القطار الإسبانى المتجه إلى الإسكندرية يمر بسرعة كبيرة، يبدأ عامل المزلقان وضع سلاسله ليغلق الطريق على المارة من سيارات أو بشر، فيهرول أحد الرجال مسرعا ليأخذ فرصته فى العبور، يمر القطار فى ثوان معدودة، يفتح العامل سلاسله فتعود الحياة إلى حركتها مرة أخرى، تظهر منازل بسيطة لا يفصلها عن «شريط السكة الحديد» سوى موقف ل «التوك توك»، وبمجرد أن تطأ أقدامنا قرية «ميت حلفا» لا يظهر عليها من علامات قدوم شهر رمضان سوى عربات خشبية تحمل التمر، العرقسوس والسوبيا، ولا وجود لزينة رمضان الورقية أو المضيئة، رغم وجودها وبشكل واضح قبل عبور المزلقان الذى بدا وكأنه يفصل عالمين عن بعضهما فى النهاية يجتمعان تحت مظلة ومحافظة واحدة هى القليوبية. بخطوات مسرعة بعد المرور بين شوارع وحارات تضافرت مع بعضها، يتوه من يمر بها إذا لم يكن من أهل البلدة، تظهر حارة ضيقة تلفت انتباه المارة من فرط ضيقها، التصقت بيوتها ببعضها شرفات وأبواب المنازل تطل على بعضها تكشف كل جانب للآخر، لذا تعمد أهلها غلق أبوابهم ونوافذهم حفاظاً على خصوصيتهم، إلا باباً واحداً ظل مفتوحاً طوال الوقت، تظهر خلفه سيدة أربعينية، تناديها جارتها ب«أم منى»، سألنا لماذا هى الوحيدة التى لم تغلق بابها، فيرد أحد الجيران «لو أغلقت بابها تموت». للوهلة الأولى يتوقع البعض أن «أم منى» لديها مشكلة صعبة، تلك التى تفسر ارتباط موتها بغلق باب منزلها، وهو أمر قد يثير الدهشة، وسرعان ما تخرج من بيتها وتنظر للجميع وكأنها ألزمتهم الصمت وتبرر بنفسها سبب ذلك لتقول «النور قاطع»، تظهر علامات التعجب فوق رؤوس من لا يعرفون حالتها، فتأخذنا بأيديها داخل بيتها لتشرح حالتها فى صمت طويل، تاركة الحكم لمجرد النظر إلى حال منزلها وقت انقطاع التيار الكهربى، الذى استمر وقت وجودنا معها ساعات طويلة. فى جملة واحدة يمكن وصف منزل «أم منى» بأنه بسيط لدرجة كبيرة، بابه خشبى متهالك مفتوح وكأنه يخفى وراءه منزل مهجور، فالنهار الذى لايزال يضىء الحياة بالخارج لا وجود له خلف الباب، فيبدو وكأن هناك فرق توقيت بين منزلها والمنطقة المحيطة به يجعل نهارها ليل، وليس العكس تماما، وبنظرة خاطفة تستطيع رؤية ملامح البيت دون الحاجة إلى التجول بداخله، سقفه خشبى كبابه ويكفى أن تدخل رأسك وتلتفت العين بنظرة نصف دائرية لتتكون صورة واضحة كاملة لكل محتويات المكان، بداية من الصور المعلقة على حائط يتوسطه برواز لسورة الفلق لتمنع الحسد ولكن من أين تأتى مظاهر الحسد، لا تبدو الإجابة واضحة، فأول محتويات المنزل عبارة عن دلو القمامة الموضوع خلف الباب مباشرة، ثم «طشت» كبير ملىء بالماء بجوار غسالة كهربائية قديمة تلفت أسلاكها ونسج عليها العنكبوت خيوطه كدليلين على عدم الاستخدام، ومروحة سقف متوقفه ليس فقط لانقطاع التيار بل لعدم وجود نسمة هواء تحرك أحد أطرافها، معلقة أعلى أريكتين تهالكتا بشكل واضح حتى خرج حشو إحداهما، معلناً عدم تحمله حرارة الجو هو الآخر، ويتوسطهما باب معلق عليه صورة تجمع «جدو» و«أبوتريكة» يفتح على الغرفة الوحيدة بالمنزل، وهى مظلمة تماماً لا يمكن التعرف على محتوياتها إلا من خلال «شمعة»، ليظهر سرير تحيطه الأدوية من كل جوانبه، تراكمت عليه ملابس وجرائد قديمة ليبدو هو الآخر عديم الاستخدام، بجواره باب ضيق لا يمر به الفرد إلا بالجنب، هو مكان دورة المياه وأخيراً مطبخ لا تتعدى مساحته متر واحد تراكم به عدد قليل من الأطباق، و«حلل» تعد على أصابع اليد الواحدة وموقد