منذ بدأت محاولات كسر الحصار عن غزة بقيادة المناضل جورج جالاوى على مدار أكثر من عام، ويشارك فيها بعض اليهود من جميع أنحاء العالم، بل بعض رجال الدين منهم، وأنا أستنكر الهتاف الذى يردده البعض فى مظاهرات التأييد لشعب غزة المحاصر التى تردد (خيبر خيبر يا يهود) لأن هذا الهتاف يسىء إلى أصحاب القلوب الرحيمة والمشاعر الطيبة من اليهود غير الصهاينة الذين ضحوا بأموالهم وراحتهم فى سبيل نصرة القضية الفلسطينية، ومساعدة الإخوة المحاصرين فى غزة، ولأننا كمسلمين نحترم الأديان جميعا، ونؤمن بموسى وعيسى باعتبارهما نبيين ولا نفرق بين أحد منهما، وهذه ميزة وسماحة الإسلام التى يشوه صورتها بعض المتعصبين الإسلاميين. والحقيقة أن جميع الأديان السماوية تدعو إلى الرحمة والأخوة بين جميع البشر، وأن المتعصبين فى كل دين هم الذين يسيئون إلى الدين الذى يدينون به، فالكل يعرف أن المسيحية هى قمة التسامح والإسلام دين الفطرة الذى يتعامل مع الناس جميعا باعتبارهم أرواحاً إنسانية لا فرق بينها بسبب دين أو عقيدة أو لون أو جنس، لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى. والواقعة التى حكاها لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سيدنا إبراهيم الخليل لكى يعلمنا كيف نتعامل مع الناس جميعا بغض النظر عن معتقداتهم الدينية - تقول الواقعة إن سيدنا إبراهيم كان جالسا فى بيته ليلا وسمع طرقا على الباب فاستفسر عن الطارق فرد عليه رجل قائلا: «رجل غريب يطلب مأوى وطعاماً»، فسأله سيدنا إبراهيم عن ديانته فقال إنه يعبد أصناما، فنهره سيدنا إبراهيم ورفض أن يفتح له الباب وأمره بالانصراف وبعد أن انصرف الرجل عاتب الله سيدنا إبراهيم قائلا: «يا إبراهيم هذا الرجل أتحمله وأرزقه أنا لسنوات وهو يعبد غيرى ولا تتحمله أنت ليلة واحدة»، وهنا شعر سيدنا إبراهيم بالخطأ وفتح الباب وأسرع خلف الرجل يسترضيه ويطلب منه العودة، وهنا تعجب الرجل وقال له: «أمرك غريب أيها الرجل، منذ لحظة تطردنى والآن تسترضينى وترجونى أن أعود، فماذا حدث»، فقال له سيدنا إبراهيم: «إن ربى عاتبنى فيك»، فقال الرجل: «إن رباً يهتم بأمر إنسان لا يعبده أحق أن يُعبد» وأسلم الرجل. هذا هو الدين الإسلامى، ولا أعرف لِمَ نتصرف على غير التسامح الذى يأمرنا به الدين مع إخواننا الأقباط واليهود الذين لا يناصبوننا العداء ويتعاطفون معنا، من أين يأتون بهذه المعتقدات التى تسىء إلى الإسلام وتشوه صورته فى نظر الأديان الأخرى، ونسى هؤلاء قول الله سبحانه وتعالى: «لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ». (الآيتان 8 و9 - سورة الممتحنة). ونسى من يطلق شعار «خيبر خيبر يا يهود» أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحارب أهل خيبر إلا بعد نقضهم عهدهم معه ومظاهرتهم للمشركين عليه، كما تفعل إسرائيل الآن، أما قبل ذلك فكانوا يعيشون فى سلام