في عيد تأسيسها الأول.. الأنبا مرقس يكرس إيبارشية القوصية لقلب يسوع الأقدس    صندوق النقد: إتمام المراجعة الثالثة لبرنامج مصر وصرف شريحة ب820 مليون دولار    قفزة جديدة ب200 جنيه.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 7 يونيو 2024 بالصاغة (تحديث الآن)    سعر البطيخ والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الجمعة 7 يونيو 2024    عضو اتحاد المنتجين: استقرار في أسعار الدواجن خلال 10 أيام    خلال اجتماع مسائي.. «أبو حطب» يناقش مستجدات ملف التصالح ورفع المخلفات بالشهداء    صندوق النقد: التوصل لاتفاق الخبراء مع مصر وإتاحة شريحة ب820 مليون دولار    5 شهداء بينهم رئيس بلدية النصيرات جراء قصف إسرائيلي على مبنى في غزة    الخارجية القطرية: لم يصل للوسطاء رد حتى الآن من "حماس" على المقترح وقف إطلاق النار    هدف قاتل يقود منتخب غانا لانتصار خارج الأرض ضد مالى فى تصفيات كأس العالم    مشادة بين أستاذ مصري وباحث إسرائيلي: «أنا ماسح بيه الأرض هو ودولته» (فيديو)    «لقائنا الأول مميز».. إبراهيم حسن: محمد صلاح هيبقى حاجة تانية مع حسام    جمال علام: أجلنا سفر المنتخب إلى غينيا 24 ساعة ووزير الرياضة وعد بمكافأة خاصة    موعد مباراة مصر المقبلة بعد الفوز على بوركينا فاسو والقناة الناقلة    غانا تعاقب مالي في الوقت القاتل بتصفيات كأس العالم 2026    الزمالك يحقق أمنية طفل فلسطيني ويستقبله في النادي    السنغال تسقط في فخ الكونغو الديمقراطية    جواب نهائي مع أشطر.. مراجعة شاملة لمادة الجيولوجيا الثانوية العامة الجزء الأول    تحرير 24 محضرًا تموينيًّا لمحال ومخابز مخالفة بالإسماعيلية    تبدأ من 1000 جنيه في اليوم.. تعرف على أسعار شاليهات مصيف رأس البر    بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم الجمعة .. والأرصاد الجوية تُحذر : ذروة الموجة الحارة    إحالة «كبابجي» للمفتي بتهمة قتل زوجته في القليوبية    شريهان تحتفل بزفاف جميلة عوض: ولدت فى أجمل أيام عمرى وأصبحت أجمل عروس    حسين حمودة بعد حصوله على جائزة الدولة في الأدب: "حاسس إن في حاجة أقدر أقدمها لبنتي"    بعد ثبوت رؤية الهلال .. إليك أفضل أدعية العشر الأوائل من ذي الحجة    زيادة أسعار المنشطات الجن..سية 200%.. «الصيادلة» تكشف الحقيقة (فيديو)    بن وفانيليا .. أسهل طريقة لتنظيف الثلاجة وتعطيرها قبل عيد الأضحى 2024    بمكون سحري وفي دقيقة واحدة .. طريقة تنظيف الممبار استعدادًا ل عيد الأضحى    بعنوان «ثواب الأضحية».. أوقاف الفيوم تعقد 150 ندوة تثقيفية ضمن ندوات مجالس العلم والذكر    وفاة المخرج محمد لبيب.. وخالد جلال ينعيه    13 يونيو.. عرض "قلبا وقالبا 2" لأول مرة بدبلجة عربية بالسينما في مصر    في مباراة ماراثونية.. غينيا تقتنص فوزا هاما أمام الجزائر في التصفيات الأفريقية المؤهلة لكأس العالم 2026    مصرع سيدة صعقا بالكهرباء في منزلها بالدقهلية    بينهم 3 أطفال.. إصابة 4 أشخاص إثر تصادم "لودر" الحي بسيارة أجرة ببورسعيد    المهن الموسيقية تنعى العازف محمد علي نصر: أعطى درسا في الأخلاق والرجولة    "طاغية".. بايدن يهاجم بوتين أثناء مشاركته في ذكرى إنزال النورماندي    ميليشيا الدعم السريع تحشد قواتها تمهيدا لاجتياح مدينة الفاشر    طائرات الجيش الإسرائيلي يقصف منطقة "كسارة العروش" في مرتفعات جبل الريحان جنوب لبنان    (فيديو) لحظة إصابة إمام عاشور فى مباراة مصر وبوركينا فاسو    حظك اليوم| برج الحوت الجمعة 7 يونيو.. «القمر مازال موجود في برج الحوت المائي ويدعم كل المواليد المائية»    نجل فؤاد المهندس: والدي كان يحب هؤلاء النجوم وهذا ما فعله بعد وفاة الضيف أحمد    عيد ميلاده ال89.. أحمد عبد المعطي حجازي أحد رواد القصيدة الحديثة    نادين، أبرز المعلومات عن الدكتورة هدى في مسلسل دواعي السفر    رئاسة الحرمين الشريفين تبدأ تنفيذ المرحلة الثالثة لخطة الحج، واستعدادات خاصة لصلاة الجمعة    مؤتمر لأسر المحبوسين ولائحة الأجور، نقابة الصحفيين تحيي الذكرى 29 ليوم الصحفي الأحد    توقيع بروتوكول تعاون لترسيخ مبادئ الشَّريعة الإسلاميَّة السَّمحة    ب 60 مليون دولار.. تفاصيل تمويل 12 فكرة ناشئة في مجال تكنولوجيا التعليم    التنمية المحلية: 98% نسبة مسحوبات التمويل من البنك الدولي لبرنامج تنمية الصعيد    نجاح أول تجربة لعلاج جيني يعمل على إعادة السمع للأطفال.. النتائج مبشرة    تهشمت جمجمتها.. جراحة تجميلية ناجحة لطفلة سقطت من الطابق الرابع بالبحيرة    «زوجي عاوزني أشتغل وأصرف عليه؟».. وأمين الفتوى: عنده مشكلة في معرفته لذاته    الحبس وغرامة 300 ألف جنيه عقوبة استخدام برنامج معلوماتي في محتوى مناف للآداب    وجدي زين الدين: خطاب الرئيس السيسي لتشكيل الحكومة الجديدة يحمل توجيهات لبناء الإنسان    حزب مصر أكتوبر يجتمع بأمانة الغربية بشأن خطة عمل الفترة المقبلة    هانى تمام ب"لعلهم يفقهون": لا تجوز الأضحية من مال الزكاة على الإطلاق    القباج وجندي تناقشان آلية إنشاء صندوق «حماية وتأمين المصريين بالخارج»    الفريق أول محمد زكى يلتقى منسق مجلس الأمن القومى الأمريكى    ماذا قال الشيخ الشعراوي عن العشر من ذي الحجة؟.. «اكتمل فيها الإسلام»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. يوسف زيدان يكتب: فصوص النصوص الصوفية (3/7)حفيف أجنحة جبرائيل

فى مقالة الأسبوع الماضى، توقفنا عند السيرة الذاتية البديعة، التى كتبها عن نفسه «الحكيم الترمذى» مازجاً بين سرد وقائع حياته، وحكاية الأحلام (الرؤى) التى رآها أو رأته زوجته فيها.. واليوم، نتوقف عند نصٍّ أدبى فريد، هو (رؤيا) قدَّمها لنا السهروردى فى قصته الشائقة المشوِّقة التى جعلها بعنوان «حفيف أجنحة جبرائيل» لأنها تفسِّر الاعتقاد الصوفى، الإشراقى، القائل بأن جميع ما فى الوجود، هو صوت جناحىْ الملاك جبرائيل.. مَنْ هو السهروردى؟
هناك مجموعة من المشاهير فى تراثنا، يحملون هذا اللقب الذى هو «نسبة» إلى بلدة سُهْرَوَرْد الواقعة ببلاد فارس (إيران الحالية).. وأشهر هؤلاء اثنان، كلاهما يحمل الكنية ذاتها، واللقب، ويفرِّق بينهما المؤرِّخون بذكر أهم مؤلفات كُلٍّ منهما، فيقولون، شهاب الدين السهروردى صاحب كتاب عوارف المعارف، شهاب الدين السهروردى صاحب كتاب حكمة الإشراق..
ومقصودنا منهما فى هذه المقالة، الثانى، وهو الملقب أيضاً بشيخ الإشراق، مع أنه قُتل فى شبابه (فى سن السادسة والثلاثين) لكنه يُعرف بشيخ الإشراق، لأنه مؤسس الاتجاه الصوفى الشهير، المعروف باسم (الإشراقية) لأنه يقوم على فكرة رئيسة، هى أن الوجود عبارة عن مراتب نورانية متتالية، أعلاها ومنشؤها هو نور الله.
