم هيرتزوج» رئيس إسرائيل الأسبق «إن حرب أكتوبر قد انتهت بصدمة كبرى عمت الإسرائيليين، ولم يعد موشى ديان كما كان من قبل وأنطوى على نفسه منذ ذلك الحين، لقد كان دائما على قناعة بأن العرب لن يهاجموا وليس فى وسعهم أن يهاجموا، وحتى فى غمرة الاختراق المصرى لم يعترف ديان بخطأ تحليلاته، لقد أصبح ديان شخصية على طراز هاملت يمزقه الشك والتردد والعجز عن إنجاز القرار وفرض إرادته، وكانت تلك الحرب بداية النهاية لحكومات حزب العمل التى حكمت إسرائيل لمدة 25 سنة، وذلك مثلما كانت الحرب سببا فى إحداث تغييرات فكرية فى عقلية القيادة الإسرائيلية التى بدأت تبحث عن طريق جديد وسياسة واقعية فى التعامل مع المشكلة عبر الحلول السياسية»، كما جاء فى تعليقاته أيضا على نتائج حرب أكتوبر «لقد تحدثنا أكثر من اللازم قبل السادس من أكتوبر وكان ذلك يمثل إحدى مشكلاتنا، فقد تعلم المصريون كيف يقاتلون بينما تعلمنا نحن كيف نتكلم، لقد كانوا صبورين كما كانت بياناتهم أكثر واقعية منا، كانوا يقولون ويعلنون الحقائق تماما حتى بدا العالم الخارجى يتجه إلى الثقة بأقوالهم وبياناتهم». لقد أحدثت حرب أكتوبر «صدمة نفسية» ضخمة لدى إسرائيل أسفرت عن واقع جديد فى التعامل مع مصر «الجديدة»، وفى هذا الخصوص فقد أشار «ناحوم جولدمان» رئيس الوكالة اليهودية الأسبق فى كتابه «إلى أين تمضى إسرائيل»: «إن من أهم نتائج حرب أكتوبر 1973 أنها وضعت حدا لأسطورة إسرائيل فى مواجهة العرب، كما كلفت هذه الحرب إسرائيل ثمنا باهظا، وأحدثت تغييراً جذرياً فى الوضع الاقتصادى فى إسرائيل التى انتقلت من حالة الازدهار التى كانت تعيشها قبل عام، إلى ظهور أزمة بالغة العمق كانت أكثر حدة وخطورة من كل الأزمات السابقة، غير أن النتائج الأكثر خطورة كانت تلك التى حدثت على الصعيد النفسى، لقد انتهت ثقة الإسرائيليين فى تفوقهم الدائم، كما اعترى جبهتهم المعنوية الداخلية ضعف هائل وهذا أخطر شىء يمكن أن تواجهه الشعوب وبصفة خاصة إسرائيل، وقد تجسد هذا الضعف فى صورتين متناقضتين أدتا إلى استقطاب إسرائيل على نحو بالغ الخطورة، فمن ناحية كان هناك من بدأوا يشكون فى مستقبل إسرائيل، ومن ناحية أخرى لوحظ تعصب وتشدد متزايد يؤدى إلى ما يطلق عليه اسم عقدة الماسادا «القلعة التى تحصن فيها اليهود أثناء حركة التمرد اليهودية ضد الإمبراطورية الرومانية، ولم يستسلموا وماتوا جميعا».. تحية إعزاز وتقدير لشعب مصر ولجنوده البواسل ولتضحياته بكل غالٍ ونفيس فى سبيل تحرير الأرض وصون الشرف والكرامة، تحية إكبار لشهداء مصر الأبرار الذين افتدوا مصرنا الغالية بدمائهم الطاهرة التى ارتوت بها أرض سيناء العزيزة، الذين أرغموا العالم أجمع على احترام «المصرى» وتدريس ملحمته فى حرب أكتوبر فى كل المعاهد العسكرية والاستراتيجية الدولية، تحية إكبار واعتزاز وفخر لوالدى اللواء حسن الجريدلى- رحمة الله عليه- والذى أفنى حياته فى خدمة بلده وكان أحد القادة العسكريين فى حرب أكتوبر المجيدة. ولعلنى أجد فيما أشار إليه «زئيف شيف»- المعلق العسكرى الإسرائيلى- فى كتابه الشهير «زلزال أكتوبر- حرب يوم عيد الغفران» تعبيراً يعكس صدق التقييم لحرب أكتوبر 1973، حيث أشار «تقول الحكومة البريطانية كلما كان الصعود عالياً كان السقوط قاسياً، وفى السادس من أكتوبر سقطت إسرائيل من أعلى برج السكينة والاطمئنان الذى كانت قد شيدته لنفسها، وكانت الصدمة على مستوى الأوهام التى سبقتها قوية ومثيرة، وكأن الإسرائيليون قد أفاقوا من حلم طويل جميل لكى يروا قائمة طويلة من الأمور المسلم بها والمبادئ والأوهام والحقائق غير المتنازع عليها التى آمنوا بها لسنوات عديدة، وقد اهتزت بل وتحطمت فى بعض الأحيان أمام حقيقة جديدة غير متوقعة وغير مفهومة بالنسبة لغالبية الإسرائيليين، ومن وجهة نظر الرجل الإسرائيلى العادى يمكن أن تحمل حرب أكتوبر أكثر من اسم، مثل حرب الإفاقة من نشوة الخمر، أو انهيار الأساطير، أو نهاية الأوهام، أو موت الأبقار المقدسة، لقد كانت تقام عقب الحروب السابقة عروض عسكرية فخمة فى يوم الاستقلال تشاهد فيها الجماهير غنائم الحرب التى تم الاستيلاء عليها من العدو، أما فى هذه المرة فعلى العكس فقد أقيم معرض كبير فى القاهرة بعد مرور شهرين على الحرب. وفيه شاهدت الجماهير الدبابات والمدافع والعربات العسكرية وكثيراً من الأسلحة الإسرائيلية التى تم الاستيلاء عليها من العدو خلال الحرب، وفى المرات السابقة كان الجنود الإسرائيليون يعودون إلى ديارهم بعد تسريحهم وكانوا يذوبون فى موجة السعادة والفخر، أما هذه المرة فقد عادوا وقد استبد بهم الحزن والفزع، واحتاج الكثيرون منهم إلى التردد على قسم العلاج النفسى فى الإدارة الطبية التابعة للجيش نظرا لإصابتهم بصدمة قتال، هذه هى أول حرب للجيش الإسرائيلى يعالج فيها الأطباء جنودا كثيرين مصابين بصدمة القتال ويحتاجون إلى علاج نفسى، هناك من نسوا أسماءهم وهؤلاء كان يجب تحويلهم إلى المستشفيات، لقد أذهل إسرائيل نجاح العرب فى المفاجأة فى حرب يوم عيد الغفران وفى تحقيق نجاحات عسكرية، لقد أثبتت هذه الحرب أن على إسرائيل أن تعيد تقدير المحارب العربى فقد دفعت إسرائيل هذه المرة ثمنا باهظاً جداً، لقد هزت حرب أكتوبر إسرائيل من القاعدة إلى القمة، وبدلاً من الثقة الزائدة جاءت الشكوك، وطفت على السطح أسئلة، هل نعيش على دمارنا إلى الأبد، هل هناك احتمال للصمود فى حروب أخرى؟.