ليس هناك شك أن الأزمة المصرية ليست بهذه السطحية التى تصورها البعض بعد ثورة يناير مباشرة حيث تصوروا فى غمرة الفرح بالاطاحة بمبارك أنها أخر المشوار برغم أنها كانت فى الحقيقة بداية لمشوار طويل يسترد مصر وشعبها من قبضة الاستبداد العتيق والعميق والمتجذر فى أرضها.. فالاستبداد والفساد على أرضنا لم ينشأ بشكل عارض وإنما تكرس عبر قرون وتعقدت مظاهرة على فترات وحقب زمنية طويلة وممتدة كما تركز على أرضنا لدرجة أنك لو قلت أن الاستبداد ظاهرة مصرية لم تخطئ. بل إن هذا الاستبداد قد تلبس بقدر كبير من الطغيان وبلغ درجة لم يبلغها فى مكان أخر حين قال الفرعون " ما علمت لكم من آله غيرى" و "أنا ربكم الأعلى" وهو ما لم يجرؤ عليه حاكم أخر فى أى مكان أخر من العالم وبالطبع كان لذلك أنعكاسات واضحة على الشخصية المصرية بل والتربة المصرية التى تشبعت بالمركزية التى جعلت نهر النيل الذى يمسك به الفرعون هو مصدر الحياة الوحيد لشعب مصر. ليت الأمر قد وقف عند هذا العمق بل ساندته قوى دولية مهيمنة أقتضت أن تمر مصالحها عبر الاستبداد ولا تتصور حتى هذه اللحظة خطة بديلة حال تحرر مصر من قبضة الاستبداد والفساد بل إنها أسست علاقاتها كلها بالمنطقة على أساس مركزية الاستبداد المصرى وجاءت إسرائيل وكامب ديفيد لتشد على أيدى هذا الاستبداد وتشدد على توثيق روابطه بها لتضمن نجاح مشروعها وتؤمن مستقبلها. ظاهرة بهذا العمق وهذا التأثير لا يمكن تصور أقتلاعها فى 18 يوماولا 18 عاما لأنها كانت تحتاج لبناء مشروع كامل مناهض للاستبداد والديكاتورية ينطلق من ميدان التحرير ويبنى على تجليات ال 18 يوما التى وضعت المسمار الحقيقى الأول فى نعش الاستبداد لكنها لم تضع بعد المسمار الأخير. هذا المشروع لا يمكن تصوره دون توافق جوهرى بين كل الأطراف الفاعلة فى المجتمع والساحة السياسية المصرية.. وهذا التوافق يجب أن يكون أساسه بناء "جبهة وطنية" تتعاقد على العمل معا على دفع الاستبداد واقتلاع كل جذوره.. هذا التوافق يقوم ببناء خطة كاملة طويلة المدى لاقامة دولة العدل غير المؤدلجة التى تحقق الحرية للجميع دون أقصاء أو تهميش.. هذا التوافق لابد وأن تضرب جذوره فى عمق المجتمع المصرى حتى يتصور أهم مشكلاته المتعلقة بالعدالة الاجتماعية التى لا يمكن تصورها فى ظل بقاء نظم الاستبداد التى بنت شرعيتها على دماء شعبنا وجماجم أجدادنا. وبالأحرى فإن هذا التوافق يحتاج إلى حوار متعمق بين كافة الفرقاء على أرضية محايدة تعيد الاعتبار للجميع وتفتح أفق الحوار بلا قيود وتعيد الثقة التى عبثت بها يد الاستبداد ولازالت وتضع من الضمانات ما تضع طالما أن النوايا صادقة والجميع يسعى لهدف واحد هو أقتلاع الديكتاتورية والظلم وإقامة دولة العدل والحرية. والتوافق المطلوب هو التوافق الذى يجذب الجميع ويشجعهم ولا يستبعدهم أو ينفرهم فليس بيننا عدو محتل نسعى لطرده خارج البلاد ثم نستريح وليس بيننا خائن عميل سنعلق له المشانق ونرتاح من شره.. بل الجميع وطنيون يسعون لخدمة هذا الوطن من خلال رؤية ذاتية وأقصى ما يمكن تصوره هو الخلاف الأيديولجى وهو طفيف وسطحى إذا ما قورن بخلافات أخري عميقة فى بلدان أخرى كثيرة وغاية ما يسميه بعضنا خيانة هو سعى البعض لمصالح ذاتية قصيرة النظر فى ضوء فقدان الأمل فى اصلاح الأوضاع وعموم العدل. وعلى هذا ينبغى ألا يكون بيننا من يدعو لتعليق المشانق ويحرض على الدماء وإلا فما الفارق بيننا وبين دولة الاستبداد التى أستباحت كل شئ حتى الدماء وأشهرت أعواد المشانق أمام أشرف من أنجبت مصر.. ولا ينبغى أن يكون بيينا من يسعى للاستئثار بالحكم وإقصاء الأخرين وإلا فما الفارق بيننا وبين من نسعى لاقصائه والاطاحة به وقد استبعد كل شئ وأقصى الجميع حتى حلفائه ومن حملوه حتى القصر. وهكذا يصبح حديث الاصطفاف لغوا بلا قيمة فهو مجرد اصطفاف للمبانى دون المعانى ورص للصفوف دون الفصوص فالتوافق يجب أن يكون على "مضمون جوهرى" يسعى إليه الجميع ويحمله الجميع ويدافع عنه الجميع لأن "المشروع الجامع" هو وحده القادر على انقاذ مصر من ازمتها وهو وحده القادر على أستيعاب الجميع وهو القادر أيضا على أستنفار كل الطاقات بل وتصحيح أوضاع ما خبث منها.. وهكذا أدعو لأن ندعّ من يهاجم الاصطفاف يواصل مسيرته بل ندعمه فما سعينا يوما لاصطفاف شكلى وما كان غرضنا وقفة تكتيكية ينصرف بعدها كل إلى حال سبيله دون أن نقتلع جذور الظلم والطغيان من بلادنا. هذا المشروع توجبه الشريعة كما يوجبه العقل والمنطق والسياسة والمرؤة والكرامة بل والرجولة والشهامة. المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية