كنا صحبة من أربعة، مذيعين ومذيعتين، فى طريقنا من مقر عملنا بالإذاعة المصرية إلى حيث مقار إقاماتنا جميعا، ما بين شارع الهرم ومدينة الشيخ زايد... كان صديقى الذى يمر بمرحلة نقاهة بعد جراحة قلبية كبيرة يتهيأ للنزول مفارقًا إيانا، إلا أنه تباطأ فى ذلك كثيرًا، وكأن لديه رسالة مهمة لا يريد أن يمضى قبل أن يبلِّغها، تجمع فوق جبهته ضيقٌ "وجودىٌ" مُختصِرًا غضبًا أخلاقيًا لا حدود له وهو يقول: "هل يمكن حقا أن يُتوفى الرئيس ببساطة هكذا، ويمضى إلى ربه دون أن يرينا الله فيه آية؟! قال كلامًا كثيرًا مؤداه أن عدل الله سبحانه وتعالى يقتضى أن يُطمئن قلوب عباده المكلومين، ويطفىء غضب البشر المقهورين، ويشفى غليل أولئك الذين ضاعت أعمارهم - أو أوشكت - بين بؤس ويأس وهوان. كان لسان حاله يقول: "نعم محاسبون نحن أمام الله سبحانه وتعالى فى الآخرة، نعم سيلقى كلٌ جزاء ما قدمت يداه حين يقف بين يدى الله، لكنى أدعو الله أن يعجل ببعض آيات عدله فى هذه الحياة؛ ليعيد اليقين إلى الحائرين، ويبث الطمأنينة فى قلوب اليائسين، ليطمئن كل مظلوم وليرتدع كل ظالم". لم يكن يفصلنا عن الخامس والعشرين من يناير من عام 2011 إلا يوم أو بعض يوم، كنا قاب غضبين أو أدنى من طوفان الثورة، نسير نحوها شبرًا فيقربها الله منا ذراعًا، ونمضى نحوها ذراعًا، فيدفعها الله صوبنا باعًا، ونأتيها مشاة فتأتينا مهرولة. ثم حان الحين، ولات حين مناص، فقد انفجرت الأرض عيونًا تسيل بالبشر الغاضبين غضباً شامخاً نبيلاً، وانفتحت قربة السماء لينسكب منها نهر البركات طاهرًا جليلاً، فتلاقى الغضب النبيل بنهر البركة الجليل ليصنعا أيام مجد لا مثيل لها. كانت حسابات الأرباح والخسائر كلها ملغاة؛ حيث حلت محلها حسابات العدل الأخلاقى، كانت ألاعيب المصالح كلها منسية؛ حيث أزاحتها لغة المبادىء الإنسانية، الوجه مضىء وإن علاه الدخان، والقلب برىء وإن ملأه الغضب المقدس، والجسد كله ينتفض انتفاضة الحرية، كنا جميعا قد مضينا إلى غاية واحدة، "إذا ما جمعة وجبت ... يحوط جمعتنا سور من الأحد. كنا جميعاً هكذا؟ أم تصورنا أننا هكذا كنا؟ واليوم، ها هى الأيام تتسارع صوب ذكرى يومنا المجيد، وها هى الأسئلة تملأ رؤوسنا وقلوبنا من جديد: هل كنا كما كنا، ثم صرنا إلى ما صرنا، أم أننا كنا وقتهاعلى ما نحن عليه الآن، ولكننا لم نكن ندرى؟