بشأن زيارة البابا تاوضروس إلى القدس، أود أن أقول فى البداية أنه رغم اعتراضى على الزيارة، وهو ما أعلنتهفى تصريحات صحفية سابقة.. إلا أننى فى نفس الوقت لست مع جلدالذات.. البابا تاوضروس حبر محترم، يعرف كل المصريون مواقفه الوطنية التى لا يمكنإنكارها.. نعاتبه، ولكن لا نقلل منه.. ونحترم أسبابه، وإن كنا لا نوافق عليها... ولن أجازف بالدخول فى جدل حول حكمة القرار الذى إتخذ، أو دوافعه، أو عن موقف حكومتنا السنية، ولكننى من منطلق الغيرة على ثوابتنا الوطنية السياسية والدينية لا أستطيع أن أرضى بأى كسر لجدار فرضته الإرادة الشعبية بغض النظر عن الضرورات السياسية التى سمحت ذات يوم لحاكم مصرى أن يعقد سلامًا مع الكيان الصهيونى بينما لا يزال القدس محتلًا، لقد قرر هذا الشعب بمسلميه ومسيحييه أنه لن يطبع مع هذا الكيان الغاصب مهما كانت الظروف.. أن البابا لا يملك نفسه، فهو جزء من شعبه وتاريخه، ولا أتصور أنه لن يراجع مرة أخرى هذه الخطوة التى أحزنتنا وملأت قلوبنا دموعًا، وقد أتت بينما العدو الصهيونى ينتهك كل مقدسات القدس، ويواصل القتل والدمار فوق كل الأراضى الفلسطينية.. وأود أن أؤكد أننى أختلف مع هؤلاء الذين حاولوا عقد المقارنات بين البابا تاوضروس وسلفه العظيم البابا شنوده، فكلاهما أغصان لنفس الشجرة الطيبة التى ظللت الوطنية المصرية طوال التاريخ، وليس لدى أى شك فى أن تلك الزيارة سوف تكون إستثناء غير قابل للتكرار، رغم أن البعض قد يتساءل عن زيارات قام بها آخرون ومنهم كتاب وصحفيين دون أن تثير جدلًا مماثلًا، والواقع أنه قياس على غير محل، لأن البابا ليس كأحد الناس، وقيمته وقامته تفرض عليه وعلينا قراءة مغايرة .. أن ما أحاط بتلك الزيارة جعلنى أعود إلى سطور قديمة خططتها فى مذكراتى عند زيارة للبابا شنوده إلى نيويورك فى بداية التسعينات من القرن الماضى، وحظيت فيها بشرف أن أكون فى استقباله، وأتيحت لى فرصة نادرة للحديث معه حول موضوعات عديدة، لم أكتب عنها من قبل، وسأكتفى هنا باسترجاع بعض ما كتبته عن تلك الزيارة.. عندما كنت فى الطريق إلى مطار ج إف كيندى فى نيويورك، هالتنى الجموع البشرية التى تزاحمت وهى تحمل الأعلام والبيارق وتدق الدفوف وتنشر البخور.. عائلات مصرية خرجت بكل قضها وقضيضها، رجال ونساء وأطفال كى ترحب بزيارة البابا شنوده.. التقيت بمسئولى المطار، وحيث أننى كنت أحمل تصريحًا خاصًا فقد توجهت مع مدير الأمن لإستقبال قداسة البابا عند مدخل الصالة الرئيسية كى نصطحبه إلى صالة كبار الزوار، وما أن حطت طائرته عجلاتها على الممر، كان من الممكن سماع الأغانى والأناشيد المصحوبة بالدفوف التى أعلن بها المصريون فرحهم بوصول البابا.. كانت بالنسبة لى المرة الأولى التى أقابله فيها وجهًا لوجه، ولذلك كنت متهيبًا بعض الشئ، وصافحته بالوقار اللازم وأنا أقدم نفسى إليه، ولكننى فوجئت به يجذبنى إليه بحرارة كى يعانقنى وكأنه يعرفنى منذ زمن طويل.. جلست