كنت أحلم بأن أعمل كمراسل حربى.. أعيش على حافة الخطر فى ميادين القتال، وأراقب كيف يعلو الإنسان على ذاته بعيدا عمن يعرفهم، ويتقاسم الأرض والسماء مع آخرين لايعرفهم، أو ربما يعرفهم بحكم الضرورة، هناك فى هذا المكان تتجلى أكثر صورة ومعنى الوطن، ويتعلم الإنسان كيف يتغلب نداء الشرف والواجب على نداء الحياة، كنت أتعجب كيف يسير المقاتل فوق النيران منتصب القامة مرفوع الهامة يواجه العدو والموت معا.. كنت متأثرة بالكاتب الأمريكى إرنست همنجواى، الذى أصقل تجربته الإنسانية والإبداعية عبر مشاركته فى الحربين العالميتين والحرب الأهلية الإسبانية، كنت معجبة جدا برواياته التى استلهمها من هذه الحروب، لاسيما «لمن تدق الأجراس». حلم المراسل الحربى لم يمت بداخلى أبدا، ربما تلون وتغير واكتسى ثيابا متجددة حسب كل مرحلة، لكنه الآن يتقمصنى عبر الشغف بالسفر والترحال. أعرف مثل الكثيرين أن الزمن هو العدو الأول للإنسان، وكلما تقدم العمر ينكمش الجسد، ويعجز عن الاستجابة لرغبة تنفيذ الأحلام المؤجلة، وأعرف أن كثيرين استعاضوا عن السفر بالقراءة، ومن بينهم العقاد الذى قال: «لى حياة واحدة والقراءة تعطينى حيوات»، لكننى فى قرارة نفسى لم أكتف يوما بالقراءة كبديل عن الواقع، ولم أستسلم أبدا لفكرة استبدال الحياة بماكيت من الورق، ولم أقص ريش أجنحتى وأتحول إلى طائر بلا جناح، متعللة بأن «الخبرة خير من الحركة»، لذلك مازلت أحلم بأن أزور سقف العالم وأقابل الديلاى لاما، وأشارك سكان التبت خطر الحياة وعذوبة المكان، ما زلت أحلم بالسفر إلى أماكن لم أعرفها، وأخاطب بشرا بعيدين، وأشعر برذاذ البحر على وجهى، وحرارة شمس الصحراء تلون بشرتى، لأن القراءة لايمكن أن تعوضنى عن هذه الأحاسيس، فهل يمكنك أن تشم رائحة البحر وأنت تقرأ رواية «العجوز والبحر» لهمنجواى؟ هل يمكن أن تشعر بصراع العجوز وهو يقاتل من أجل اصطياد سمكته الكبرى متحديا ظلمالحياة المليئة بالخطر؟ وهل يبقى على طرف لسانك مذاق البحر المالح، وإحساس قدميك برمال الشاطئ الناعمة؟ قرأت كثيرا، ولكننى لم أجد كتابا يشعرنى بلحظة ميلاد الفجر فى عمان ذات خريف، والرذاذ الخفيف يلثم وجهى، أو لحظات السير حافية تحت مطر مايو الغزيرة فى برلين، أو لحظة إفلاتى من قبضة موت رأيته فى زجاج سيارتى وأنا أقودها على طريق الغردقة بسرعة جنونية.. فى ذلك اليوم شعرت بميلاد جديد لى ولأولادى، لم أبك يومها، ولم أقسم أن ألتزم بالسرعات المقررة، لكننى أتذكر أكثر لذة الخطر ونشوة النجاة، وهذا وحده كفيل بالحث على مزيد من الأمان للحياة من دون قسم. الحياة يجب أن تعاش.. تراها وتسمعها وتشمها وتتذوقها وتلمسها وتنتظر منها ما لا ينتظره الآخرون، لاتكتف بالفرجة عليها، صحيح أن تجارب الآخرين تثرى تجاربنا الذاتية، ولكنها ليست بديلاً عنها، أتذكر أبياتاً للإمام الشافعى تقول: ما فى المقام لذى عقلٍ وذى أدبٍ/ من راحة فدع الأوطان واغترب والأسد لولا فراق الأرض ما افترست/ والسهم لولا فراق القوس لم يصب والشمس لو وقفت فى الفلك دائمةً/ لملها الناس من عجم ومن عرب حقا «والسهم لولا فراق القوس لم يصب».. فلولا الفراق والسفر ما كانت تجارب البشر.