في ختام جولة ماراثونية من المفاوضات الشاقة استمرت أربعة أيام، توصلت إيران والقوى الكبرى لأول اتفاق تاريخي مرحلي في جنيف يكون ساريا لمدة ستة أشهر لاحتواء البرنامج النووي الإيراني، وهو ما يفتح آفاقاً واسعة وأملاً بالخروج من أزمة مستمرة منذ أكثر من عشر سنوات، وأثناء هذه الفترة سيسعى الطرفان للتوصل إلى اتفاق أشمل يتم بمقتضاه إزالة جميع المخاوف بشأن برنامج إيران النووي وإلغاء العقوبات المفروضة على طهران نهائياً. هذا الاتفاق الذي يوقف أكثر أنشطة إيران النووية حساسية عبارة عن حزمة خطوات لبناء الثقة من أجل تخفيف عقود من التوتر والمواجهة وإبعاد شبح اندلاع حرب في الشرق الأوسط بسبب طموحات طهران النووية. ولعل أبرز النقاط في الاتفاق الذي أُبرم في 23 نوفمبر 2013 بين طهران ومجموعة الدول الست (الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين الى جانب المانيا) بحسب البيت الابيض هي مايلي: أولاً: يخفف الاتفاق بعض العقوبات التي فرضت هذه الدول للضغط على إيران لكي توقف برنامجها النووي الذي تشتبه واشنطن وحلفاؤها بأنه يخفي شقاً عسكرياً رغم نفي طهران المتكرر لذلك، وذلك مقابل قيام ايران بالحد من انشطة برنامجها النووي وفتحه أمام عملية تفتيش دولية اوسع لمدة ستة اشهر فيما يجري التفاوض على "حل كامل". ولكن مقابل تأكيد إيران على أنه تم "الاعتراف" بحقها في تخصيب اليورانيوم، أكد البيت الأبيض أن الاتفاق "لا يعترف بحق التخصيب" من قبل ايران. التزامات إيران و"5+1": وبحسب الرئاسة الأمريكية فإن إيران وافقت على النقاط التالية: 1 قبلت وقف كل أنشطة تخصيب اليورانيوم "بنسب تفوق 5% وتفكيك العملية التقنية اللازمة للتخصيب بنسب تفوق 5%". وتعهدت بالتخلص من مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة حوالي 20% من خلال تذويبه. 2 تعهدت بعدم بناء أجهزة طرد مركزي جديدة لتخصيب اليورانيوم ووقف التقدم نحو تشغيل مفاعل في مصنع أراك (النووي) الذي يمكن أن ينتج البلوتونيوم. وقبلت بألاّ تبني مصنعاً قادراً على استخراج البلوتونيوم من الوقود المستخدم. 3 قبلت بأن تسمح بوصول خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشكل يومي إلى مواقعها وأن تعلن معطيات عن كيفية عمل مفاعل أراك. ومن جهتها أعلنت الدول الست "5+1" والتي تضم الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن والمانيا الموافقة على: 1 تخفيف العقوبات بشكل "محدود ومؤقت ومحدد الأهداف ويمكن أن يتم الغاؤه" وتصل قيمته الى حوالى سبعة بلايين دولار. 2 تلتزم بعدم فرض عقوبات جديدة خلال فترة الستة اشهر إذا احترمت إيران تعهداتها. 3 تعليق "بعض العقوبات على الذهب والمعادن الثمينة وقطاع السيارات والصادرات البتروكيميائية الايرانية" وتسمح "بعمليات اصلاح وتحقق في ايران لبعض شركات الطيران الايرانية". 4 بتحويل مبلغ قيمته حوالى 4.2 بليون دولار من مبيعات النفط الايراني الخاضع لعقوبات خلال فترة الستة اشهر. وفي المقابل، معظم العقوبات التجارية والمالية الأميركية تبقى سارية وكذلك كل العقوبات المفروضة بموجب قرارات مجلس الامن الدولي. صفقة "توازن القوى" مكاسب لكل الأطراف: ومن خلال قراءة بنود الاتفاق المرحلي نستطيع القول أنه يحقق العديد من المكاسب السياسية لكل الأطراف، فإذا كان الغرب يخشى من القنبلة النووية الإيرانية، إلا أنه يضمن حق إيران النووي، وإذا كان الغرب قد فرض العديد من العقوبات على طهران إلا أنه هو الآخر أصابه الضرر من جراء تلك العقوبات. وإذا كانت إيران تسعى إلى تحقيق أهداف اقتصادية من جراء هذا