سواء تحبها أو لا تحبها ، فهي قد أصبحت " أم الدنيا " ، وبالطبع هناك من سيحتج بأن تلك الصفة لصيقة بمصر لأنها تحمله منذ فجر التاريخ ، ولكن المشكلة أننا لا نتحدث هنا عن التاريخ ، وإنما عن الحاضر وبعض المستقبل ، وحتي لا يغضب أحد فيمكن القول بأن مصر بلا شك هي " جدة الدنيا " ، أما أمريكا فهي الأم المعاصرة المتحررة التي كلما إزدادت نضجاً إزداد عشاقها ومريدوها . وقد لا يبادلنا الأمريكان الحب ، فهم عمليون ، واقعيون ، والمسألة عندهم حساب وليست عواطف ، ولا يهمهم كثيراً مسألة " أم الدنيا " أو أي صفة أخري ، فالمهم هو أن تظل أمريكا سيدة الدنيا ، لذلك لا ينبغي أن نتألم من نظرة بعضهم إلينا ، أو ما يقولونه عن المجتمعات الأخري ، فهم لا يرون سوي أمريكا ، فهي بداية الكون وآخره ، وهي المكان والزمان ، ولذلك فلم يكن غريباً أن نقرأ في صحفهم أن ضابطاً أمريكياً برتبة رائد بعد وصوله للسعودية أضطر للإتصال التليفوني بوحدته في أمريكا دون أن يعرف الفارق في التوقيت ، فسأل رئيس الإمداد في الوحدة : ما هو الفارق في التوقيت بين السعودية وجنوب كاليفورنيا ، فنظر الرجل حوله وقال : تقريباً حوالي ستة قرون ياسيدي ! .. الأمريكيون يعتقدون في أن كل ما أعتادوا عليه في حياتهم يخضع بشكل مستمر للتغير . لذلك فهم في حالة لا تهدأ ، ويقول البعض أن السبب في ذلك أن أمريكا هي " العالم الجديد " الذي يتم بناؤه ولكنه أبداً لا يكتمل ولقد ذكر توسكفيل : " أن الأمريكي قد يبدأ في بناء منزل كي يعيش فيه أثناء شيخوخته ، ولكنه سوف يترك هذا المنزل قبل أن ينتهي من بناء سقفه" ، بينما قال هنري فورد : " نحن نريد أن نعيش في الحاضر ". أن هذه الدولة العظمي عبارة عن نسيج أو خليط من مجتمعات مهاجرة ، وهي بالفعل عبارة عن متحف للإنسانية ، فهل نجحت أمريكا في القضاء علي العادات والتقاليد الوافدة مع المهاجرين ، وما هو أثر الديمقراطية وأثر الحرية الإقتصادية في تذويب الفوارق بين الطبقات ، وهل تنجح تلك الوصفة الأمريكية في المجتمعات الأخري ؟ ، تلك أسئلة هامة ولكننا لن نستطيع في حدود هذا المقال أن نجيب عليها جميعاً ، ولكن يمكن أن نحاول الإقتراب بعض الشيئ . لقد اخترع المجتمع الأمريكي ديانة جديدة طقوسها هي العمل الشاق وربها هو الدولار ، وهي في نفس الوقت قيمة الإنسان نفسه ، فالإنسان في هذا المجتمع تقدر قيمته من خلال العمل الذي يقوم به ، والأموال التي يملكها .وفي الواقع فأن تدهور العادات والتقاليد مع زحف القيم الرأسمالية لم يترتب في المجتمع الأمريكي وحده ، ويمكن ملاحظته في أوروبا ، بل وبدأ يؤثر علي الحياة في اليابان التي كانت تعتبر دائماً أشد المجتمعات محافظة . ورغم الثراء الشديد الذي يتمتع به المجتمع الأمريكي ككل فأن الفارق في الدخل بين الأغنياء والفقراء لا يزال كبيراً ، فلا يزال المجتمع الأمريكي الأسود في قاع المجتمع الأمريكي ،بل أن المهاجرين الجدد من آسيا وأمريكا اللاتينية يتقدمون علي الزنوج في إحتلال مواقع متقدمة في الهرم الإجتماعي . ولقد كان معدل زيادة السكان في أمريكا خلال الخمسينات من هذا القرن 1.9% ، بينما أصبح حالياً أقل من 1% ، ورغم ذلك يمكن ملاحظة تفشي ظاهرة الجريمة ، والشكوي من تدهور التعليم ، الإنحلال الأخلاقي . ولكن هناك بعض فئات المهاجرين ذات التأثير الأشد في السياسة الأمريكية فمن المألوف أن المرشحين