معه فى صالة كبار الزوار ريثما ينتهى زملائى من إنهاء إجراءات الجوازات والحقائب، وشجعتنى إبتسامته المرحبة وأسئلته عن أحوال الجالية المصرية، فتحدثت معه بشكل عام، ثم سألنى عن شخص بعينه، وكان هذا الشخص يصدر مجلة يزعم أنها تمثل أقباط المهجر، وكان لا يهاجم الحكومة المصرية فقط وإنما الكنيسة المصرية وقداسة البابا شخصيًا.. رويت له أننى سعيت للقاء هذا الشخص، وقابلته بالفعل ولكنه يبدو متعصبًا وجاهلُا، وأوضحت أننى اصطحبت معى رئيس تحرير صحيفة مصرية تصدر فى المهجر كى يجرى حوارًا مع قداسته، وتساءلت عما إذا كان من الممكن أن يصرح بحرمان الشخص الذى يتجاوز فى حق الوطن والكنيسة، فابتسم مداعبًا وهو يقول: "البابا لا يتدخل فى السياسة".. ثم قهقه من قلبه مستطردًا: "إذا صرحت بأن هذا الشخص محروم بسبب آرائه، سيقولون أن الكنيسة تتدخل فى السياسة، وإذا لم أصرح سيقولون أننى تركته كى يهاجم الحكومة"، قلت له: "ولكنه يهاجمكم شخصيًا"، فأجاب وهو يهز رأسه آسفًا: "أعرف ذلك.. ولكنه يبقى أحد الشياة الضالة التى ندعو الله أن يهديها ".. ولا أستطيع أن أصور الزحام الذى أحاط بسيارتنا، أو الصياح والبكاء، بينما رجال الأمن الأمريكيين مندهشين مما يرونه، وتحركنا بصعوبة إلى مقر الإقامة، وكان الطريق من المطار حتى وصلنا طويلًا، مما أتاح لى تبادل حديث شيق معه، وكان يرد ببساطة وصراحة على كل تساؤلاتى، ومن بينها كان سؤالى عن التوقيت الذى قد يراه مناسبًا كى يسمح للمصريين المسيحيين بالحج إلى القدس؟.. نظر لى طويلًا وقد ضيق عينيه، ثم تنهد وهو يسألنى عما إذا كنت أنا شخصيًا سأزور القدس؟، ثم استطرد مؤكدًا بنبرة حاسمة: " المسيحيون المصريون سوف يصحبون إخوانهم من المسلمين عندما نقرر ذلك، ولن نقرر ذلك إلا بعد تحرير القدس".. مساء نفس اليوم، وفى أكبر كنائسنا الموجودة فى منطقة نيوجرسى، كنت مدعوًا لحفل حاشد للترحيب بالبابا، وكانت الكلمات تتوالى من بعض الشخصيات والقيادات التى حضرت الحفل حين فوجئت بمن ينادى اسمى عبر الميكروفون كى ألقى كلمة.. ارتجلت كلمة، أتذكر أننى ركزت فيها على جملة شهيرة كان قداسة البابا يرددها دائمًا: "أن مصر ليست وطنًا نعيش فيه، وإنما وطن يعيش فينا"، وأضفت ردًا على كلمة أحد الحضور تحدث فيها عن وحدة "عنصرى الأمة"، فقلت بشكل حاسم: "أن مصر عنصر واحد فقط، بعضه يدين بالإسلام وبعضه يدين بالمسيحية، ولا أوافق على مصطلح "عنصرى الأمة".. كان البابا يصفق بشدة، وأصر أن ينادينى كى يصافحنى بحرارة وهو يعلن بصوت واضح أنه يتفق مع ما قلته.. تذكرت كل ذلك وأنا أتابع السجال الدائر حول زيارة البابا تاوضروس إلى القدس، وكأنما رأيت ابتسامة البابا شنوده وتعليقه الساخر: "البابا لا يتدخل فى السياسة"، ولا أشك أنه كان من الممكن أن يضيف بحسه المرح: "والبابا أيضًا لا يخرج من السياسة"... ----------- مساعد وزير الخارجية الأسبق المشهد .. درة الحرية المشهد .. درة الحرية