وللسهروردى الإشراقى (المقتول بقلعة حلب، سنة 587 هجرية) مؤلفات كثيرة بالعربية والفارسية، منها كتبٌ مثل: حكمة الإشراق، هياكل النور، التلويحات العرشية، اللمحات فى الحقائق. ومنها قصص قصيرة، بديعة اللغة والأفكار، مثل قصة (الغربة الغربية) التى نشرتها فى كتابى: «حىّ بن يقظان، النصوص الأربعة ومبدعوها»..
وقصة: صفير العنقاء (صفير سيمرغ) التى كتبها بالفارسية. والقصة التى سنتعرف إليها بعد قليل (حفيف أجنحة جبرائيل) وهى نصٌّ أدبى نادر كتبه السهروردى بالفارسية أولاً، ولا نعرف إن كان قد ترجمه للعربية بنفسه، أو أن غيره قام بذلك.
ونصُّ القصة الذى سنراه بعد قليل، بعد عمل الضبط المناسب له، نشره د.عبدالرحمن بدوى فى كتابه: شخصيات قَلِقَة فى الإسلام، اعتماداً على النسخة التى وجدها المستشرق الفرنسى، المتصوف (لوى ماسينيون) بين كتب وأوراق المستشرق الألمانى الشهير (باول كراوس) الذى انتحر بالقاهرة عام 1944، لأسباب غامضة، مازالت مجهولة!
وقد جعل كراوس عنوان القصة، بالعربية: أصوات أجنحة جبرائيل! وقد رأيتُ هنا، أن كلمة (حفيف) أدقُّ وأقربُ إلى مقصود السهروردى بالعنوان الفارسى (آواز بر جبرائيل) ناهيك عن أنها أصح لغوياً. لأن هذه القصة الرمزية، تخبرنا بأن ظهور (الموجودات) نابع من حفيف أجنحة جبرائيل، التى تشبه أشجاراً ضخاماً تتولد الموجودات من حركتها.
.. وأرجو من القارئ أن يصبر على النص التالى، الذى سنقدم منه فقرات مطولات، باعتباره أنموذجاً لفصوص النصوص الإبداعية التى كتبها المتصوفة. ولسوف نلحق النصوص ببعض التعليقات الشارحة، التى من شأنها إضاءة النص إذا قُرئ ثانية، بعد قراءة الشروحات الموجزة.. قال شيخ الإشراق:
■ ■ ■
لمَّا انطلقتُ من حُجرة النساء، وتخلصتُ من بعض قيود ولفائف الأطفال. كان ذلك فى ليلةٍ، انجاب فيها الغَسَقُ الشُّهَبىُّ الشكل، مستطيراً عن قبة الفلك اللازوردى، وتبددتْ الظُلمةُ التى هى أخت العدم، على أطراف العالم السفلى.
وبعد أن أمسيتُ فى غاية القنوط من هجمات النوم، أخذتُ شمعاً فى يدى، متضجراً، وقصدت إلى رجال قصر أمى. وطوَّفتُ فى ذلك الليل ، حتى مطلع الفجر. وعندئذ، سنح لى هَوَسُ دخولِ دهليز أبى. وكان لذلك الدهليز، بابان: أحدهما إلى المدينة، والآخر إلى الصحراء والبساتين. قُمْتُ، فأغلقتُ الباب الذى يؤدى إلى المدينة إغلاقاً محكما، وبعد رتجه، قصدتُ إلى الفتق الذى يؤدى إلى الصحراء. وعندما رفعتُ الترس، نظرتُ، وإذ عشرةُ شيوخٍ، حسان السيماء، قد اصطفوا هناك صفاً صفاً.
وقد أعجبتنى هيئتهم وجلالتهم وهيبتهم وعظمتهم وسناهم، وظهرتْ فىَّ حيرةٌ عظيمة من جمالهم وروعتهم، حتى انقطعتْ عنى مُكْنةُ نطقى. وفى وَجَلٍ عظيمٍ، وفى غايةٍ من الارتجاف، قَدَّمْتُ رجلا وأخَّرتُ أخرى. وعندئذ قلت لنفسى: لنتشجعْ، ولنكنْ مستعدين لخدمتهم، وليكن ما يكون.