الذين يأملون الفوز في الإنتخابات الأمريكية يجب عليهم كجزء من العلاقات العامة أن يقوموا بثلاث رحلات رمزية إلي 3 أ ( أو الثلاث بلاد التي تبدأ أسماؤها بحرف الألف إيطاليا ،وأيرلندا ، وإسرائيل ) Three I's .. Italy , Ireland , Israel . ولكن يبقي أن الخليط العرقي لا يزال متمايزاً ، فمن الملاحظ إتجاه نوعيات بعينه إلي أشكال معينة من النشاط الإنتاجي ، فالمهاجرون الكوريون أحتلوا معظم محلات البقالة ، والصينيون مهندسون ، واليهود يسيطرون علي الجامعات ومراكز المال والإعلام ، والهنود بشكلون جزءاً كبيراً من العاملين في المستشفيات .. إلخ .. والمهاجرون الذين يفدون حالياً إلي أمريكا ، لا يأتون من أوروبا مثل الهجرات الأولي ، ففي إحصائية حديثة ، أتضح أنه في العقد السابق هاجر إلي أمريكا أكثر من 1.5 مليون من آسيا وما يزيد علي 900 ألف من المكسيكوأمريكا اللاتينية ، بينما قدم من أوروبا حوالي 850 ألف مهاجر فقط . ولقد كان السؤال الذي يواجه المهاجر الجديد هو : " ماهي أفضل إستراتيحية للعيش في هذا المجتمع الجديد ، هل هي الإنصهار فيه ، أم التمايز عنه ؟ .. لقد استغل المهاجرون اليهود فكرة الإنصهار ( بوتقة الإنصهار ) ، والتعليم كي يحرزوا موقعاً متقدماً في المجتمع الأمريكي ( وأعتقد أن التجربة اليهودية تستحق بالفعل التأمل والدراسة في مجال الموضوع تحت الدراسة ) . ومن ناحية أخري فأنه من الصعب أن نتصور أن مشكلة التفرقة العنصرية قد انتهت بالقوانين التي صدرت في مواجهتها خاصة في فترة الستينات ، لأن هذه المشكلة لم يخلقها قانون حتي نتصور أن قانوناً آخر قد يلغيها ، فلا تزال الفكرة العنصرية ضاربة بجذورها في بعض قطاعات المجتمع وخاصة في الجنوب ، ولا يزال الإنسان الملون يشعر في أعماقه بأنه ضحية ذلك المجتمع . وهناك شبه إجماع بين المحللين علي أن أمريكا تعاني من مشاكل إجتماعية خطيرة ، لعل أبرزها تفكك الأسرة ، حمل الأطفال ، المخدرات ، إدمان الخمر ، حرية الجنس بين المراهقين ، الإيدز .. إلخ ، وبالطبع لا تبرز هذه المشاكل الخطيرة حالياً لسبب بديهي وهو أن الدولة قوية ، ولا تزال بالقصور الذاتي تخفي في تلك القوة تلك البذور الخطيرة التي تتهدد مستقبلها ، ويكفي هنا أن نشير إلي أن إحدي الإحصائيات الحديثة قدرت عدد الشواذ جنسياً بحوالي 21 مليون أمريكي ، وأن كل ثلاثة رجال منهم واحد علي الأقل مارس الشذوذ الجنسي في فترة من حياته وامرأة من بين كل خمسة نساء قد مارست الإجهاض والمظاهرات التي تحبذ الإستمرار في حق الإختيار . ولكن علينا أن نأخذ هذه المظاهر بحذر ، فهي وإن كانت تعكس بالفعل السطح الخارجي الذي يمكن لأي زائر أن يلمسه ، فأن هناك تحت السطح تيار محافظ قوي ، لأن المحافظين يشددون الدعوة للعودة إلي القيم الدينية والأخلاقية ، ومع ذلك يعيبهم في نفس الوقت أن ذلك يرتبط في إذهانهم بإضطهاد الملونين ، ولا يعترفون بتبرئة اليهود من دم المسيح ، ومن ناحية أخري فأن تلك المظاهر لا تنفي الإمكانيات المادية الضخمة لهذه الأمة ، أو قدراتها العسكرية التي لا تباري ، وإذا كانت الحضارات " تولد وتنمو وتكبر وتشيخ ثم تموت" ، فأن الأمريكيين لا يرون حضارتهم من هذا النوع الفاني ، فهي حضارة ولدت شابة وستبقي كذلك إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها . وأمريكا بالنسبة لقطاع كبير من الإنتلجينسيا العربية