لا يكاد متحف يتناول التاريخ الوطنى فى ألمانيا يخلو من حقبة الهولوكست، التى يؤرخ لها البعض من عام 1933 والبعض الآخر من عام 1938 وفريق ثالث يرى أنها لم تبدأ سوى عام 1941. لكن هذه السطور تركز على الصرح الهندسى الكائن فى شارع «ليندن»، شرق برلين، الذى نجح مهندسه دانيال ليبسكيند فى تشييده كتحفة معمارية فنية عام 2001 مليئة بالأعمال الرمزية التى تعبر عن «معاناة» ضحايا الهولوكوست فى ألمانيا. ما إن تقدك قدماك إلى بداية شارع «ليندن» حتى تلمح على مرمى البصر مبنىً ضخما ملتوياً بلا أبواب دخول، يبعث على الكآبة «المقصودة»، فجدرانه الخارجية مكونة من ألواح معدنية ضخمة متلاصقة، تعلوها خطوط أشبه بالندبات «المستديمة»، مبنية على الطراز الحديث لتكون أشبه بمعتقلات النازية القديمة، فتجد نفسك منذ الوهلة الأولى، وقبل دخول المتحف عبر المبنى القديم المجاور، قد وُضعت فى أجواء الاعتقال والتعذيب النفسى المتعمدين. وبحسب صوفى بلاجيمان، مسؤولة الإعلام فى المتحف، فإن الدخول للمتحف عبر النفق الأرضى من المبنى القديم المجاور، الذى شُيد أيام هتلر، مقصود منه الإمعان فى جعل الزوار يشعرون بفداحة الوحشية التى اتسمت بها النازية. ممراتٌ طويلة توصل لغرف معزولة، ودرجٌ عالٍ يقود إلى عنابر تتوه بين جنباتها.. مرحبا بك أنت الآن داخل المتحف اليهودى فى برلين. وكأن الشعور بالدوار والإرهاق متعمد ليخلف تلك الحالة من التعايش مع مأساة يهود أوروبا فى القرن العشرين جراء اضطهاد هتلر. فنيا، المتحف يستحق جائزة الأوسكار عن توظيف الرموز والإمكانيات لإيصال الفكرة، ولكن يبقى مضمون الرسالة، التى تسعى تلك الرموز إلى إيصالها، لتجسد المبالغة ذاتها التى يعانى منها المجتمع الألمانى فى عقدته التاريخية تجاه اليهود. فى الدور الأرضى تجد «برج الهولوكوست» و«حديقة المنفى». «برج الهولوكوست» عبارة عن غرفة شاهقة الارتفاع، خالية من النوافذ، جدرانها من الأسمنت البارد، الموصل للأصوات الخارجية القريبة وكأنها صدى على بعد مئات الكيلومترات، ولذلك غرض. الغرفة غارقة فى ظلام دامس، ولها باب معدنى ثقيل، يفتحه الزائر الراغب فى دخول الغرفة، للمرور بتجربة تعذيب فريدة يتعايش من خلالها مع معاناة اليهود فى غرف الغاز النازية. ويمكنك إذا أمعنت السكينة أن تسمع أبواق السيارات من الخارج بعيدة، لتشعر بالغربة والوحدة أكثر فأكثر. «حديقة المنفى» ما هى إلا غابة من الأعمدة الخرسانية المتراصة طولا وعرضا على أرضية مائلة، ليجوب بين طرقاتها الزوار، خارج نطاق المتحف، ليجدوا أنفسهم فى برد قارس مناقض لدرجة الحرارة الداخلية. المفترض أن السير وسط تلك الأعمدة يجعلك تشعر بالتيه والخوف ويضعك فى أجواء المطاردة التى كان يعيشها اليهود الفارون من جحيم النازية. هكذا قال دليل المتحف، وربما هكذا يشعر بعض المتأثرين من الزوار. «شاليخيت» من أبرز الحجرات التى يضمها المتحف، وهى «حجرة الذكرى» التى تضم آلاف القطع المعدنية الثقيلة بحجم الوجه البشرى، المتناثرة فوق بعضها البعض على الأرض، والمحفور عليها ملامح أطفال وأشخاص مذعورين، ليسير الزوار عليها بأرجلهم فتحدث صريرا مزعجا ومؤلما، وكأنه صراخ ضحايا الهولوكوست. إلى جانب هذه الغرف، يضم المتحف مجموعة لا بأس بها من مقتنيات، تعود إلى أسر يهودية تم تهجيرها فى الحقبة النازية، فضلا عن عشرات الاسكتشات والصور الفوتوغرافية المكبرة لحفلات التهجير الجماعية التى كانت تستدعى إلى الأذهان بقوة صور مئات الأسر الفلسطينية التى تم ترحيلها من قراها وأراضيها منتصف القرن الماضى، تماما كما كانت تعيد «حقيبة السفر» التى اتخذها اليهود فى هذا المتحف رمزا لتهجيرهم، إلى الأذهان صورة «المفتاح» الشهير، الذى يرمز لطرد فلسطينيى الشتات من بيوتهم.