فهم خاطئ يسود وسط كثير من السياسيين والسلطة الحاكمة والمتابعين للشأن السياسي بأن الديمقراطية هي إجراء الانتخابات لملء المؤسسات الشاغرة بعد الثورات, وأن عملية التحول الديمقراطي هي إجراء هذه الانتخابات في أقرب فرصة, ويردد بعض البعض مقولات ترى أن الديمقراطية قد فشلت في مصر، بل راح البعض يرى أن الديمقراطية هي سبب مشكلات مصر الأن.. ويتجاهل هؤلاء طبيعة الإرث الاستبدادي للأنظام السابق, ولا يدركون الأركان المتعددة للديمقراطية, ولا طبيعة المراحل الانتقالية في أعقاب الثورات. ظهر مصطلح حديث في أدبيات التحول الديمقراطي هو "الثورات الانتخابية" وهو يشير إلى التسرع في إجراء الانتخابات على أسس دستورية وقانونية مرتبكة في الدول التي شهدت ثورات ملونة في مطلع الألفية الجديدة, فكانت النتيجة قيام الانتخابات بإجهاض الثورات والديمقراطية, لأن النخب القديمة - التي عملت في ظل النظم التسلطية - كانت هي المستفيد الأكبر واستطاعت العودة إلى صدارة المشهد والسيطرة على الرأي العام وتوجيهه بما تمتلك من شبكة علاقات ونفوذ ومال وإعلام, ومشكلة هذه النخب في طرق تفكيرها وأولوياتها التي لا تتفق مع مطالب التغيير والثورات ويمكن هنا المقارنة بين دول شرق أوروبا وبين والدول التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفياتي كجورجيا وأوكرانيا وكزاخستان, ففي أوروبا الشرقية قامت تحركات شعبية أدت إلى تغييرات في بنية السلطة وظهور ديمقراطيات حقيقية لعدة اعتبارات أهمها التركيز على بناء الديمقراطية بكافة أركانها (حكم القانون, واستقلال القضاء, والتعددية السياسية، وفصل السلطات، وتقوية الأحزاب والمجتمع المدني) وبعد عدة سنوات عندما احتكم للإنتخابات وضعت ضوابط وشروط حادة للناخب قبل المنتخب, كان أهمها شرط التعليم الذي أصبح ركناً أساسياً للناخب قبل المنتخب.. بجانب وجود ممارسة ديمقراطية قديمة، ودعم خارجي قوي, ودور إيجابي لدول الجوار الديمقراطي. أما في أوكرانيا وجورجيا وكزاخستان، فقد كان التركيز على إجراء الانتخابات لحلول حكام جدد محل الحكام القدامى دون اهتمام قوي بتقوية حكم القانون ودولة المؤسسات والقضاء والأحزاب والمجتمع المدني, فكانت النتيجة أن عادت النخب القديمة وظلت الممارسات التسلطية. وحتى عندما وصلت نخب معارضة للسلطة لم تنجح نظرا لتنافسها وتربص القوى السياسية ببعضها بعضا, ونظرا لقوة خصوم الديمقراطية وتوحدهم, وضعف مؤسسات الدولة وحكم القانون.. وتقترب الحالة الروسية من هذا الوضع, ولا شك أن العامل الخارجي وعامل دول الجوار لعبا دورا سلبيا في هذه الحالات. تقترب الحالة المصرية من حالة الثورات الانتخابية من حيث وجود ممانعة خارجية قوية، ومن حيث غياب أي ترتيب للأولويات سواء خلال مرحلة المجلس العسكري فبراير 2011 وحتى ما بعد انتخاب محمد مرسي أو خلال المرحلة التي تلت 30 يونيو 2013 وانتخاب عبد الفتاح السيسي.. ففي الحالتين انفردت السلطة بوضع الأطر الدستورية والقانونية دون تشاور حقيقي ودون إدراك لأهمية وسنن البناء والتأسيس، واهتمت بالانتخابات لملء شواغر المؤسسات الشاغرة دون توفير الحد الأدنى من دولة القانون والقضاء المستقل.. وما زاد الأمور صعوبة عندما أجريت انتخابات برلمانية في ظل انقسام سياسي حاد كما حدث في الحالة بعد 3 يوليو 2013، فتم تسييس الجيش، ورسم مسار سياسي جديد اعتماداً على التيار اليميني الرأسمالي الموالي للنظام ومن دون التيار الإسلامي والمدني الديمقراطي، واعتماد الحل الأمني في التعامل مع جميع المعارضين. وخلاصة القول إن على النخب والمثقفين والقوى السياسية فهم الديمقراطية بكافة أبعادها وفهم طبيعة عملية البناء ومساره وسننه قبل التسرع بالقول إن الديمقراطية فشلت، وعليهم العمل لأجل الوصول إلى نظام ديمقراطي حقيقي بكافة أركانه ومبادئه ومؤسساته وضماناته، ثم الاجتهاد بعد هذا من أجل تحسين هذا النظام ومعالجة كافة المشكلات التي أفرزتها الديمقراطيات المعاصرة بالغرب.. وهنا يحين موعد الإنتخابات. أما تحميل الديمقراطية نتائج الفشل في البناء وفي إدارة المراحل الانتقالية أو صراعات القوى الدولية أو التركيز على الانتخابات فقط، فلن يؤدي إلا إلى تأزيم الأوضاع والوصول بالبلاد إلى موجة ثورية جديدة.. والله أعلم. المشهد.. درة الحرية المشهد.. درة الحرية