تمثل تجسيداً لعلاقة " حب / كراهية " ، والحب ( كما هو مألوف ) إنبهار يؤدي إلي المبالغة في محاسن المعشوق ، فيصبح " كل ما يأتي من الغرب يسر القلب " ، أما الكراهية ( علي العكس ) فهي دراسة باردة أكثر موضوعية ، تدرك عناصر التعارض والإختلاف بين تلك الحضارة المادية وبين حضارة الشرق المختلفة ، وبالتالي فأن " كل ما يأتي من الغرب ، لا يسر القلب " ، لذلك فمن الطبيعي أن تجد حفنة من المثقفين العرب يتحلقون مائدة في مطعم للهامبورجر وهم يلعنون أمريكا ويدخنون السجائر الأمريكية ، ويفضلون العيش بالأسلوب الأمريكي ، وليس عجيباً أن تجد أشد المنتقدين للسياسة الأمريكية ، أكثر المهرولين إلي الجامعات والمنتديات الأمريكية … كل ذلك ليس عجيباً أو غريباً ، وليس أعراض مرض نفسي عضال ، فأمريكا تشبه " سي السيد " في رائعة الأديب نجيب محفوظ ، رغم كل قسوته وفظاظته فهو المهاب المحترم ، وطاعته واجبة بلا مناقشة ، وهو مثال الحرية المطلقة بلا حدود ، بغض النظر عن إستعباد الآخرين . ومع كل ذلك ، فهناك قطاع لا يستهان به من أهل الرأي والحل والعقد يري أنه يمكن التأثير علي السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ، البعض يري ذلك ممكناً من خلال الحوار ، والبعض الآخر لا يراه ممكناً إلا من خلال المواجهة والصدام ، ودون الدخول في تفاصيل الجدل العقيم بين الفريقين ، فلعل صفوة القول تقودنا إلي أن " سي السيد " لا يري الشرق الأوسط إلا من خلال حدقته الكونية ، ولن يجد أي مبرر للمبادرة بتغيير سياساته إلا إذا تأكد من إحتمال وجود تهديد مؤكد لمصالحه الكونية ، وأنه لا يمكنه إحتواء ذلك التهديد ، سواء بالإختراق أو بتهديد أقوي ، أما الشعب الأمريكي الصديق فأنه لا يتأثر إلا بما يؤثر علي محفظته ، وليس منظوراً أن ينجح الشرق الأوسط في سحب مدخراته الهائلة في البنوك والإستثمارات الأمريكية ، وليس متوقعاً أن تتخلي شعوب الشرق الأوسط عن رفاهية الحلم الأمريكي ، مجرد الحلم ولو تمثل في مجرد عبق السيجارة الأمريكية أو تحزيق البنطلون الجينز أو مجرد وجود أمريكا كشماعة يتم تعليق العجز والإحباط عليها . أن أعظم الأفلام التي قدمتها أمريكا للعالم هي أفلام " غزو الغرب " ، التي صورت إقتحام " الكاوبوي " لقري الهنود الحمر كي يحرقها ويدمرها ، ويقيم علي أنقاضها تلك " المستوطنات " التي تحولت إلي أعظم مدن في العالم ، ولم يتفوق علي تلك الأفلام سوي أفلام " جيمس بوند " وأفلام " رامبو " … لقد نجحت أمريكا في تسويق ثقافة الإستهلاك إلي العالم كله ، لدرجة أن " الكوكا كولا " أكثر شهرة من " أرثر ميللر " ، بل أن الرئيس الأمريكي نفسه يتم " تسويقه " في فترة الإنتخابات كسلعة . وربما تبدو فكرة التأثير علي السياسة الأمريكية من خلال الحوار أكثر إغراءاً ، بإعتبار أن تلك لغة أكثر تحضراً من لغة الصدام والمقاطعة والمواجهة ، ولكن السؤال الذي يبدو بلا إجابة هو : كيف يمكن تسويق هذا الحوار ، إذا كنا قد عجزنا عن إستخدامه فيما بيننا ؟ ، ومن ناحية أخري فلا بد من التسليم بأن المقاطعة وحدها هي سلاح سلبي قد يرتد بالفعل إلي نحر من يستخدمه ، لذلك فأن بداية الخيط تكمن في بناء إستراتيجية حقيقية تجمع كل هذه العناصر كي تجدل منها ما يمكن أن يكون سياسة ناجحة . ------------- * مساعد وزير الخارجية الأسبق المشهد .. درة الحرية المشهد .. درة الحرية