رغم أن معدل نزف الدماء في الأزمة السورية الحالية أعلى كثيرا من معدلها أثناء الثورة السورية قبل مقتل القذافي وتحرير ليبيا في 20 أكتوبر الماضي، إلا أن الحل العسكري لا زال مترددا في حل هذه الأزمة، بل لا يمكن أن نقول إن ثمة إجماعا عربيا شاملا تجاه نظام بشار الأسد الذي يملك العديد من الأرواق الدولية والإقليمية والداخلية أيضا التي يجيد اللعب بها -وهو متخصص في اللعب بأوراق الآخرين- من قبيل العلاقة مع إيران والمحور الشيعي، للتهديد بإشعال المنطقة وللإصرار على تشويه الثورة، للعب بالورقة الطائفية خارجيا، لمحاولة تدجين بعض أجنحة المعارضة وتجييرها لصالحه إجماعا على رفض التدخل الخارجي وهو ما أكده اجتماع الرباط في 16 نوفمبر الماضي، بإعطاء فرصة للنظام ثلاثة أيام قبل التدويل، تنفيذا لوقف العنف ونزيف الدماء وتنفيذ الإصلاحات، بعد أن علقت الجامعة العربية عضويتها قبل ذلك بأيام... وبينما كان رد النظام وأنصاره في الداخل السوري هو الاتهام والتجرؤ والهجوم على السفارات والتماهي مع اللغة الصدامية والصحافية قبل حرب العراق سنة 2003، تحولت مواقف العديد من القوى السياسية والأيديولوجية للتعاطف مع النظام السوري، سواء ضد الثورة أو ضد الجامعة العربية وقرار التعليق، في خط طويل يبدأ من حزب الله وحكومة ميقاتي حتى محمد البرادعي مدير وكالة الطاقة الذرية السابق والمرشح المحتمل للرئاسة المصرية والعديد من الأحزاب القومية والدينية في نفس الوقت.. فضلا عن فشل توحد المعارضة حتى تاريخه 17 نوفمبر بعد مرور مهلة الأيام من دعوة الجامعة العربية لها بالاجتماع في مقرها للترتيب للمرحلة الانتقالية.. وكذلك لا زال الموقفان الروسي والصيني متصلبين عند موقفهما من رفع الغطاء عن نظام بشار الأسد، وهو ما تجلى في زيارة وفد المجلس الوطني التأسيسي لموسكو يوم 15 نوفمبر الذي باءت فيه محاولة الوفد إثناء موسكو عن موقفها المساند لنظام بشار والانتصاف لشعب سوريا وفق هؤلاء الممثلين له!! معوقات الحل العسكري: 1- ميل عربي رسمي وغير رسمي بل ومعارض سوري بدرجة ما لرفض التدخل الخارجي الغربي، والتنسيق مع تركيا والجامعة العربية فقط. 2- شتات وعدم توحد المعارضة السورية وأطيافها الكبرى حتى تاريخه (المجلس الوطني السوري - الهيئة العامة للثورة السورية - الهيئة الوطنية). 3- الطبيعة الجيوطائفية في الداخل السوري التي غذتها دعاية النظام وبعض القوى من الخارج السوري مثل البطريرك الماروني بشارة الراعي بتخوفاته من خريف مسيحي ودعمه لنظام الأسد. 4- التحالفات الإقليمية لسوريا.. شبكة العلاقات الأيديولوجية والطائفية لسوريا في المنطقة مع حزب الله ومع حماس وحركة الجهاد الإسلامي فضلا عن إيران ومؤخرا القوى الشيعية في العراق، التي تسيطر على الحكومة.. 5- يبدو الموقف الغربي بتدخل عسكري غير حاسم حتى تاريخه، سواء في إعلان استبعاد الخيار العسكري لحل الأزمة أو اختلاف مواقف الدول العربية وتأزم بعضها الآخر، وعدم نموذجية هذا الدور في كل من العراق وليبيا من قبل، وكذلك يبدو الموقف المصري الذي رفض سحب السفير على لسان وزير الخارجية المصري بعد قرار الجامعة بالتعليق.. خيار تفكك النظام: يبدو ممكنا - بعد القرارات النوفمبرية السابقة ورفع غطاء الشرعية عن النظام السوري - الرهان على تفكك النظام الذي توالت ارتجافاته واعتذاراته وتعهداته وعيا بهذه القرارات، وهو ما يؤكد وعيه بإمكانية سقوطه دون عسكرة خارجية للصراع عبر ثلاثة مؤشرات: 1- الأزمة الاقتصادية للنظام: تبدو الأزمة الاقتصادية التي تزداد ضخامة وعمقا رهانا معقولا لسقوط نظام بشار في ظل العزل العربي والدولي القائم عليه، وقد أتت بشائره عبر إعلان شركة توتال في 14 نوفمبر عدم دفع حكومة بشار المستحقات عليها من نفط الشركة. - يتوقع أن يخسر نظام بشار حوالي 3.5 مليار دولار في حال عزل النظام السوري وتنفيذ الحظر الجوي والمائي عليه. 2- الانشقاقات داخل الجيش (الجيش السوري الحر): يتوقع في حال فرض منطقة عازلة بالقرب من الحدود التركية وهو الخيار الأقرب للتوجه التركي أو فرض حظر جوي وهو مطلب المعارضة لإعطاء مساحات من الأرض الآمنة والدفع بمزيد من الانشقاقات داخل الجيش والانضمام للجيش السوري الحر بقيادة رياض الأسعد المقيم في منطقة الحدود التركية، وتنشط وحداته في حمص وإدلب، وهي الانشقاقات التي يبدو أنها تتوجه لعمليات أكثر نوعية بعد استهدافها يوم 16 نوفمبر مؤسسة عسكرية جوية للمخابرات السورية، ويبدو أن فرض الحظر الجوي سيزيدها زخما، ويكرر السيناريو الليبي في سوريا وهو ما لم يحسم بعد! 3- إشغال إيران أو تحييدها: لم يصدر رد فعل إيراني رسمي على قرار جامعة الدول العربية، أو على تطورات الموقف السوري، بل صدرت انتقادات نجادية ورسمية إيرانية لنظام بشار في الفترة السابقة، كما تبدو إيران متوترة تجاه المعركة ضد تجسسها وعملياتها ضد السفير السعودي في الولاياتالمتحدة أو السفارة السعودية في البحرين والأزمة الطائفية في البحرين.. فهل هذا الصمت الإيراني يعني إمكانية تحييد ايران وانشغالها بنفسها، أم أنه الاستعداد السري للمواجهة وهو ما قد يهدد بحرب إقليمية تشعل المنطقة وتكون أقلها سوءا خطيرة في كل الأحوال، رغم الاستعدادات المختلفة للعديد من الدول، ولكن قد يكون "تسونامي" عربيا جديدا يشبه زلزال سقوط بغداد الذي لم تنته آثاره حتى الآن. هل يطور النظام استراتيجيته؟ طوال الأزمة السورية التي بلغت أشهرها العشرة قبل قليل، تبدو استراتيجية النظام بسيطة ألا وهي نشر وحدات الجيش والأمن كاملة في مناطق الاضطرابات حول درعا وحماة ودير الزور وإدلب وحمص واستخدام الرصاص الحي لإرعاب أولئك "المترددين" بحيث لا ينقلون الاحتجاجات إلى الميادين الرئيسية لدمشق وحلب والاعتماد على فيتو روسيا والصين ضد قرارات مجلس الأمن والإشارة إلى بيانات الدول الغربية والإقليمية بأن الحل العسكري "غير مطروح على الطاولة" وإنهاك المحتجين حتى يعودوا إلى بيوتهم وإطلاق مبادرة "إصلاح" يعتمد فيها النظام على أقوال لا أفعال، ولكن كلما زادت مناورته تأججت احتجاجات الناس وزاد الدم في الشعب وسقطت معه وسالت شرعية النظام الذي يصر المحتجون على إسقاط شرعيته