حين تكون الكتابة هواية لا مهنة يصبح من العبث إلزام النفس في موعد محدد إمساك القلم إن لم تكن الفكرة ضاغطة وملحة ، وهذا ماحدث لي فقد سئمت حديث السياسة وتعبت النفس من سماع القصص الغنية بالمعاناة ، فقررت مهادنة الروح والبحث عما يجلي قلقها وتوترها فمددت يدي لمكتبة الموسيقى واخترت قرصا مدمجا بشكل عشوائي فانسابت أمواجا شعرية لتصنع لحظات من الإبداع حين سمعت " يا من لعبت به الشمول ... ما ألطف هذه الشمائل ... نشوان يهزه دلال ... كالغصن مع النسيم مائل ... لي فيك قد علمت عشق ... لا يفهم سره العواذل " فتساءلت من منا لم يطرب وجدانه لروائع الكلم المعروفة بالموشحات ؟ ذلك اللون الشعري الذي يحمل أصالة عربية متجذرة لا تخطئها الذائقة السليمة ومن ينقب في تراثنا الراقي سيجد تميزهذا الفن لغة وشعرا وتاريخا لارتباطه بحضارة الأندلس حتى صار دالا عليها ورمزا لها وأضحى تحفة أصيلة رائعة في زمن أتخمتنا فيه الفضائيات بالابتذال والانحطاط والرداءة التي كنا نحسبها عابرة . في موشح آخر " العيون الكواحل سابوني .. آه آه ولذيذ المنام أحرموني .. وجرى دمعي من عيون هامل (فاضت) .. آه آه يا رفاقي ساعدوني " نجد أنه جمع بين الفصحى والعامية مما أسهم في انتشار هذا الفن في الأوساط الشعبية ثم انتقل للقصور والطبقة الراقية ، ومعروف أن أشهر شعرائه أبو حسن علي الضرير صاحب (ياليل الصب) والمعتمدبن عباد ولسان الدين بن الخطيب صاحب (جادك الغيث) التي اشتهرت باسم (بالذي أسكر). والموشحات المتوارثة كاللوحة التشكيلية لا يجوز تغيير معالمها ولذلك اكتسب هذا القالب قدرة على التماسك عبر الزمن واتسم أداءه بالانضباط والدقة المتناهية وصنف كفن من الذوق الرفيع يجتذب جمهورا خاصا يبحث عن فن شرقي اصيل بعد سنوات من التغريب والتجريب . والموشح لفظة مشتقة من كلمة " الوشاح " أي الرداء الموشى بالزخارف والمرصع بالجواهر، وله أغراض عدة كالغزل والوصف والمدح والذكريات ، ويختلف عن ضروب الشعر العربي لالتزامه بقواعد معينة وخروجه عن أوزان الشعر المعروفة، ويعود تاريخه لنحو ألف عام بفضل شعراء الأندلس الذين أقدموا على تغيير شكل القصائد التقليدية ذات الوزن والقافية الواحدة وانتهجوا أسلوب تعدد القوافي وظهرت له ثلاث مدارس: الأندلسية والحلبية (التي التزمت بالموشح الديني في مدح الله ) والمصرية ، وينسب ابن خلدون فن الموشحات للشاعر الأندلسي محمد بن محمود القبري ، ومما زاد في ازدهاره انتقال عالم الموسيقى زرياب تلميذ اسحق الموصلي من بغداد (فترة هارون الرشيد ) إلى الأندلس (فترة الخليفة محمد بن عبد الرحمن ) واستقراره بها. ومن أشهر الموشحات ( لما بدا يتثنى لزرياب ) و ( يا شادي الألحان، ويا غصين البان، والعذارى المائسات لسيد درويش ) و ( العيون الكواحل وملأ الكاسات ومقدمة كلا من قدك المياس وكامل الأوصاف ) وبحزن دفين ورومانسية خاصة شدت فيروز للشاعر لسان الدين الخطيب ( جادك الغيث ) يحكي فيها مأساة الأندلس التاريخية التي انهارت معها حضارة عربية متقدمة أدبا وفلسفة وعلوما حيث يقول مطلعها : جادك الغيث ... إذا الغيث هما ... يا زمان الوصل بالأندلس ... لم يكن وصلك حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس .