هل امتدت ثورة 25 يناير المصرية إلى القانون والدستور؟ هل لمست الوعي الحقوقي للمصريين، وغيرت موقفهم من مختلف التشريعات؟ «الدستور، أيُّ دستور، مهما بلغت مثاليته»، يقول د. سليمان عبدالمنعم، الأستاذ بكلية الحقوق في جامعة الإسكندرية، «لا يؤسس بذاته مجتمعاً ديمقراطياً ناضجاً». وهذا يعني، يضيف أستاذ القانون في محاضرته بندوة «القرين» في الكويت، أن نجاح الدستور المصري الجديد، في التعبير عن روح هذه الثورة، يتطلّب ثلاثة أمور هي أولاً مجموعة قيم ثقافية وممارسات اجتماعية لدى الجماهير والنخب السياسية، ثانياً، أن يقوم الدستور على أسس ودعائم مركزية واضحة في أصولها وفروعها، والأمر الثالث وجود منظومة متكاملة من الآليات والوسائل التي تضمن تطبيقه. وهذا يعني باختصار، أن «الدستور ليس زراً تضغط عليه الشعوب، فتنهال عليها الحقوق والحريات وتنعم بسيادة القانون وتوازن السلطات، بل هو مخزون مكتوب وغير مكتوب لمجموعة من القيم الثقافية والممارسات الاجتماعية. فأين المجتمع المصري بجماهيره ونخبته من هذه القيم والممارسات؟». لنأخذ قيمة الحرية مثلاً أو قبول الاختلاف أو احترام الإرادة الشعبية. أحداث ما بعد 25 يناير، يقول د. عبدالمنعم، «كشفت عن خلل في فهم المصريين لقيمة الحرية، فتحوَّلت إلى حالة من الفوضى والانفلات ضد الآخرين وضد المجتمع وضد الدولة كسلطة لحفظ النظام والأمن ... وما يصعب فهمه أو تبريره هو استمرار حالة الفوضى والعنف على نحو منهجي لمدة طويلة». قد يقول قائل بأن المصريين المنخرطين في الأعمال التخريبية والعدائية من قوى الثورة المضادة و«الفلول»، إلا أنهم في نهاية المطاف، يقول د. عبدالمنعم من المصريين، «ما يعني في الحالتين أن مفهوم الحرية لم يتجذَّر بعد في وعي المصريين وسلوكهم». الأكثر تسبباً في قلق أستاذ القانون، افتقاد المصريين لقيم الاختلاف، حيث يكاد يصل المجتمع منذ الثورة إلى حد الانشطار. خذ مثلاً رفض الآخر الإسلامي. وهو رفض ثلاثي الأبعاد يشمل المكون الفكري لأيديولوجيا المشروع الإسلامي، ورفض سياسي مبعثه عدم احترام الإرادة الشعبية التي أتت بالإسلاميين، ورفض نفسي مبني على الأحكام المسبقة والهواجس. وهكذا، «ترتب على افتقاد قيمة قبول الاختلاف حالة من التشكيك يلزم لتبديدها سنوات من الثقة المتبادلة». ولكن هل يقع اللوم كله على معارضي الإسلاميين المتخوفين منهم، أم أن الجماعات الإسلامية من إخوان وسلف ودعاة، يثيرون بانتظام مخاوف خصومهم، ويطلقون التهديدات والتصريحات التي تجدد المخاوف وتنكأ الجروح شبه الملتئمة؟ ينتقل الباحث إلى نقطة قلما تثير الإعلاميين والباحثين العرب، فيلاحظ قائلاً، «إن المجتمعات المعاصرة من حولنا تعرف حدة الاختلاف السياسي والفكري، لكنهم لم يصلوا مثلنا إلى هذه القطيعة. فالأحزاب الدينية في إسرائيل وأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا لم تخلق مثل هذا المناخ من الهلع النفسي ولم تصنع مثل هذه الأزمات الخانقة التي نراها في مصر. إن أخطر ما في المشهد المصري الراهن أنه تجاوز خطأ رفض الرأي الآخر، ليرتكب خطيئة رفض الآخر المختلف نفسه! وهنا توئد الديمقراطية! في مصر، تم التشكيك في نجاح الإسلاميين، بل كما يقول د. عبدالمنعم، «تحدثت رموز ثقافية ونخب سياسية، عن رفض القاهريين المتعلمين وميسوري الحال والمتحضرين للدستور الجديد، في مقابل موافقة الفلاحين والفقراء وغير المتحضرين من سكان الوجه البحري والصعيد». فهل يتماشى هذا التعالي مع ما ينص عليه الدستور الجديد من مبادئ المساواة والمواطنة. إن عموم المصريين والنخبة المثقفة، يضيف المحاضر، «كانوا على مدى الستين عاماً الماضية قد فقدوا ذاكرة الممارسة الديمقراطية في أية انتخابات حقيقية، حتى أساتذة الجامعات لم يمارسوا ديمقراطية انتخاب رؤساء جامعاتهم». عارض د. عبدالمنعم القائلين بأن الدستور «لن يكتسب شرعيته ما لم يوافق عليه أكثر من ثلثي المقترعين، وهو الشرط الذي لا مثيل له في أي نظام دستوري في العالم، فهناك دساتير حديثة صدرت بموافقة أقل من ستين بالمائة من أصوات المقترعين». وفي فرنسا تقبل الليبراليون ورئيسهم ساركوزي الهزيمة بفارق طفيف، «بينما ترفض رموز سياسية محترمة حقيقية خسارتها ... ولئن كان هذا هو موقف الأحزاب والتيارات «المدنية»، فإننا لا نعرف ماذا سيكون عليه موقف الأحزاب والقوى الإسلامية حالة خسارتها لانتخابات أو استفتاءات مقبلة؟». ويرفع د. عبدالمنعم نداءه الليبرالي فيهتف مرحِّباً بالنتيجة مهما كانت: «علينا أن نعترف أن التيار الإسلامي قد خرج من صفوف المصريين، واكتسب شرعية ديمقراطية، أيّاً كانت أسباب وجذور ذلك»، بل يرى المحاضر على العكس ثلاث فوائد في وصول التيار الإسلامي للسلطة! الأولى، اختبار رؤية وممارسة التيار الإسلامي على أرض الواقع ... بعيداً عن أدبيات الخطاب الدعوي. الثانية، أن هذا الانتقال من الدعوة والخطابة إلى الحكم والممارسة «لا بد وأن يحدث حراكاً داخلياً عميقاً في صفوف هذا التيار، وسيفرز اجتهادات سياسية وفكرية إسلامية جديدة». الثالثة، أن فوز الإسلاميين سينزل الليبراليين من أبراجهم وعليائهم ... إلى أرض الواقع. فقد ظلت هذه الأحزاب الليبرالية وغيرهم من معارضي الإسلاميين، ولفترة طويلة ذات طابع نخبوي وربما انعزالي، بينما كان الإسلاميون ينشطون في الشوارع والعشوائيات. و«الآن تدق ساعة الحقيقة ويفتح الشارع أبوابه للجميع. لم يعد لائقاً بعد اليوم أن نلوك الحجة التي ظللنا نرددها من دون أن ندري أن فيها إدانة لنا، وهي أن التيار الإسلامي يفوز في صناديق الاقتراع لأنه الأكثر تنظيماً... فماذا يكون الحزب إن لم يكن منظماً؟". صحيح أن الكثيرين، وبخاصة معارضي الأحزاب الإسلامية، يتمنون لو أن التيار الإسلامي ظل يعمل كقوة ضمير أخلاقي، تُلهم المجتمع القيم والمبادئ بعيداً عن مشاكل السياسة وصراعاتها ولكن إذا اختار الإسلاميون العمل بالسياسة، يقول المحاضر، فهذا حقهم الطبيعي، «ويبقى الاختيار للشعب». ولكن د. عبدالمنعم يتغاضى في هذا عن مشكلة أساسية في الصراع بين الإسلاميين والليبراليين أو غيرهم، إذ بينما يمتلك الإسلاميون الحرية كلها في نقد الليبرالية فكراً وعقيدة وسياسة، يتمتع الإسلاميون بحماية قانونية ودستورية في كل أنحاء العالم الإسلامي، تمنع عنهم أي نقد وهجوم عميق وشامل، فكل دساتير هذه الدول تقريباً تعد الإسلام الدين الرسمي للبلاد، أو الرئيس الجمهوري، أو مصدراً أساسياً للتشريع. وهكذا يدخل الإسلاميون وأحزابهم في صراع غير متكافئ مع خصومهم الليبراليين المكبلين والمقيدين والمهددين بالموانع والزواجر، فيما يصول الإسلاميون ويجولون كما يشاءون، ويهاجمون خصومهم «الدنيويين» وقوانينهم «الوضعية» كما يشاءون. غير أن الأمر المؤكد الذي دارت حوله المحاضرة، «أن الدستور وحده لن يصنع بين ليلة وضحاها المجتمع الديمقراطي».
************************** (نقلا عن الاتحاد- الامارات)