سرتُ رويداً إلى الأمام، للسلام على الشيخ الذى وقف فى طرف الصف، غير أنه بسبب غاية حسن خُلُقه، سبقنى بالسلام، وتبسَّم فى وجهى تبسُّماً لطيفاً، حتى تجلَّى شكلُ نواجذه أمام حدقتى. ورغم مكارم أخلاقه وشِيَمه بقيتْ مهابته تغلب على نفسى. فسألته: من أين أقبل هؤلاء السادة، إن جاز لى السؤال؟ فأجابنى الشيخُ الذى على طرف الصف، قائلاً: إننا جماعة متجردين، وقد وصلنا إليك من كجا آباد.
لم أفهم مقاله، فسألته: فى أى إقليم توجد تلك المدينة؟ فقال: فى إقليم لا تجد السبَّابة إليه متجهاً. وإذ ذاك علمت أنه شيخٌ مطَّلع. قلت: أخبرنى بفضلكم، ما الذى يشغلكم أكثر أوقاتكم؟ قال: إن حرفتنا الخياطة، وكل واحدٍ منا يحفظ كلام الرب عن سلطانه، وإننا لسائحون. سألته ولماذا يلازم الصمت هؤلاء الشيوخ، الذين يقفون على رأسك؟ فأجاب: لأن أمثالكم ليسوا أهلا لمحاورتهم، أنا لسانهم، وأما هم فلا يكلمون أشباهك.
.. قلتُ: أتسبحون الله عزَّ وجلَّ؟ قال: الاستغراق فى المشاهدة يشغلنا عن التسبيح، وإن كان هناك تسبيح، فإنه ليس بواسطة الألسن والجوارح، ولا بحركةٍ واهتزازٍ وما إليه . قلت: هل تعلمنى علم الخياطة؟ فتبسَّم وقال: للأسف، ليس لأشباهك ولنظرائك قِبَلٌ بهذا، فإن ذلك العلم غير ميسَّر لنوعك، وذلك أن خياطتنا لا تتعلق بعمليةٍ وقَصْدٍ وآلةٍ، لكنى سأعرفك من علم الخياطة، قَدْر ما يمكِّنك من تصليح خرقتك الخشنة المرقعة.
وقد علمنى ذلك القدر من العلم.. ثم قلت: علِّمنى الآن كلام الله. قال: إن المسافة عظيمة، وما دُمتَ فى هذه القرية، فلا يمكنك أن تتعلم كثيراً من كلام الله تعالى، ولكنى أعلِّمك قَدْر ما أنت ميسَّر له! وأحضر لوحاً وعلَّمنى حروف هجاء عجيبة، حتى إننى استطعت أن أفهم بواسطة الهجاء، معنى كل سورة من السور.
ثم قال: الذى لا يفهم هذا الهجاء، لا يصل إلى معرفة سُوَر كلام الله، على ما ينبغى؛ وأما الذى اطَّلع على أحوال ذلك الهجاء، فقد يظهر فيه رسوخٌ ومتانة.
وعندئذ تعلَّمتُ علم الأبجد. وبعد إتمام دراستى إياه، نقشتُ حروفه على اللوح، على قدر ما كان فى مرتقى قدرتى، ومَسْرَى طاقتى. وعندئذ ظهرت لى من عجائب معانى كلام الرب، عزَّ سلطانه، ما لا يدخل تحت حصر البيان، وحَدِّه. وكلما طرأت لى مشكلة، عرضتها على شيخى وهو يزيح إشكالها.
ثم دار حديثنا حول نفث الروح، وقد أشار الشيخُ إلى أن الروح يشتق من روح القدس. وعندما سُئل عن نسبة ما بينهما، أجاب قائلاً: إن كل ما يتحرك فى أربعة أرباع العالم السفلى، يشتق من أجنحة جبرائيل.
ولما باحثت الشيخ فى كيفية هذا النظام، قال: اعلمْ أن للحق سبحانه وتعالى، عدة كلمات كبرى، تنبعث من كلماته النورانية، أى من شعاع سيماء وجهه الكريم. وبعضها فوق بعض.. وآخر تلك الكلمات: جبرائيل عليه السلام. وأرواح الآدميين تنبعث من تلك الكلمة الأخيرة.. الآدميون نوعٌ واحد، ومن له روحٌ فله كلمةٌ. ومن آخر الكلمات الكبرى، تظهر كلماتٌ صغرى من غير حَدٍّ، على ما أشير إليه فى الكتاب الربانى بقوله (ما نفدت كلمات الله) وقال (لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى).
