«إن الذين لم يقرأوا التاريخ، أو قرأوه ولم يعوه، سيجدون أنفسهم مضطرين مرة أخرى لمعايشة الجانب السيئ منه». ربما تخص هذه النظرية مصر أكثر من أي بلد آخر، فتاريخنا الممتد عبر آلاف السنين يدور حول عدة تجارب تكرر نفسها آلاف المرات، فلا نحن مللنا التكرار، ولا تجاوزنا ما في هذه التجارب من مساوئ عند تكرارها في زمن آخر. في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وقع الغزو السوفيتي لأفغانستان، وقادت الولاياتالمتحدة الجبهة المعارضة لهذا الغزو، ولأن أي تدخل أمريكي مباشر في القضية سيفتح الباب أمام حرب عالمية ثالثة، كان البديل جاهزًا.. الحرب بالوكالة. كانت مصر هي رأس حربة الولاياتالمتحدة في حربها المستترة مع روسيابأفغانستان، وذهب آلاف المصريين إلى هناك «للجهاد» ضد المستعمرين الروس، وتم هذا بدعم من الدولة أو عدم ممانعة منها على الأقل. سقط مئات المصريين شهداء في هذه الحرب، وبعدما انتهت عادوا إلى مصر، لكنهم عادوا بشكل مختلف، فالذين سافروا بدافع الجهاد والرغبة في الجنة، عادوا وقد اكتسبوا خبرات واسعة في التعامل مع الأسلحة بل تصنيعها، ومع هذا كله أفكار تكفيرية متطرفة، ترى الشهادتين وأداء الشعائر ليست كافية لإثبات الإسلام، ولا تعترف بحاكم لا يطبق الشريعة. «العائدون من أفغانستان» كانوا وقود العنف الذي شهدته مصر في التسعينيات، أسقطوا المئات من رجال الشرطة والسياح وكبار المسؤولين، وحوّلوا مصر إلى ساحة حرب أهلية، استغرقت عقدًا كاملًا من الزمان، وكانت سببًا في كثير من المشكلات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها مصر إلى الآن. نحن الآن أمام تجربة قريبة الشبه بما حدث، وبدلاً من أفغانستان أصبحت سوريا هي القبلة التي يسعى عدد ليس قليلا من الإسلاميين المصريين للسفر إليها والجهاد فيها ضد الطاغية بشار الأسد، وقبل أيام زفّت المواقع الجهادية نبأ استشهاد المجاهد المصري أحمد رفعت، الذي قالت إنه خرج من سجون مبارك بعد الثورة، فذهب ليجاهد فى ليبيا وعاد بعد موت القذافي، ثم ذهب فجاهد في سوريا حتى استُشهد. لكن لا يجب أن نقع في فخ التسطيح، وننظر للأمر على أنه مبادرات فردية من شباب ورجال راغبين في الشهادة، فالأمر يبدو لي للأسف، وبنفس الوضع الذي كان عليه الأمر في أفغانستان، سياسة دولة مع سبق الإصرار والترصد، ولعبة دولية كبيرة مصر جزء صغير منها، والمقارنة بين الحالتين الأفغانية والسورية تصل بنا إلى هذه النتيجة. في كتابيه المهمّين «الحروب غير المقدسة»، و«أفغانستان.. أمريكا والإرهاب الدولي»، يكشف المحلل العسكري الأمريكي الشهير جون كولي، كثيرا من تفاصيل الحرب الأفغانية، وكيف ورّطت «واشنطن» الرئيس الراحل أنور السادات فيها. يبدأ «كولي» بكيفية نجاح الولاياتالمتحدة في تحويل الغزو السوفيتي لأفغانستان إلى صدام بين الحضارات ومحاولة لإبادة الإسلام، حتى إن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، تقمص شخصية خطيب على منبر في أحد المساجد السلفية، ووصف ما جرى بأنه «خطوة قامت بها حكومة قوية ملحدة لاستعباد قوم مسلمين»، رغم أنه كان يتحدث أمام كاميرات التليفزيون الأمريكية والعالمية، وبعد أسبوع واحد من الغزو. كما يتناول الكتاب الأول الزيارة التي قام بها مسؤول أمريكي رفيع إلى مصر، عقب الغزو بفترة وجيزة، وفي اليوم التالي كان السادات