سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الحياة وسط الركام.. والقصص الأكثر بؤساً فى مخيمات غزة .. الانقسام الفلسطينى بين «فتح وحماس» يجّمد أموال إعمار القطاع.. والأهالى يدفعون الثمن ويعيشون فى العراء
كان صوت طائر الكناريا يخرج من منزل أبوطارق، «القرميدى» المبنى من ألواح الأسباستوس مثل كل منازل المخيمات فى غزة، كان تغريد الطائر حزيناً، وكأنه يردد إحدى الأغانى الفلسطينية المملوءة بالألم والمعاناة. أبوطارق واحد من نصف مليون لاجئ يعيشون فى المخيمات الثمانية فى غزة حيث الحياة الأكثر قسوة وألماً. تعد مخيمات اللاجئين واحدة من أكثر الأماكن فى العالم اكتظاظاً بالسكان، خاصة مخيم الشاطئ حيث يعيش وائل غبن أو أبوطارق كما يحب أن يناديه أصدقاؤه، المخيم الذى يضم ما يزيد على 82 ألف لاجئ يعيشون على مساحة أقل من كيلومتر مربع واحد هى كل مساحة المخيم ذى الشوارع الضيقة، التى لا يتجاوز عرض بعضها 60 سنتيمتراً والتى لا تسمح أحياناً بإخراج جثث الموتى من شدة ضيقها..ترسم المعاناة فى المخيم ألف صورة وصورة. كان أحد أبناء أبوطارق العامل الفلسطينى المتعطل عن العمل يطعم عصفوره المحبوس فى قفص صغير معلق أعلى حائط رمادى فى الغرفة الصغيرة التى لا يوجد بها سوى باب واحد، ولا تتجاوز مساحتها العشرة أمتار. عندما سألته عن طائره المغرد ابتسم وقال: «هو محبوس فى قفصه مثلما نحن محبوسون فى غزة». يحسد أبوطارق الطائر الصغير المحبوس فى قفصه على رعايته له: «يا بخته يجد من يرعاه ويطعمه، فأنا والأولاد نهتم تماماً بإطعامه كل يوم، لكننا لا نجد من يطعمنا.. للأسف أنتظر كل أول شهر المعونة من الجمعيات الأهلية». يعيش 80٪ من أهالى القطاع تحت خط الفقر معتمدين على المعونات التى تقدمها مئات من جمعيات الإغاثة الدولية لأهالى المخيمات. «أعيش على المعونات، أنا عاطل الآن عن العمل» يروى أبوطارق قائلاً: «كنت أعمل كعامل بناء فى إسرائيل تحديداً فى الخط الأخضر، ولكن بعد تشديد الحصار حبسنا جميعاً هنا ولم أعد أعمل». أبوطارق مثل معظم الفلسطينيين يعشق الإنجاب، أنجب العامل البسيط 8 أبناء «بنخلف كتير علشان ما نخلصش وماننتهيش». سألناه: كيف تعيش فى ظل الحصار وعدم العمل؟ قال بنبرة حزينة: أعتمد على المنظمات والجمعيات الأهلية، خاصة وكالة الأونروا تعطينى كل 3 أشهر أكياساً من الطحين، هذا غير معونات مالية من عدد من الجمعيات الأهلية. يعتبر أبوطارق الذى يعيش فى منزل من حجرة واحدة لا تتجاوز مساحتها 30 متراً حاله أفضل من حال الكثيرين من أبناء غزة الذين امتزجت حياتهم بالمعاناة. هناك فى غزة لا توجد تلك القصة الأكثر بؤساً، لكن هناك الكثير والكثير من مظاهر البؤس والألم والمعاناة. فى منزل خال تماماً إلا من حوائطه المتهدمة أكثرها تعيش «نعمة مقداد» التى لا تعرف كم عمرها، لكنها لا تنسى أبداً بلادها وتؤكد أنها من مواليد «المجدل» بفلسطين، كانت دموع الختيارة العجوز تنهال من عينيها وهى تروى مأساتها مع الوحدة والألم «أعيش هنا فى هذا البيت المتهدم وحدى، مات زوجى منذ أكثر من 34 سنة، حكم على القدر أن أبقى ولا أموت لأشاهد ما يحدث بفلسطين، وأعانى مثل بلادى..» تصمت قليلاً لتمسح دموعها وتكمل: هنا فى هذا المنزل أعيش بلا ماء ولا كهرباء ولا أثاث، أعيش على معونات الجمعيات الخيرية ترمى لى كل 3 أشهر كيساً من الدقيق، المعونة لا تكفى وأحياناً أكمل طعامى من صدقات الناس.. تصمت ثانية ثم تضيف بصوت خافت: «تعرف.. لم آكل اللحم منذ فترة وفى رمضان الماضى لم أذق طعم اللحم، والآن فى هذا الصيف أشرب الماء ساخناً»، لم يختلف حال بنت المجدل عن أحوال باقى سكان المخيم الفقير، نفس الحكايات نفس الألم نفس القسوة والمعاناة. تركنا الختيارة العجوز وحدها وغادرنا مخيم الشاطئ الأكثر بؤساً بين المخيمات الثمانية، وذهبنا إلى عزبة عبدربه قرب الحدود مع إسرائيل. كانت المنطقة من قبل جنة -حسبما قال لنا سكان العزبة- مئات الأفدنة من زراعات البرتقال دمرت وعشرات المنازل هدمت فى الحرب الأخيرة، ولم يبق غير الأطلال، فى خيمة صغيرة معلق فوقها علم فلسطين كان محمد عبدربه وأسرته كبيرة العدد يعيشون على أطلال منزلهم الذى هدمته صواريخ طائرات «إف 16» يعانى محمد عبدربه من إعاقة بسيطة فى قدمه جراء إصابته أثناء القصف، ورغم ذلك يبدو هذا الفلسطينى العاطل أيضاً عن العمل -60٪ من سكان القطاع عاطلون عن العمل- راضياً بحاله، كان يحكى لنا مأساته والابتسامة لا تفارق شفتيه وهذا أحد أسرار القوة الفلسطينية: «أعيش أنا وأسرتى هنا فى هذه الخيمة بنتها لنا جمعية تركية جاءت لمساعدتنا بعد ما هدم الإسرائيليون بيتى»، يصمت الرجل ويبلع ريقه ويكمل: «كان هذا البيت مكوناً من ثلاثة طوابق كنت أعيش فيه أنا وأسرتى والآن بقيت وزوجتى وأبنائى على أنقاضه. لن نترك مكاننا، فهذا ما يريده اليهود، يريدون إفراغ كل الشريط الحدودى من سكانه، ونحن هنا على بعد مئات الأمتار منهم، لكننا لن نترك أراضينا، صحيح جرفها اليهود لكننا هنا باقون».. نسأله كيف تعيش وأسرتك فى هذه الخيمة؟ يقول: «وأين أذهب. هناك الكثير من جيراننا خرجوا من العزبة وتركوا أراضيهم بعد أن جرفها اليهود لكنى هنا أنا وأسرتى نعيش فى تلك الخيمة، نهاراً وفى المساء حين أخلد وزوجتى للنوم ندخل للخيمة وينام ابنى فى الخارج فى العراء عرضة للكلاب والحيوانات»، عندما بدت الدهشة على وجهى نظر لى بقوة مؤكداً: «ماذا نفعل، هذه حياتنا لابد أن نعيش لكننا نعيش فى ظروف صعبة جداً، حصار قاس من ناحية، وانقسام مرعب من ناحية أخرى، نفسى أبنى بيتى لكن الانقسام عطل كل شىء، فلوس إعمار غزة موجودة فى البنوك ولكن المشكلة أن حماس طالبت بالحصول على هذه الأموال، وقالت نحن الحكومة الشرعية والسلطة، وفتح قالت نحن الشرعيون وهذا الخلاف والانقسام أضاعنا نحن وجمد أموال إعمار غزة، وفى النهاية كما ترى نبيت فى الخيام وأبناؤنا فى العراء». هنا فى عزبة عبدربه استشهد أكثر من 30 شهيداً من عائلة واحدة هى عائلتى عائلة عبدربه ولكن للأسف دماء هؤلاء الشهداء راحت ولم تشفع عندهم لإعمار البيوت والمنازل، وأضاف: «أنا زعلان من الحكومات، والجمعيات قالوا لنا سنبنى لكم بيوتكم ولم يساعدنا أحد». تركنا عزبة عبدربه المدمرة تماماً وذهبنا إلى حى السلام شرق جباليا لا يبدو اسم الحى بادياً عليه، فالدمار يعم كل شىء، أهالى الحى المتهدمة بيوتهم ينتظرون معونات منظمات الإغاثة، ولحين وصولها لم يجدوا غير ركام بيوتهم المتهدمة يستخرجون منها بقايا الحديد النادر وجوده فى القطاع المحاصر ويبيعونه مرة أخرى. أمام منزله المتهدم كان أحمد محمد خضر، يجلس وأبناؤه يستخرجون الحديد الباقى من ركام منزله ويعيدون بيعه مرة أخرى، يقول: «كنت أعيش هنا أنا وأسرتى كبيرة العدد وفى الاجتياح الأخير قصف الاحتلال منزلنا، وأنا لا أعمل مثل الآلاف من أبناء القطاع كنت أعتمد على إيجار ثلاثة محال فى بيتى، كان البيت هو نتاج شقى عمرى، كنت أعتقد أن هذا البيت سيكون أماناً لى ولأولادى من غدر الزمن، لكن جاء الإسرائيليون ليدمروه تماماً، والآن بعدما هدم البيت لم أجد غير استخراج الحديد منه لبيعه. أفك أنا وأبنائى الحديد ونبيعه لنجد ما نأكله». سألناه: بكم تبيع هذا الحديد؟ قال: بحوالى 2500 شيكل. - وهل تكفيك؟! قال بخجل: الحمد لله هناك عدد من الجمعيات الأهلية تقدم لنا المساعدات. على بعد خطوات من عميد عائلة خضر كان شاب صغير يجلس وسط أطلال بيته، قال: اسمى عبدالرحيم جنيد كنا نعيش وأسرتى هنا فى منزل مكون من 3 طوابق به 6 شقق لكن كل شىء راح وقصف اليهود البيت وهرب الجميع وترك إخوتى البيت، وأجروا شققاً أخرى غالية جداً يصل إيجارها إلى 300 دولار فى الشهر، وبقيت أنا وأمى هنا نعيش فى خيمة مع حيواناتنا نعتمد على المعونات وننتظر مساعدات الحكومة لبناء البيت مرة أخرى، لكن ماذا نفعل والمساعدات لا تصل والسفن أيضاً لن تصل إلينا فى ظل الحصار الإسرائيلى علينا، قال الشاب الفلسطينى المنفعل: «إسرائيل تريد أن تخنقنا لكننا سنستمر وسنقاوم».