بالكلية ومعهم العديد من القوى الدولية وأخيرا الجامعة العربية. الموقف الأمريكي تجاه السياسة السورية: دعم صناع السياسة الأمريكيون الحركة الاحتجاجية السلمية في سوريا مع زيارات للسفير روبرت فورد لمدن محاصرة مثل حماة لإلقاء الضوء على انتهاكات النظام لحقوق الإنسان، وتعرض في بعضها لإهانات من الموالين لبشار، كما التقت السفارة أيضا مع السوريين على أرض الواقع وذلك للوصول إلى أدق قياس لوِجهة الصراع. وهو ما ازداد بنظام عقوبات قوي. وبعد إعلان الرئيس أوباما في أغسطس الماضي أن الرئيس الأسد يجب أن "يتنحى" فعَّلت واشنطن الأجزاء المتبقية من قانون محاسبة سوريا من عام 2004 ووسّعت نطاق تصنيفات وزارة الخزانة لمسؤولي ومعاوني النظام وأعلنت حظر مبيعات النفط السوري. كما نجحت الإدارة في جذب الدعم من دول الاتحاد الأوروبي للدعوة أيضا إلى رحيل الأسد وتبني إجراءات مماثلة، التي تمثل فرنسا ووزير خارجيتها آلان جوبييه فرس الرهان فيها. ومع استخدام النظام للقوة الوحشية للحفاظ على قبضته على السلطة ومع اتباع السوريين على نحو متزايد لمسارات موازية من مقاومة سلمية ومسلحة لنظام الأسد تحتاج الولاياتالمتحدة الآن إلى تطوير خطة موحدة للتحضير لكل حالات الطوارئ وإزالة نظام الأسد. وكلما طال تماسك النظام كلما أصبح الصراع أكثر دموية وطائفية مع احتمال تمدده على الأرجح إلى الدول المجاورة. خطة مقترحة أمريكيا: • تشكيل مجموعة اتصال سورية: كانت إدارة أوباما حتى الآن حذرة لئلا "تتصدّر" حركة الاحتجاج السورية أو الحلفاء الإقليميين المتموضعين جيداً للمطالبة بالضغط على نظام الأسد. وأمام فشل نظام الأسد في تنفيذ مبادرة الجامعة العربية صار مطروحا على إدارة أوباما أن تطالب رسميا بتشكيل مجموعة اتصال سورية ترعى ضغطا موحدا متعدد الأطراف -- وهي الطريقة التي نجحت مع دمشق تاريخيا كأفضل ما يكون -- وتطوير استراتيجية لإنهاء نظام الأسد. • تطوير استراتيجية لحرمان نظام الأسد من داعميه: إن نظام الأسد مكوّن من أقلية تهيمن عليها الجماعة العلوية التي يتكون جوهرها من فروع شيعية بِدعية مماثلة (علويون ودروز وإسماعيليون) يُشكلون قيادة الهيئات العسكرية والأمنية. بيد أن استقرار النظام يعتمد أيضا على مجموعات أخرى لها روابط عائلية وتجارية موسعة مع دول غربية أبرزها رجال أعمال مسيحيون وسنة. وخطة استخدام عقوبات أمريكية واتحاد أوروبية وتركية مدروسة ضد أعتى مناصري النظام سوف -لو استُخدمت في ظروف سياسية مفصلية- تُضعف قبضة النظام على السلطة بشكل كبير. • تعزيز خطة المعارضة السورية: إن الخوف الذي ولّده قمع النظام والاختلافات الثانوية بين شخصيات المعارضة والحكم الاستبدادي الذي استمر فترة تزيد على أربعين عاما قد أعاقت مقدرة المعارضة السورية على التخطيط. وليس واقعيا أن نتوقع أو نطلب من المعارضة السورية التوصل إلى استراتيجية مقاومة مدنية مثل تلك التي استخدمها المحتجون المعارضون في بلغراد أو القاهرة لإسقاط النظام هناك. لكن الأحرى بالولاياتالمتحدة أن تساعد المعارضة السورية على تطوير استراتيجية