أما الكلمات الكبرى، فهى التى قيل عنها فى الكتاب الإلهى (فالسابقات سبقا) وأما قوله (فالمدبرات أمرا) فهم الملائكة، محركو الأفلاك، وهى الكلمات الوسطى. وكذلك، فإن قوله تعالى (وإنا لنحنُ الصَّافون) إشارة إلى الكلمات الكبرى، وقوله (إنا لنحن المسَبِّحون) إشارة إلى الكلمات الوسطى. ولأجل هذا تقدَّمت عبارة (الصافون) فى كل مكان من القرآن المجيد، إذ قال: (والصَّافَّاتِ صَفَّا، فالزاجرات زجراً) وفى هذا غورٌ بعيد، لا يليق استيعابه بهذا المحل! وقد تُستعمل «الكلمة» فى القرآن أيضاً، بمعنى السر.
قلت للحكيم: أخبرنى الآن عن جناح جبرائيل. قال: اعلمْ أن لجبرائيل جناحين، أحدهما عن يمينٍ وهو نورٌ محض، وهذا الجناح ينضاف مجرد وجوده إلى الحق. وأما الجناح الأيسر، فتمتد عليه بقعةٌ سوداء، كأنها الكَلَفُ الذى يظهر فى وجه القمر، أو كأنها تذكرنا بالألوان التى على قدم الطاووس. وفى هذا إمكان وجوده، الذى ينصرف جانبٌ منه إلى العدم. فإذا نظرت ما لجبرائيل من الوجود بجود الحق، فإنه يوصف بوجوب الوجود.
وإذا نظرت إليه بقدر استحقاق ذاته، فإنه يوصف بالعدم.. فهذان المعنيان، ممثلان فى جناحى جبرائيل: الأيمن إضافته إلى الحق، والأيسر استحقاقه فى ذات نفسه. كما قال الحق سبحانه وتعالى (وجاعل الملائكة رسلاً أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع).. وإذا وقع من أوج القدس شعاع، ينشأ منه نَفْسٌ يسمونها كلمةٌ صغرى. ألا ترى أن هذا، ما قاله الحق تعالى (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا) فللكافرين أيضا كلمة . غير أن تلك الكلمة ، صدىً ممزوجٌ بحسب ما عليه أنفسهم.
ومن الجناح الأيسر، الذى يمتد عليه قَدْرٌ من الظلمة، يهبط ظِلٌّ هو عالم الزور والغرور. ويشير إلى شعاع الجناح الأيسر، ما ورد فى القرآن الكريم (وجعل الظلمات والنور) فإن تلك الظلمة، التى نُسبت إلى فعل (جعل) أصبحت عالم الغرور . وأما ذلك (النور) الذى ورد ذكره بعد الظلمة، فهو شعاع الجناح الأيمن.. وبهذا المعنى قال تعالى (إليه يصعد الكلم الطيب) إذ إن الكلمة أيضاً من شعاعه. وكذلك قوله مَثَلاً، (كلِمَةً طَيِّبَةً) فهى كلمة شريفة نورانية، من بين الكلمات الصغرى.
وإن لم تكن تلك الكلمة الصغرى فى غاية الشرف، فكيف استطاعت أن تصعد إلى حضرة الحق تعالى. وأما أن الكلمة، والروح، تدلان على معنى واحد، فإن علامة ذلك (إليه يصعد الكلم الطيب) وكذلك (تعرج الملائكة والروح إليه) فإن عبارة (إليه) ترجع فى الحالتين إلى الحق جلَّتْ قدرته. وعلى هذا المعنى، تدل أيضا (النفس المطمئنة) إذ قال (ارجعى إلى ربك) وعالم الغرور، ليس إلا صدىً وظلاً لجناح جبرائيل، أعنى لجناحه الأيسر. بينما تصدر الأنفس المضيئة، من الجناح الأيمن.
قلت للشيخ: فما هى، فى آخر أمرها، صورة جناح جبرائيل؟ فأجاب: يا عاقل، كل هذه الأشياء ليست إلا رموزا، إن عَلِمْتَها على ظاهر معناها، كانت تخيلات لا حاصل لها.