مع أهل المدينة، والآيتان الكريمتان تحضاننا على عدم عداوة غير من يعادينا وعدم مصادقة من يعادينا كما تفعل حكومتنا الآن. الناشطة اليهودية البالغة من العمر خمسة وثمانين عاما التى أتت مع قافلة شريان الحياة الثالثة، وهى التى نجت من المحرقة النازية، ماذا سيكون شعورها وهى تسمع هذا الهتاف، وهى التى ما أتت إلا من أجل إنقاذ شعب مسلم محاصر يحاصره الصهاينة وإخوانه المسلمون. هذه السيدة المحترمة التى ضحت براحتها وسعادتها وتحملت ما لا يستطيع إنسان تحمله من مشقة فى سبيل مبادئ إنسانية تعلمتها فى صغرها من والديها اليهود الذين رفضوا الهجرة إلى إسرائيل.. هذه السيدة مكانها الطبيعى فى هذه السن إما سرير المرض فى أحد المستشفيات أو حتى دار المسنين، وعلى فرض أنها صحيحة ولها أهل تكون على فراشها بين أسرتها وأحفادها، هل يتحمل أحد منا ما تحملته هذه السيدة فى سبيل التعاطف مع الإخوة المحاصرين فى غزة، وزاد عليها ما لقيته هى وإخوانها من عنت من السلطة فى مصر فى سبيل الوصول إلى غزة، وإصرارهم على ذلك. لقد علمنا هؤلاء الناس درسا فى المبادئ والأخلاق وتحمل المشقة فى سبيل إرضاء الضمير الحى، تعبوا وضحوا براحتهم ووقتهم وأموالهم وصحتهم وتعرضوا للتعب والعنت والضرب من الشرطة المصرية والنوم فى الشارع وعلى الأرصفة، ونحن نراقبهم عن بُعد خشية التعرض لما يتعرضون له من قسوة رجال الشرطة، ويبدو أن الخوف قد نزع من قلوبنا الرحمة وأمات فينا الشهامة والرجولة. لا أعرف مدى نظرتهم إلينا وهم يشاهدوننا لا ننفعل ولا نتحرك ولا نقاوم الاستبداد الذى حولنا جميعا إلى عبيد لعصىّ الأمن المركزى وسجون أمن الدولة.. المظاهرات تعم الدنيا كلها إلا مصر والكثير من البلاد العربية. جورج جالاوى أصبح بعد الحملة الأخيرة لفك الحصار وما حدث فيها من «مخازى» من الحكومة المصرية – أصبح شخصا غير مرغوب فيه وسيمنع مستقبلا من دخول الأراضى المصرية، فى حين أن نتنياهو وإخوته من الصهاينة الملوثة أيديهم بدم المصريين والفلسطينيين يرتعون ويمرحون فى طول البلاد وعرضها، لا يُرد لهم طلب ولا يرفض لهم أمر، وآخر شىء كان السماح بإقامة مولد أبوحصيرة فى إحدى قرى دمنهور رغم وجود حكم قضائى يمنع هذا المولد، ثم تتشدق باحترام القضاء واحترام أحكامه واحترام السيادة المصرية. ما حدث لقافلة شريان الحياة الأخيرة قبل دخولها مصر وبعده أصابنا جميعا بالحزن والعار والخجل من أنفسنا. الخزى والعار لما حدث لهذه القافلة من وضع العراقيل فى سبيل الوصول إلى غزة دون أى مبرر، وما تعرض له القائمون عليها من إهانة وضرب وتعد أظهرنا أمام العالم بأن مصر هى من تفرض الحصار على غزة وليس إسرائيل، فى محاولات كسر الحصار الأولى عن طريق السفن، التى قام بها بعض النشطاء من أوروبا لعدة مرات لم يكن موقف إسرائيل منها عنيفاً كموقف مصر بل سمحت بمرورها ولم تضع العراقيل كما حدث فى مصر.. لقد شعر كل