" لا تحلموا بعالم سعيد ، فخلف كل قيصر يموت .. قيصر جديد ، وخلف كل ثائر يموت ، أحزان بلا جدوي ، ودمعة سدي " .. هكذا قال الشاعر الكبير الراحل أمل دنقل . نعم .. قطعتنا سكين الزمن الصدئ ، تبخرنا في طرقات المدن الداخنة ، في وهم ضباب الكأس ، ومرايا الحانة تعكس أحداقاً مرهقة ، نبتلع زجاج الكلمات المكسور ، نتوه ونمعن في التيه فنتذكر ، عصفور النيل الأسمر يتدلي مشنوقاً في كل مطارات العالم ، مبتلاً فوق الأرصفة الشتوية ، يتجمد فيه الشدو ، الإيقاع والمعني ، تمثال متحجر ": زمن سكين في عنق الحب ".. ومع ذلك يري السادة أن الأمور ميسرة بفضل الله ، وليست هناك مشاكل بشكل يثير الدهشة والتعجب .. ويبدو أن المشاكل لا توجد أصلاً حتي نقوم نحن بخلقها خلقاً وتكلفها تكلفاً .. فالجو بديع والدنيا ربيع ، لماذا نفكر إذن في ثقب الأوزون ؟ إلا إذا كنا هواة نكد وفلقة دماغ ، أياً ما كان الأمر فأن آثارة المدمرة سوف تلحق بنا في مقابرنا وذلك في الرأي الراجح ، فلنترك ذلك إذن لأحفادنا ربما وجدوا طريقة لرتق هذا الفتق ، وهي مشكلتهم علي أي حال .. من المؤكد أن المزيد من القراءة يؤدي إلي المزيد من الشعور بالجهل ، فلماذا لا يريح الإنسان عقله وينعم بجهله وشعوره في نفس الوقت بالتفوق والحكمة ؟! .. ثم أن القراءة لها آثارها الضارة ، ويعتبرها البعض – بحق – نوعاً من الميكروبات التي لا تؤذي صاحبها فقط بل تمتد إلي من حوله بالعدوي ، لذلك ينصحون بعدم مصافحة من يقرأ كتاباً ، وعدم الإقتراب من أي شخص عليل بالعلم ، وليس أدل علي ذلك من أنك تجد الجهلاء أصحاء أقوياء يمشون في الأرض مرحاً ، بينما أولئك الذين ابتلاهم الله بداء القراءة وحب المعرفة ، تجد عيونهم ذابلة ، ظهورهم محنية ، يقتاتون الكآبة ويفرزونها أيضاً .. المشاكل غير موجودة حتي يتحدث أحد عن وجودها فنراها ، لذلك فالأسلوب الأمثل هو عدم الإنصات إلي أحد أو القراءة لأي معتوه يحاول أن يكدر صفو حياتنا ، ولكم أضاع البعض زهرة شبابهم سعياً وراء أفكار وأهداف ، ليكتشفوا بعد فوات العمر عبثية كل الأشياء ونسبيتها أيضاً .. لم يدلهم أحد إلي أن الحياة غاية البساطة والإنبساط شريطة الإبتعاد عن الفكر بوجه عام والمشاكل بوجه خاص ، فالجو بديع والدنيا ربيع وليس في الإمكان أبدع مما كان ، ورحم الله أمرؤ عرف قدر نفسه ، والباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح ، ويا بخت من بات مغلوب ولا بات غالب ، إلي آخر ذلك التراث القيم الذي تركه الأجداد وأهمله الأحفاد .. فعودة إلي التراث ، إلي الأصالة ، إلي حضارة السبع تلاف سنة فهي العاصم من كل فكر أريب !! ... ولكن علي الأقل ، لعلنا الآن نعرف الفارق بين النظام الديكتاتوري والنظام الديمقراطي ، حيث أن الحاكم الديمقراطي يعد الشعب بأنه إذا وصل الحكم فأنه سيغير سياسات سلفه ، أما الديكتاتور فهو يعلن ويؤكد أنه سيحارب الأشرار ويحافظ علي الإستقرار.. !! ، ومن المؤكد أننا الآن نعرف أن الفقر لا يلد الثورة أو الثوار ، فالثوار لا يولدون من رحم اليأس ، وإنما من رحم الأمل في الغد ... وذلك القدر من المعرفة قد يكفي في الوقت الحالي كي نتدبر أمرنا ، ونحاسب حكامنا ، فربما شحبت مساحة القبح في أعماقنا كي نتمكن من أن نري الجمال حولنا ، وأن نحلم فعلاً بعالم سعيد لا نورث فيه خلف كل قيصر يموت ، لقيصر جديد ... أن ما يتكرر في مجتمعنا يمكن أن نسميه "العقيدية" أو ما يمكن أن نطلق عليه أيضاً " الدوجما الفكرية " التي يمكن أن تحقق لمجتمع ما قفزة أو طفرة مفاجئة لفترة زمنية محددة ومحدودة ، وهي تستند إلي فكرة أو مجموعة أفكار تتركز غالباً حول مثاليات وطنية أو نفسية لحشد الشعب حولها عاطفياً ، وقد يكون أساسها النظري مبسط للغاية كي يتغلغل في أدني درجات السلم الإجتماعي في المجتمع ، وهذه " المثالية " قد تودي بالمجتمع نفسه وتورده موارد التهلكة ، ومثال علي ذلك النظرية النازية التي تزعمها أدولف هتلر في ألمانيا والتي تأسست في عشرينات القرن الماضي ، وأستندت إلي أفكار نظرية حول ما يسمي : "تفوق الجنس الآري " ، مع تطعيم هذه الفكرة بدفع المشاعر الوطنية للثأر من إذلال نتائج الحرب العالمية الأولي التي خسرتها ألمانيا .. وقد أدت هذه النظرية إلي طفرة مفاجئة وتطور سريع في المجتمع الألماني ، فشهدت الصناعة والبحث العلمي تفوقاً ملحوظاً ، وكذلك تم بناء قدرات عسكرية هائلة في زمن محدود نسبياً ، وأمكن جذب أغلب الشعب الألماني إلي الإنجرار لمغامرات هتلر العسكرية التي أدت في النهاية إلي دمار أوروبا ، وتحطيم ألمانيا نفسها وتقسيمها إلي دولتين ... كانت النظرية الشيوعية أكثر تعقيداً ، إلا أنها تدخل في نفس الإطار حيث تم تسويقها من خلال كتابات ماركس وأنجلز ولينين ، علي أساس أنها نظرية إقتصادية إجتماعية يحتمها جدل تاريخي ، وبدون الدخول في التفاصيل فيمكن القول أن هذه النظرية أحدثت طفرة تقدمية في روسيا القيصرية أسهمت في تحويلها إلي واحدة من قوتين عظميين ، ونجحت في إحراز تطور في الصناعة والبحث العلمي وبناء قدرات الدولة وخاصة العسكرية في زمن بسيط .. ولكن نفس النظرية كانت سبباً في انهيار روح الخلق والإبداع لدي الإنسان الشيوعي ، لأنها صادرت حرية الفرد لصالح المجتمع ،وحولته إلي مجرد ترس يدور في محيط مادي تماماً وفقاً لنظرية منزوعة الروح والإيمان بالغيبيات .. يجب أن نعمل بكل ما نملك من طاقة علم وأمل كي نتخلص من تلك الدائرة الجهنمية التي ندور فيها ، وتنتهي إلي الأبد طقوس عبادة الفرد من قواميسنا السياسية .. ---------------- * مساعد وزير الخارجية الأسبق المشهد .. درة الحرية المشهد .. درة الحرية