تكتب : الشهباء يا وجعى ..................... كانت ابلة "زهرية" هى اول من عرفت من الشعب السورى الشقيق ، كانت سيدة رائعة الجمال ، تشبه الى حد كبير "الليدى" ديانا ، نفس الوجه والقوام ، نفس الرقة و الرقى ، فانبهرت بها وكنت كثيرة الحديث عنها فى بيتنا بعد انتهاء اليوم الدراسى سواء مع امى او ابى او اخوتى ، كنت اقلدها فى مشيتها ..لكنتها ..حليها.. تسريحة شعرها ، واطلب من امى ان تحيك لى ملابسا تشبه ملابسها و اختار الوانا تشبه الوانها. كنا فى تلك الفترة نعيش فى المملكة العربية السعودية و كان من الطبيعى أن أتعرف الى جنسيات مختلفة، فتعرفت الى اشخاص من معظم الشعوب العربية ولكن ظلت سوريا اقربهم الى قلبى ، كنت اشعر اننا نشبههم وأنهم يشبهوننا ، نفس مستوى التعليم .. نفس مستوى الدخل.. نفس المشاكل الاجتماعية .. نفس الروتين ونفس مستوى الأداء الحكومى ....الخ عندما انضمت الينا زميلتنا الجديدة رنا - السورية الجنسية - ، كنا فى الفصل الدراسي الثاني الاعدادى ، و كنت سعيدة بوجودها للغاية، رغم انها نافستنى على المركز الأول، الا أننى أزعم أنها كانت صديقة مخلصة حين نتقارب ، ومنافسة قوية وشريفة حين نتسابق ، كانت شقراء ذات شعر كستنائى طويل ينسدل بسخاء حتى خاصرتها، جميلة بحق هى الأخرى. اعتدنا فى فترة الفسحة أن ننزل الى فناء المدرسة ونلعب (مصر - سوريا)، كنت انا امثل مصر وكانت بالطبع تمثل سوريا ، تقف كل منا فى مواجهة الأخرى ولكن ثمة مسافة بعيدة بيننا ، تبدأ اللعبة واحرك قدمى اليمنى لتصبح امام القدم اليسرى وانا اقول مصر ، فتمد هى قدمها بنفس الكيفية قائلة سوريا. .. وهكذا ، حتى اذا ما اقتربت كل منا من الاخرى، يبدأ التوتر وتتسارع الانفاس بينما نبطيء الخطى، و تحرك كل منا قدمها بحذر شديد رغبة فى أن تكون الخطوة الأخيرة من نصيبها فتطأ قدمها قدم الاخرى فتنتهى الجولة لتعلن فوزها. كانت بيننا صولات وجولات فى التباهى بتاريخ أوطاننا .. علمائنا .. أدبائنا .. وجباتنا الشعبية، حتى المسليات واللب ، نعم كنت اتباهى باللب المصرى فى حين كانت تتباهى باللب السورى. عرفت أنها من مدينة حلب "الشهباء" و كنت اعلم عنها تفاصيل دقيقة ربما قبل ان التحق بالمدرسة، فقد كنت لا احب اللبن ، وكان ابى يرغبنى فيه بقوله: عشان تبقى "بيضا" ، أخبرنى ان كلمة "حليب" أصلها من "حلب" وطبقا للغتهم القديمة تعنى المدينة البيضاء نسبة إلى الحجارة الكلسية البيضاء التى تشتهر بها ، قبل ان يفتحها المسلمون العرب بقيادة خالد بن الوليد وابى عبيدة بن الجراح - رضى الله عنهما - ، وتدخل اللغة العربية الى بلادهم ، ومن هنا أطلق عليها العرب اسم "أرض الشهباء" اى الأرض التى تغطيها الثلوج البيضاء ، ولكن ظل الإسم الأكثر شهرة هو "حلب" درسنا فى الادب العربى ما قاله المتنبى فيها: لا أقمنا فى مكان و إن طاب ولا يمكن للمكان الرحيل كلما رحبت بنا الروض قلنا حلب قصدنا وانت السبيل حين حل موعد رحيلنا الى مصر ودعت رنا بفيض من الدموع ، وعندما اقتربت اقدامنا ونحن نلعب (مصر - سوريا) للمرة الاخيرة ، لم تطاوعنى قدمى ان تطأ قدمها بل نزلت بمحاذاتها، فجذبتنى إلى حضنها وهى تبكى ، فهمست فى أذنها : أتدرين شيئا، اللب السورى احب إلى من اللب المصرى بل ومن الفستق والكاجو ايضا ، ولكنى كنت أقصد أن أثير غيرتك ليس أكثر، دست يدها فى جيبها واذا بها تخرج حفنة من اللب المصرى، فأخذنا نضحك بطريقة هستيرية وبصوت عال من قبل ان تجف دموع الفراق حتى رحت فى سعال طويل. عندما التقيت قريبا بالدكتورة سارة التى تحمل الجنسية السورية ، وهى جارة لإحدى صديقاتى عاتبتنى قائلة: تفرحون وتحمدون الله أنكم لستم مثلنا، ألسنا اخوة فى الإسلام والعروبة!! تهدج صوتى وأنا اقول: والله نحمد الله الذى لا يحمد على مكروه سواه، ولن تضيع حلب ابدا ، هى التاريخ من قبل التاريخ وهى الصمود وراء الصمود، دمرت حلب مرات ومرات إثر حروب حامية الوطيس، وزلازل مرعبة على مر العصور، وقامت مرة ثانية وثالثة وعاشرة لتظل الشهباء كما هى ، تبيض وجوه محبيها كما علمنى أبى ، وتسود وجوه أعدائها إن شاء الله. قلوبنا مع الشهباء ومصيرنا هو مصيرها وابدا لن نرضى الا بنصرها او الشهادة من أجلها إن أتاح الله لنا ذلك الفضل و كان فى الأجل بقية. المشهد .. درة الحرية المشهد .. درة الحرية