يتحدث للصحفيين عقب صلاة الجمعة، قائلا إن «العالم الإسلامي يجب ألا يكتفي بإدانة الغزو السوفيتي بالبيانات وحسب، لكن يجب أن تكون هناك إجراءات فعلية، وعلى الدول الإسلامية والزعماء المسلمين الذين لزموا الصمت أن يقولوا كلمتهم الآن». كانت كلمات السادات أشبه بفتح رسمي لباب الجهاد، وبالفعل بدأ آلاف «المجاهدين» في السفر إلى أفغانستان أمام عين الدولة، وكانت الطائرات تنقلهم إلى اليمن للتدريب في أجواء قريبة من الطبيعة الأفغانية الجبلية، ثم ينتقلون بعد ذلك إلى باكستان ومنها يتم توجيههم إلى أفغانستان بإشراف كامل من السفارة المصرية في باكستان. معلومة: المشير طنطاوي كان هو الملحق العسكري في سفارة مصر بباكستان في هذه الفترة. وبعد نهاية الحرب الأفغانية عادت غالبية المجاهدين إلى مصر بعد أن انتهى مبرر وجودهم في أفغانستان، ولأن هناك جهادًا أعظم ينتظرهم في مصر، وهكذا انقلب السحر على الساحر، وتحول القربان الذي قدمته القيادة المصرية إلى واشنطن أملا في المزيد من المكاسب، إلى وبال أذاق مصر الأمرّين، وأصبح هؤلاء المسؤولون أنفسهم هدفًا لنيران المجاهدين طوال حقبة التسعينيات. ألا ترون تشابهًا في الموقفين؟ أولا: أمريكا لم تكن تريد أفغانستان في حد ذاتها، بقدر ما كانت تريد أن تكسر هيبة الاتحاد السوفيتي بإخراجه منها مهزومًا، وهكذا الأمر في سوريا، فهي لا تعني الكثير لواشنطن في حد ذاتها، لكن سقوط بشار الأسد سيكون ضربة قاصمة لإيران وحزب الله خصميها الأهم في المنطقة. ثانيًا: الموقف الرسمي للدولة المصرية متشابه، وتصريحات الرئيس مرسي الأخيرة في إيران ثم أمام وزراء الخارجية العرب، تكاد تكون نسخة طبق الأصل من تصريحات الرئيس السادات، وتصريحات الرئيسين معًا تتوافق تمامًا مع السياسة الأمريكية في الحالتين. ثالثا: الولاياتالمتحدة لم تكن قادرة على خوض حرب مباشرة ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، ولذلك بحثت عمن يخوض الحرب بالنيابة عنها، فلجأت إلى مصر للحصول على المجاهدين، وللسعودية لتوفير الدعم المالي والغطاء الديني، وإلى باكستان لتكون بوابتها إلى الأراضي الأفغانية. الأمر نفسه يتكرر الآن، فأمريكا غير مستعدة لخوض حرب، أي حرب، في هذا التوقيت، ناهيك عن أنها تعلم تمامًا أن الحرب ضد سوريا تعني حربا ضد إيران أيضا، فلجأت إلى الدول الإسلامية وعلى رأسها مصر لشحن المجاهدين، ولدول الخليج لتوفير الدعم المادي، وتعتمد على تركيا والأردن كبوابتين إلى الأراضي السورية. رابعا: الحرب في أفغانستان وسوريا تحولت من السياسة إلى الدين، فكما كان يذهب المجاهدون إلى جبال كابول وتورا بورا للحرب ضد الكفار الروس، يذهبون حاليا أيضا لمواجهة «الكفار العلويين»، ونصرة السنة. لا تستغرب من ذلك وتقول إن بشار الأسد مسلم، وإنه إذا رفع مسلم السيف على أخيه فالقاتل والمقتول في النار، لأن بشار وطائفته من العلويين النصيريين، وهؤلاء يقول عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية أحد أهم مراجع السلفيين في كتابه «الفتاوى الكبرى»، 3/ 505: «هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الْمُسَمَّوْنَ بِالنُّصَيْرِيَّةِ هُمْ وَسَائِرُ أَصْنَافِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ بَلْ أَكْفَرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ مِثْلُ كُفَّارِ التَّتَارِ وَالْفِرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَتَظَاهَرُونَ عِنْدَ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّشَيُّعِ، وَمُوَالَاةِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، وَلَا بِرَسُولِهِ وَلَا بِكِتَابِهِ، وَلَا بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَلَا ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ، وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ وَلَا بِأَحَدٍ مِنْ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا بِمِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ السَّالِفَةِ». إذن فالمرجعية الدينية تعتبر حكام سوريا «أكفر من اليهود»، أضف إلى ذلك تصريحات كالتي يدلي بها الشيخ حازم أبو إسماعيل والشيخ حافظ سلامة، وترغّب في السفر والجهاد في سوريا، حيث قال «أبو إسماعيل»، مثلا في درسه الأسبوعي بمسجد «أسد بن الفرات» إن «الجهاد فى سوريا ضد بشار الأسد ونظامه فريضة»، واصفًا الشباب المصري الذين سافروا إلى سوريا للمشاركة في الجيش السوري الحر بأنهم «طليعة شرف». ولأن المقدمات واحدة، فمن الطبيعي أن تكون النتائج واحدة، ولا يجب على الدولة أن تواصل صمتها حتى نجد أنفسنا بعد عدة شهور أو سنوات نعيد تجربة «العائدون من أفغانستان» بكل ما فيها من دماء وكوارث، وإن كان المسؤولون يعولون على سيطرتهم على قيادات الداخل التي يعتبرونها مرجعيات الجهاديين، إلا أن حسابات أرض المعركة لها حسابات وقيادات أخرى، والتجربة الأفغانية أثبتت ذلك. الغريب أن حالة ميوعة مريبة تقابل بها الدولة المصرية دعوات الجهاد ومحاولات التسلل إلى الأراضي السورية، واقتصر الأمر على بيان شديد الضعف من وزارة الخارجية يحذر من «مخاطر تسلل المصريين إلى الأراضي السورية عبر الحدود التركية والأردنية في ظل استمرار الدعوات التي تنادى بالجهاد هناك، خاصة بعد مقتل مصريين جراء استمرار أعمال العنف هناك». البيان يؤكد أن الدولة خلعت يدها تماما من المسؤولية عن وقف محاولات التسلل هذه، وتركت الأمر في يد الراغبين في الجهاد أنفسهم، هي فقط حذرتهم من خطورة التسلل، دون أن تلوّح حتى باتخاذ إجراءات عقابية ضدهم، أو الإعلان عن استراتيجية تتبناها مصر لوقف هذه الظاهرة التي تهدد إما بإسالة المزيد من الدماء المصرية في غير موضعها، أو بعودة غير مطمئنة لهؤلاء بعد سقوط نظام بشار الأسد، إن آجلا أو عاجلًا. والأسئلة هنا للحكومة عمومًا ولوزارة الداخلية تحديدًا: - هل نملك إحصاء بعدد وأسماء الذين خرجوا للجهاد في سوريا؟ - هل تحاول الدولة منع الشباب من التسلل إلى سوريا؟ ولماذا لا نسمع عن ضبط متسللين مصريين إلا من السلطات السورية؟ - هل يسمح القانون بسفر مصريين للجهاد في دولة أخرى؟، وإن كان لا يسمح، لماذا تترك شخصيات عامة مشهورة تدعو الشباب للسفر؟ - هل وضعت السلطات الأمنية استراتيجية للتعامل مع المجاهدين بعد عودتهم وضمان عدم تحولهم إلى العنف؟ - هل سيتم استخدام قضية العائدين من سوريا فيما بعد في إعادة الطوارئ وتكميم الأفواه، وهل كانت تصريحات وزير العدل مقدمة لذلك؟ أخيرًا: كل ما سبق لا ينتقص شيئا من إيماننا بعدالة القضية السورية، ومساندتنا الدائمة للثورة ضد نظام الأسد، لكن مصر لا يجب أن تدفع الثمن.