غاز ذو شعلة واحدة. بين كل ذلك لم نلمح نوافذ، منزل من غرفة واحدة وصالة بلا نافذة واحدة للهواء، سرعان مازالت دهشتنا عن سبب الظلام الذى تعيشه «أم منى»، فالمنزل ليس به نافذة للهواء سوى تشغيل المروحة المتوقفة أغلب الوقت لانقطاع التيار الكهربى، أو فتح الباب، فيما عدا ذلك يوجد شباك صغير مغطى بأسلاك حديدية يطل على «مواسير» الصرف الصحى لأحد جوانب منزل مجاور لها، ولطبيعة سكنها بالطابق الأرضى فهو عديم الفائدة لا يدخل منه ضوء أو هواء. تجلس «أم منى» بجوار ابنتها منى على الأريكة، وحالة صمت طويلة فى انتظار ترك الحكم لنا عن سؤال بدا لها غريباً، هو لماذا تترك بابها مفتوحاً دائماً، ولماذا يقول جيرانها إنها لو أغلقته تموت، لا يقطع صمتهما سوى صراخ «ملك» حفيدتها التى لم تبلغ عامها الأول، تنتفض بسرعة الأم لتحمل طفلتها وتخرج بها إلى الشارع فيتحول الصراخ إلى ابتسامات، تبدأ الجدة «أم منى» شرح الموقف قائلة: «الطفلة لم تتحمل حرارة الجو، دائماً ما تصرخ وكأنها لدغها عقرب، وهو نفس الحال الذى نتعرض له لكننا لا نستطيع الصراخ وإلا اتهمنا الناس بالجنون، فبيتى طوال الصيف يكون كالقبر، خاصة عندما ينقطع التيار وتتوقف المروحة وهى مصدر أنفاسنا عن الحركة». تترقب الجدة دقات الساعة، فلايزال هناك أكثر من نصف ساعة على موعد آذان المغرب، تفقد الأمل فى أن يعود التيار مرة أخرى فى تلك الفترة، فتقوم وتبدا تجهيز طعام الإفطار، تفتح أحد الإدراج لتخرج منه «كيس» بلاستيك أسود، تجلس على الأريكة مرة أخرى بعد إحضارها لعدد من أكواب المياه إلى جوارها، تضع يدها داخل «الكيس» لتخرج بعدد من الشمع بأحجام وأشكال مختلفة، وتقول: «متفتكروش إنى اشتريت الشمع، أنا لا أملك ثمنه، لكنى قمت بتحويشه من سبوع الجيران، لكن استخدامى له هذا الشهر أكثر من أى وقت مضى لتكرار قطع النور»، تبدأ «أم منى» إشعال الشمع ووضعه فى أكواب متفرقة، ثم تبدأ تتحرك، وبخطوتين أصبحت داخل المطبخ، تقوم بتوزيع الأكواب على الأرض بجوار الموقد وعلى الحوض فيضىء المكان إضاءة خافتة لكنها بالنسبة لها تفى بالغرض، تمسك بإحدى الشمعات توقد منها شعلة بوتاجازها الصغير، تضع عليه «حلة» فاصوليا صغيرة غير ممتلئة، تبدأ تسخينها على نار هادئة، خوفاً من نفاد الغاز. وتجلس «أم منى» بجوار الطعام، تأتى ابنتها وحفيدتها مرة أخرى، تجلسان على الأريكة بعد أن استطاعت الأم أن تحضر ورقة «كارتون» تستخدمها كمروحة لابنتها لتفادى صراخها مرة أخرى، وتبدأ الجدة الحديث عن ظروف أسرتها فتقول: «زوجى مريض بالكلى وحساسية الصدر، تعرض لأزمات عديدة بسبب سوء التهوية ولم يعد يتنفس إلا بالأجهزة، أحضر لنا فاعل خير جهازاً بسيطاً يساعده على تنفس الأكسجين لكنه لم يفلح فى حل أزمته الصحية، خاصة أن غرفة النوم عبارة عن غرفة قبر مفتوحة الأبواب، لا يدخلها الهواء إلا عن طريق مروحة الصالة، ولكن بمرور الوقت لم تعد هى الأخرى لها فائدة مع انقطاع التيار، فساء حال زوجى واحتجز فى المستشفى منذ أيام ولم يخرج بعد». تتنهد الجدة كثيراً وتعود لتقلب طعامها وكأنها ترى فيه صورة زوجها الممدد الآن بالمستشفى، فتواسيها ابنتها قائلة: «ادعى ربنا يشفيه إحنا عملنا اللى علينا»، فتعتدل فى جلستها القرفصاء أمام الموقد وتكمل قصتها وتقول: «لم يعد ينام أحد فى تلك الغرفة، نجتمع أنا وأولادى الثلاثة فى الصالة أسفل المروحة، راضيين بالساعات القليلة التى تعمل فيها دون انقطاع التيار، خاصة أن ساعات الصيام طويلة وحرارة