قلت: وأين القرية التى قال الحق تعالى عنها: (أخرجنا من هذه القرية الظالِمِ أهلُها) قال: ذلك عالم الغرور، الذى هو أليق محلٍّ للكلمة الصغرى. ثم إن الكلمة الصغرى أيضا قرية، لأن الله تعالى قال (تلك القرى نقصُّ عليك من أنبائها) و(منها قائم وحصيد) فهى كلمات الحق تعالى، كبيرة كانت أو صغيرة .
.. وعندما ارتفع على قصر أبى، فجر النهار. أُغلق الباب الخارجى وفُتح باب المدينة، وذهب التجار إلى أشغالهم، وتغيَّبتْ عنى جماعةُ هؤلاء الشيوخ، وبقيتُ فى حسرةٍ متشوقاً إلى صحبتهم، عاضا أناملى، وصارخا: ياويلى، إظهاراً لعظمة حيرتى.. ولكن لا فائدة بعد.
■ ■ ■
قال الناسخ: هنا تنتهى قصة حفيف جناح جبرائيل عليه السلام.. ومن أفشى لطائف أسرار ذلك الشيخ العظيم الشأن، إلى العوام وإلى غير أهلها، ستنفصل نفسه عن بدنه، وسيصبح فضيحة الرجال. وربنا مشكور ومحمود، والصلاة على محمد، وآله، وسلم تسليماً.
■ ■ ■
قبل تقديم الإشارة الشارحة لهذا النص العجيب، لابد من لفت الأنظار إلى أن لهذه القصة ديباجة (مقدمة) احتوت على قصة أخرى، ملخصها أن أحد المنكرين على الصوفية، اعترض على أقوالهم واعتبرها هذياناً.. يقول السهروردى فى ديباجة القصة: حدث فى يوم من الأيام، فى محفل ناس قد أصاب بصرهم الرمدُ، أن رجلا سخر بمناصب سادات الطريقة وأئمتها. ولقصر نظره، تكلَّم من غير روية فى مشايخ السلف. ولأجل تقوية رأيه المنكر، استهزأ بمصطلحات المتأخرين، حتى بلغت جسارته أن أورد حكاية عن الأستاذ أبى علىّ الفارمذى، رحمه الله، قائلاً: إنه سُئِلَ لِمَ سَمَّى ذوو الخرقة الزرقاء بعض الأصوات أصوات أجنحة جبرائيل؟
فأجاب: اعلم أن أكثر الأشياء التى تشاهدها حواسك، تنبعث من أجنحة جبرائيل! وقال للسائل: إنك أنت أحد أصوات أجنحة جبرائيل.. وقد أبى ذلك الخصم المتعسف، أن يعترف بمثل هذا الكلام قائلاً: ماذا يمكن أن يكون معنى هذه الكلمة إلا هذيانا مزخرفاً؟ ولما بلغ تجاسره إلى هذا الحد، شمرتُ عن ساعد الجد، لأزجره.
وهكذا كان ذلك، هو السبب فى تأليف السهروردى لهذه القصة الرمزية التى ابتدأها بانطلاق الروح من أسر الطبيعة (حجرة النساء) وارتقائها عن أحكام المحسوس (قيود ولفائف الأطفال) بملازمة الرياضات الصوفية والمجاهدات (الشموع) التى تكشف ظلام الوجود الحسى.
والجسم الإنسانى هو المقصود بقوله «قصر أمى» لأنه صنعة الطبيعة، أما العالم العلوى (الروحانى) فهو مقصوده بقوله «قصر أبى».. والشيوخ المتجرِّدون، هم العقول السماوية التى لا اتصال بينها وبين العقل الإنسانى، إلا من خلال حلقة واحدة، هى (العقل الفعَّال) الذى يمثل سقف العقل الإنسانى، وقاعدة العقول السماوية العلوية.
وجبريل فى النص، هو المعادل الموضوعى لروح القدس! ونتاج حفيف جناحيه، هى الموجودات الكلية والأنواع، والموجودات الجزئية والشخوص.. ولن أزيد هنا فى بيان (دلالات) هذا النص الرمزى، لأن المراد من إيراد ما قدَّمناه، ليس التعرُّف إلى (أفكار) السهروردى الإشراقية، وإنما الاقتراب من نصٍّ تراثىٍّ فريدٍ، مهجورٍ، والتعرف إليه أسلوبياً.. وفنياً.. وأدبياً.
فهلاَّ قرأنا النصَّ ثانيةً!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.