أمة بلا ذاكرة هى أمة بلا مستقبل، ووطن بلا تاريخ، هو وطن يعانى من ألزهايمر سرعان ما يتحول إلى عالة وعلة وعبء ثقيل. والمجلات التاريخية التى تنقب فى الأرشيف الصحفى القديم وتبث فيه الحياة والنفس لم تعد رفاهية أو ترفاً، بل صارت ضرورة ملحة ومطلباً حيوياً لإنعاش ذاكرة هذا الوطن، ومن هذا المنطلق كان احتفائى بمجلة «ديوان»، هدية الأهرام الصحفية، لنا فى مطلع العام الجديد. افتقدنا دراسات المؤرخ، يونان لبيب رزق بعد رحيله والتى كان يتحفنا بها، كل أسبوع، فى جريدة الأهرام تحت عنوان «ديوان الحياة المعاصرة»، وهو الاسم الذى أطلقه طه حسين على الأهرام، وقد ساعده على هذا التميز ثراء أرشيف الأهرام من حيث اتساع الكم وامتداد الزمن، وكان لابد أن تستمر هذه المسيرة التوثيقية لذاكرة الأمة من خلال مجلة متخصصة، فكان هذا الإصدار الذى ترأس تحريره الصحفية بهية حلاوة، التى أتمنى لها التوفيق فى مهمتها الجديدة. التاريخ ليس مجرد دليل تليفونات أصم ملىء بزحمة الأرقام والأسماء والتواريخ، ولكنه حياة نابضة وتفاعل ممتد، ليست المواقع الحربية والمعارك العسكرية فقط هى زاد التاريخ وشريان حياته، ولكن من الممكن أن تكون النكتة توثيقاً تاريخياً، ومن الممكن أيضاً أن تكون صفحة الوفيات أو الإعلانات أو الأفيشات السينمائية أو الأغانى الشعبية والمواويل والطوابع والمقاهى.. كلها من الممكن أن تقرأ تاريخ مصر من خلالها، فالتاريخ ليس تاريخ الملوك فقط، ولكنه قبل ذلك تاريخ الشعوب. مجلة «ديوان» محاولة جادة على هذا الطريق المختلف، الصور الوثائقية من كنز أرشيف الأهرام عن معركة الإسماعيلية التى صارت عيداً للشرطة ووثيقة زواج سيد درويش من العالمة جليلة، وصورة محاضرة العالِم «مُشرَّفة» عن النسبية على السبورة الكالحة الفقيرة!، ومارى منيب بعيداً عن المسرح، وقصر عابدين وقاعاته المبهرة، وساعى مصلحة البريد فى الثلاثينيات وهو يحمل شوال البوستة إلى باب مؤسسة الأهرام، والحاج فهمى الفيشاوى، صاحب أشهر مقهى، رصد ملامح المحروسة من خلال حوارات رواده.. إلخ، كلها وثائق لا تقل أهمية عن صور السلطان والخديو والملك ومجلس قيادة الثورة، بل هى فى نظرى تاريخ مصر الحقيقى. تظل الأفكار مثالية براقة معقمة حتى تدخل معمل التاريخ فيختبرها الواقع ويمتحنها الناس ومصالحهم وأهواؤهم، فتختفى الشفافية ويخفت البريق خلف تراب صراع التاريخ، ولذلك فالمجتمع الذى يمتلك وعياً تاريخياً لا يمكن أن يتطرف، وهذا أحد أهداف قراءة التاريخ. عندى عتاب على المجلة فثمنها مرتفع جداً بالنسبة للجمهور المستهدف، خاصة من الشباب، فالسعر خمسة جنيهات وحجمها أقل من مطبوعات أخرى فى الأهرام، وثانياً ومع احترامى للفريق شفيق فحواره لا مكان له فى مجلة تاريخية وأتمنى الابتعاد عن حوارات المسؤولين. أتمنى مزيداً من النجاح وأتمنى أن تكون المجلة شهرية لا فصلية ومبروك علينا «ديوان».