لأجلكِ لا يُرافقنى إلا الصمت، مختزلاً فى وقاره الأبجديات.. ومن جوف السكون تزورنى أطيافكِ، ويتوارى خلفها ثرثرة العالم الصاخب الباهت الذى يخلو من وجودكِ الثمين، وكأن الصمت راح يثأر لمعشوقته ويلقن الضجيج درساً فى فنون التعبير.. يُقسِم له بأنه يتلقِ فى كل مساء أكواداً لن تفلح كل اللغات فى تهجيها وترجمة معانيها.. ينقش بحبره السرى جدارية رثائه الخاص المدون بهمهمات مكتومة لكنها مدوية فى ساحات القلب الباكى . لأجلكِ تعلمت استقبال الغياب (صاحب) الحضور الأقوى والأبلغ الذى يؤكِد فى كل لحظة كَم اختل عالمى الخارجى بدونكِ ، وكَم توازنت روحى بوجودك المختلف، حين أمكننى قهر (اللاوجود) المادى بالاستحواذ على (الحضور) الحسى، فصارت روحى تتعبد فى محراب غيابكِ بطقوس وشعائر عشقية لا يمارسها إلاى .. منىِ فقط و إليكِ فقط يا (كل الناس) . لأجلكِ أتوسد برحيق أنفاسك العالقة عبر الأمكنة طمعاً فى طوافك الدائم بدار أحلامى.. أجمع فتات ألمكِ لأقذفه بنيران التهمت كافة التعاسات السابقة، وألملم كنوز رضاكِ التى تناثرت بحجرتك كالأحجار الكريمة الشاهدة على ألقكِ وندرتكِ . لأجلكِ أخلد بروضة هواياتكِ المفضلة وأنهل من ذوقكِ الرفيع وحسكِ الخصب وأرتدى وشاحكِ العشقى المطرز بخصالكِ الثرية.. أتقمص وجودكِ وأتوقع ايماءاتكِ وانتظر إثابتكِ من بعيد واتحسس دعائكِ الهادىء تتردد أصدائه وتلفنى من كل صوب.. ذلك الدعاء أشتاق إليه حين كان يُزلزل أوصالى ويُحاصر جسدى ويَقى روحى فلا يَمسسنى سوء ولا يقربنى أذى . لأجلكِ تَخففت من أنانيتى وارتضيت راحتكِ وإن كانت فى بُعدى .. فكم من الوقت تشبثتى بالألم طمعاً فى البقاء إلى جوارى.. وكم من الوقت أخفيتى الوجع كى لا تخور قواى.. وكم من الوقت آبيتى الشكوى كى لا يتهدم بداخلى الأمل الواهى .. كنتِ تعلمين أننى أركض خلف السراب، لكنه كان يؤجل إنهيارى.. كنتِ تُدركين إقتراب الرحيل ولا تفشى السر حتى الرمق الأخير . لأجلكِ خاصمت الواقع وطعنت عين حقيقته.. زيفت أوراقه .. شوهت براهينه.. لعنت منطقه وجادلت حُججه .. و راق لى خداع عقلى واتباع هوى قلبى رغم يقينى من فحوى المداولة الأخيرة وما سوف تطبعه على طاولتى ذات المقعد اليتيم الذى لا يخص أحداً سواى . لأجلى لا لأجلكِ تقاسمنا الشقاء وصادقنا التعاسة وتعالينا على الآلام وزايدنا على النهاية .. ورغم صخب الرحلة ومشاق طريقها المحفوف بالموت، راحت سخريتنا تبدد الوقت الطويل وتختصر سويعات العناء.. ومادمنا إلى الجوار كان هذا كافياً . وحين انطلق نذير الفراق ولاحت أعلام الوداع، انسحبتِ (حبيبتى) من عالم الوعى وراحت جفونكِ المجهدة تغفو غفوتها الأخيرة قبيل الموت كى لا تتكبد معاناة نظراتى الأخيرة وإلحاحى ألا ترحلى.. تركتِ لى سويعاتك الأخيرة غافية فى سلام بلا وداع .. بلا نحيب .. بلا فراق . وتلقيت رسالتكِ التى بعثها لى عالمكِ الصامت فيما بعد بصوتكِ الهادىء العذب .. تهمسين لى قائلة : " أَغفو فحسب يا حبيبتى ، فلا تحزنى .. لأجلكِ يا صغيرتى ، تمنيت على الله ألا أكون وخزة عذابكِ وألا أشبثكِ بى حد الموت إلى جوارى .. لا تظلّى بجانبى واهرعى .. اِطمئنى، فقد انقضت رحلتى وأضاء قنديلى فى بقعة أخرى ، فلا تنخلعى ولا تتألمى ودَعى تراتيلى تحرسكِ فى غيبتى ". لأجلكِ يا أغلى الناس سأحفظ رسالتكِ الغيبية أمداً .. وسأمضى فى دربى أبداً كى اُقبِل ثراكِ العطر المتتطاير حولى .. وكما أجاب الله دعائكِ من أجلى ، ساستودعكِ فى صحوى وغفوتى إلى أن أعود لكِ وتعودى لىِ . المشهد .. درة الحرية المشهد .. درة الحرية