مقاومة مدنية تُوسع الاحتجاجات لتشمل تكتيكات مثل المقاطعة والإضرابات العامة. وسوف يُعظم هذا من القوة السياسية لحركة الاحتجاجات السلمية. • دعوة مراقبي حقوق الإنسان: إن نظام الأسد يريد ببساطة أن يدفن انتهاكاته لحقوق الإنسان. ولذا ينبغي على الولاياتالمتحدة أن تسهل -إلى جانب دبلوماسيين من نفس التوجه من دول متحالفة- نشر مراقبين لحقوق الإنسان على أن يكون من بينهم أناس من دول عربية وتركيا وذلك لإبقاء قمع نظام الأسد تحت الضوء. • الاستعداد لعسكرة الصراع: مع إعاقة روسيا والصين لقرار مجلس الأمن وتزايد القتال على يد المنشقين حول حمص وغيرها فإن فرص الحرب الطائفية تزيد أيضا. كما أن العناصر الإقليمية (دولاً أو أفراداً) ولكونها ترى في هذا واجبا أخلاقيا واستراتيجيا ستُسحب في الغالب إلى ما يمكن اعتباره صراعا بالوكالة. ولهذه الغاية سوف تحتاج الولاياتالمتحدة إلى أن تستكشف مع حلفائها إمكانية إنشاء مناطق "حظر الطيران" أو "حظر الزيارة" أو مناطق عازلة كسُبُل لاحتواء الصراع والمساعدة على حصد الدعم للمعارضة السورية. • الدعوة لاستصدار قرار من قبل مجلس الأمن الدولي: إن فشَل مبادرة الجامعة العربية من الأسبوع الماضي لإنهاء العنف قد ساعد على فتح الباب للولايات المتحدة والأوروبيين للعودة إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار بشأن سوريا. وعلى الرغم من أن روسيا والصين قد اعترضتا على الإجراءات الماضية إلا أنهما ستجدان من الصعب على نحو متزايد مواصلة ذلك لا سيَّما مع فشل المساعي العربية في التفاوض على تسوية آمنة للأزمة. وسوف تكون قرارات مجلس الأمن بمثابة أساس لتعظيم الضغط متعدد الأطراف وخاصة بالعقوبات الشاملة والاستخدام المحتمل للقوة في المستقبل. تعليق وتساؤل: يبدو خيار العسكرة في حل الأزمة السورية مرعبًا وخطيرًا في كثير من الأحيان رغم تسارع مساره في نوفمبر الحالي، ولكن استراتيجيا قد يهدد هذا الخيار الخريطة السياسية الإقليمية عبر العديد من المؤشرات: 1-الصحوة الشيعية واحتدام الصراع الطائفي في المنطقة. 2-احتمال قيام حرب إقليمية يكون طرفاها الإجماع الدولي وإيران. 3-احتمال تصاعد الحركات الأصولية من جديد كما كان في الحرب الأمريكية على العراق عام 2003.. حيث مثلت العراق أفغانستان جديدة ومبررا لاستمرار صعود القاعدة والجهادية المعولمة المضادة للتوجهات الأمريكيةوالغربية رغم شرعية بعض هذه التوجهات. 4-ازدياد موجة العداء للأنظمة والولاياتالمتحدة، حيث تتراجع شرعية الأخيرة بعد اعتراضها طريق الاعتراف بدولة فلسطين في الأممالمتحدة في سبتمبر الماضي، وحرمانها منظمة دولية كاليونسكو من دعمها حين صوتت بالاعتراف بدولة فلسطين، واستمرار تجاهل الملف النووي الإسرائيلي .. إن الولاياتالمتحدة بحاجة لمساواة مكاييلها في ظل فجوة كبيرة بينها تنفذ من بينها قوى نزع الشرعية عن المنظمات الدولية وعن حلفائها وعنها في آن واحد.. أسئلة لا شك بحاجة لطرح فيبدو أن عالم العرب بعد الربيع العربي لا يتحمل زلازل كبيرة من نوع الحرب الطائفية في المنطقة..