الاتفاق وهو تخفيف حدة العقوبات عليها، فإن الغرب عامة والولاياتالمتحدةالأمريكية خاصة تسعى إلى تحقيق أهداف سياسية وهو تشكيل خريطة الشرق الأوسط من جديد بعد ثورات الربيع الغربي التي لم تأت بنظام ديمقراطي ليبرالي واحد كما كانت تتوق أمريكا، حيث لم تشهد مصر تطوراً يلبي طموحات واشنطن، وآلت سوريا إلى حرب أهلية ، ووجدت ليبيا نفسها على حافة الفوضى، وبات في حكم اليقين استحالة حدوث أي انتفاضة في إيران. وحتى لو حدث ذلك، فمن المحتمل ألا تعود النتائج بالنفع على الولاياتالمتحدة. أما من الناحية الاقتصادية المادية البحتة، فإن السماح لطهران ببيع بعض منتجاتها البتروكيماوية، ثاني أكبر صادراتها والتي تقدر بنحو 11 مليار دولار العام الماضي، وصناعة السيارات من الأجزاء التي تدخل إلى البلاد، سيمنح الاقتصاد الإيراني الفرصة لخلق فرص عمل جديدة. والفكرة من وراء ذلك خلق إجماع موسع داخل إيران للتوصل لاتفاق أكبر اتفاق يعيد المنشآت النووية إلى سابق عهدها، وتفكيك أجهزة الطرد المركزي والسماح للمفتشين بوصول أكبر إلى المواقع المشتبه بها في مقابل مزيد من رفع العقوبات. فضلاً عن أن الوصول إلى الأموال المجمدة أمر بالغ الأهمية بالنسبة للإيرانيين في وقت يشهد فيه إنتاجهم المحلي الإجمالي تراجعا. ووفقاً لتحليل اقتصادي مستفيض لمارك دوبويتز، مدير مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن، يقدر احتياطيات النقد الأجنبي المجمدة لإيران بنحو 80 مليار دولار، لكنها لا تستطيع الوصول إلا إلى ربع هذا المبلغ فقط. علاوة على 10 مليارات دولار إضافية مجمدة في البنوك الأوروبية، أما الخمسون مليارا الأخرى فهي مجمدة في الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا أكبر مستوردي النفط الإيراني. وفي ظل العقوبات الحالية، يسمح لإيران بأن تنفق المال فقط على السلع الإنسانية أو المنتجات غير الخاضعة للعقوبات من الدول التي توجد بها هذه الأموال، ولا يمكن إعادة هذا المال إلى طهران. وأخيرا، يمكن القول أن الاتفاق الإيراني الغربي سيمهد الطريق لخلق توازن جديد في علاقة طهرانبواشنطن، وثمة حقائق أجبرت الولاياتالمتحدة على إعادة تقويم علاقاتها مع إيران، في الوقت الذي كان فيه على إيران أن تعيد تقويم علاقاتها مع الولاياتالمتحدة. فلم يكن أمام الولاياتالمتحدة، سوى استخدام ورقة العقوبات على إيران. وفيما يتعلق بالمسألة الأوسع نطاقًا بشأن إدارة المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، كان على الولاياتالمتحدة البحث عن مزيد من الخيارات. فلا يمكن أن تعتمد كلياً على السعودية، التي لها مصالح إقليمية مختلفة بشكل كبير. ولا يمكن أن تعتمد كلياً على إسرائيل، والتي لا يمكن بمفردها حل المشكلة الإيرانية عسكرياً. لذلك سيكون هذا الاتفاق بمثابة النواة الأساسية التي يرتكز عليها تفاهم أمريكي إيراني أكبر في منطقة الشرق الأوسط، في ظل برودة العلاقات الأمريكية السعودية، وانتشار النفوذ السني بالمنطقة، لذا سيستغل الإيرانيونالولاياتالمتحدة لإصلاح اقتصاد بلادهم، وسيستغل الأمريكانإيران لخلق توازن في القوى مع الدول السُنيّة. وسيؤدي ذلك إلى منافع غير مباشرة لكلا الجانبين. ستفتح المشكلات المالية الإيرانية الطريق أمام شركات الاستثمار الأمريكية. وستؤدي حاجة الأمريكيين إلى توفير توازن في القوى إلى إعطائهم للإيرانيين بعض الثقل ضد أعدائها في المنطقة. وفكرة توازن القوى لا تعني قطيعة مع السعودية، أو إسرائيل. ولن تنجح فكرة توازن القوى إلا إذا حافظت الولاياتالمتحدة على علاقات قوية من جميع الأطراف.