الجو تعطشنا مع أول ساعات اليوم، ثم يذهب أولادى إلى عملهم أرزقية فى أحد المصانع فأكبرهم 19 عاماً وأصغرهم 12، وكثيراً ما يلجأون للمبيت بالمصنع هرباً من حرارة البيت وقت الصيام، لذا تأتى ابنتى (منى) يومياً حتى لا تتركنى أتناول الإفطار وحدى، ولتؤانسنى لعدم وجود تليفزيون أو راديو، وحتى لو كانوا موجودين مفيش كهربة عشان يشتغلوا». تعاود «ملك» الصراخ فتتذكر الأم أنها أبطأت فى التهوية لها، لكنها لم تعد تعجبها تلك الحيلة وتستمر فى البكاء حتى تحضر لها «منى» إحدى الشمعات وتوقدها لتنير لها المكان، لكن سرعان ما تلهو الطفلة بإطفاء الشمعة، فتكف عن البكاء لحظات، وتبدأ الأم ما بدأته الجدة فتقول: «منزلنا قديم لذا ليس به مياه ولا صرف والحاجة الوحيدة الموجودة هى الكهرباء، لكن يبدو أنه مكتوب علينا الحرمان من كل الخدمات، ألم يكن كافياً أننا نعيش على مياه حنفيات الجيران التى نملأ منها يومياً ما يكفينا طوال النهار، بل استكثروا علينا النور والهواء، كما أن انقطاع المياه مرتبط بانقطاع الكهرباء أيضاً، فدائماً تنقطعان سويا، ولا حيلة لنا وقتها سوى الجلوس فى الشارع نبحث عن نسمة نتنفسها قد تحمينا من الموت، ولولا أننى أسكن شقة حماتى لأخذت أمى للعيش معى لكن ما باليد حيلة». تقاطع «أم منى» ابنتها بعد أن بدأت فى تفريغ كيس «الطرشى» فى أحد الاطباق وتقول: «أحمد الله أنى بالطابق الأرضى، فمن السهل أن أخرج إلى الشارع مباشرة أو أجلس على باب البيت كلما انقطع النور، وإلاّ مت خاصة أن صحتى على أدى، ومنعنى الطبيب من حمل أشياء ثقيلة على أكتافى التى دمرها نقل المياه من الجيران إلى بيتى»، وفجأة يصرخ الأطفال فى البيوت المجاورة مرددين «النور جه»، فترفع الجدة يديها إلى السماء مرددة: «الحمد لله هنفطر فى النور النهاردة»، وتسأل ابنتها عن الساعة فتعرف أنه لم يبق على أذان المغرب سوى 10 دقائق، تبدأ فى ملء الأكواب بالعرقسوس، وتهب لتجهيز مكان الطعام بفرش «حصيرة» بين الأريكتين فى مساحة بالكاد تكفى لجلوس فردين على الأرض، خاصة أنها ليس لديها «طبلية» لتضع الطعام عليها، وبمجرد انطلاق مدفع الإفطار ينقطع التيار الكهربى مرة أخرى، فتقول الجدة: «ملحقناش نتهنى بيه، مكتوب علينا ناكل كل يوم وسط حرارة الشمع». تعاود «أم منى» لتضىء الشمع مرة أخرى، مع الإكثار من أعداده لتضعه على الأرض مكان تناولهم الطعام، تبدأ أولاً بوضع الفاصوليا فى طبق واحد، وتضعه على الأرض بجوار طبق «الطرشى»، وتأخذ من الخبز الذى افترشته على الأريكة حتى لا يصيبه «العفن» من حرارة الجو، ثم تجلس بجوار ابنتها وحفيدتها لتناول الإفطار، وتدعوان أن يرحمهما الله مما هما فيه ويأتى التيار سريعاً قبل أن تبدأ الطفلة فى البكاء فتضطر والدتها إلى الخروج إلى الشارع والحرمان من تناول الإفطار. يظل التيار منقطعاً لساعات، تشكو لنا «أم منى» خلالها من فاتورة الكهرباء التى تدفعها شهرياً والتى لا تقل عن 30 جنيهاً قائلة: «الغسالة باظت ولم أصلحها ولمبة غرفة النوم احترقت ولم أشتر غيرها لأنى لا أملك مصاريف ذلك، ولم يعد لدىّ سوى لمبة الصالة والمروحة فقط فكيف أدفع كل هذا المبلغ شهريا وأنا لا أستفيد به من الأساس فى ظل انقطاع التيار، وإن كان الله كتب لنا أن نعيش فى بيت كهذا رضينا بكل عيوبه من عدم وجود ماء أو هواء واستقطعنا من لحمنا لشراء المروحة فما فائدة كل ذلك والكهربة موجودة اسما من خلال أعمدة الإنارة فى الشارع فقط، بينما أعانى وأسرتى من ظلام مستمر».