مصرى لديه ضمير يقظ بالخزى والحزن لعدم المشاركة فى هذه القافلة والوقوف إلى جوار هؤلاء الأجانب الذين أطلقوا نداء لكل ذى ضمير فى مصر أن يقف إلى جوارهم ويساعدهم فى أداء مهمتهم، ولا شك أنه لو أن الشعب فى مصر تحرك لشعرت الحكومة بالخوف مما تفعله ولما أقدمت على ما قامت به من أفعال مخجلة.. وفى النهاية لقد انفرد الغرباء بالثواب والفخر والعزة والشهامة والرجولة والضمير اليقظ وباء المصريون وحكومتهم بالخزى والعار والخوف وتلطخت أيدينا جميعا بدماء إخواننا فى غزة. قلت فى مقال سابق إن إخواننا الفلسطينيين فى غزة فى أزمة وشدة تحل لهم الحرام من الأكل وتجعل من الصعب محاسبتهم على تصرفاتهم لأن من يدافع عن حياته يباح له إتيان أى فعل مهما كان مجرما قانونا، وأنا فى اعتقادى أن الرصاصة التى أصابت الجندى المصرى إن كانت قد أتت من غزة فهى طلقة دفاع عن النفس وإن كنت أعتقد جازما فى هذه الظروف أنه لابد أن يكون لإسرائيل يد فيها، حيث إنها تتمنى أن تنشب الحرب بين مصر وفلسطين حتى تستريح هى من عناء حرب تكلفها المال والرجال والسمعة، وتريد أن تورط فيها مصر وهذا أمر اعتادت عليه إسرائيل واعتدناه نحن منها، وما أمر الإسرائيلى الذى كان يحاول إثارة نار الفتنة بين المصريين وإخوانهم الجزائريين فى أعقاب مباراة الكرة بين فريقى البلدين عنا ببعيد، كما أنى لا أستبعد أبدا أن يكون ما يحدث فى مصر من خلافات ومشاحنات وتعد بين شطرى الأمة المصرية من مسلمين ومسيحيين هو من صنع إسرائيل، خاصة أننا لم نشعر بشدته وقسوته وتكراره إلا بعد معاهدة السلام مع إسرائيل ووجود الإسرائيليين بكثرة فى مصر. إن عدم استقرار الأوضاع فى مصر هو من أولويات السياسة الإسرائيلية فهى تعرف بدهاء ساستها أن استمرار الأوضاع السياسية على ما هى عليه من خضوع الحكومة لها أمر قابل للتغيير وهو ضد رغبة الشعب الذى يجاهد لتغييره، ولذلك فإن الضمان الأكيد لخضوع مصر وانقيادها لإسرائيل وأمريكا هو إضعافها وتفككها وانشغالها فى أزمات وحروب بين أبنائها، حتى لا يفيقوا من غفوتهم ويتنبهوا للخطر المحدق بهم وهو إسرائيل، وهو ذات ما تفعله فى السودان وحاليا فى اليمن ولبنان والعراق والبقية تأتى، لأن فى اتحاد العرب قوة تعصف بإسرائيل التى لا تستطيع أن تعيش فى جو هادئ لا يجد فيه قادتها متنفساً لهم لتنفيذ أغراضهم فى النمو والتوسع. يسأل الكثيرون عن سبب توقف حملات كسر الحصار عن الشعب الفلسطينى فى غزة، التى كانت تنطلق من مصر.. ونحب أن نطمئن المتسائلين بأن هذه الحملات لم تتوقف ولن تتوقف حتى يتم كسر هذا الحصار الظالم، وإنما أخذت اتجاها آخر هو محاولة كسر الحصار عن شعب مصر، لأنه فى حالة كسر الحصار عن مصر فإن الحصار عن غزة سيكسر وتزول جميع مشاكل مصر والشعب الفلسطينى، وشعب مصر كله مدعو إلى المشاركة فى كسر هذا الحصار عن طريق الكفاح من أجل انتخابات برلمانية ورئاسية حرة وسليمة.