موقع «نيوز لوك» يسلط الضوء على دور إبراهيم العرجاني وأبناء سيناء في دحر الإرهاب    فوز توجيه الصحافة بقنا بالمركز الرابع جمهورياً في "معرض صحف التربية الخاصة"    رئيس جامعة الإسكندرية يشهد الندوة التثقيفية عن الأمن القومي    مصر تستعد لوظائف المستقبل    تتراجع الآن أسعار الذهب اليوم فى السودان وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الأربعاء 8 مايو 2024    اعرف تحديث أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأربعاء 8 مايو 2024    عاجل - "بين استقرار وتراجع" تحديث أسعار الدواجن.. بكم الفراخ والبيض اليوم؟    برلماني: الحوار الوطني وضع خريطة استثمارية في مصر للجميع    تراجع سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الأربعاء 8 مايو 2024    قبل بداية الصيف.. طرق لخفض استهلاك الأجهزة الكهربائية    «الألماني للسياحة»: توقعات بزيادة الليالي السياحية خلال بطولة يورو لكرة القدم يوليو المقبل    تأجيل محاكمة ترامب بقضية احتفاظه بوثائق سرية لأجل غير مسمى    غارات إسرائيلية على عدة بلدات جنوب لبنان    العاهل الأردني: سيطرة إسرائيل على معبر رفح ستفاقم الكارثة الإنسانية في غزة    الأونروا: مصممون على البقاء في غزة رغم الأوضاع الكارثية    أبطال فيديو إنقاذ جرحى مجمع ناصر الطبي تحت نيران الاحتلال يروون تفاصيل الواقعة    كيف صنعت إسرائيل أسطورتها بعد تحطيمها في حرب 73؟.. عزت إبراهيم يوضح    المصري يتمسك بالمشاركة الأفريقية حال اعتماد ترتيب الدور الأول    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    تفاصيل زيادة الحضور الجماهيري بالمباريات المحلية والأفريقية    جريشة: ركلتي جزاء الأهلي ضد الاتحاد صحيحتين    الحديدي: كولر «كلمة السر» في فوز الأهلي برباعية أمام الاتحاد السكندري    آنسات الأهلي يهزم الزمالك في بطولة الجمهورية للكرة الطائرة    هل نقترب من فجر عيد الأضحى في العراق؟ تحليل موعد أول أيام العيد لعام 2024    مصدر أمني يكشف تفاصيل إطلاق النار على رجل أعمال كندي بالإسكندرية    ارتفاع درجات الحرارة.. والأرصاد تحذر من ظاهرة جوية تؤثر على حالة الطقس الساعات المقبلة (تفاصيل)    ضبط تاجر مخدرات ونجله وبحوزتهما 2000 جرام حشيش في قنا    زاهي حواس: عبد الناصر والسادات أهديا قطعًا أثرية إلى بعض الرؤساء حول العالم    الأبراج التي تتوافق مع برج العذراء في الصداقة    ياسمين عبد العزيز: فيلم "الدادة دودي" لما نزل كسر الدنيا    معجبة بتفاصيله.. سلمى الشماع تشيد بمسلسل "الحشاشين"    ياسمين عبدالعزيز تكشف حادثًا خطيرًا تعرضت له لأول مرة.. ما القصة؟    «خيمة رفيدة».. أول مستشفى ميداني في الإسلام    بعد تصريح ياسمين عبد العزيز عن أكياس الرحم.. تعرف على أسبابها وأعراضها    صدمه قطار.. إصابة شخص ونقله للمستشفى بالدقهلية    دار الإفتاء تستطلع اليوم هلال شهر ذى القعدة لعام 1445 هجريًا    الكرخ: نرفض عقوبة صالح جمعة القاسية.. وسلكنا الطرق القانونية لاسترداد حقوقنا    طبيب الأهلي يكشف تفاصيل إصابة الثنائي ربيعة وكوكا    سليمان جودة: بن غفير وسموتريتش طالبا نتنياهو باجتياح رفح ويهددانه بإسقاطه    عزت إبراهيم: الجماعات اليهودية وسعت نفوذها قبل قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي    أسامة كمال يشيد بدور الشيخ إبراهيم العرجاني ويترحم على نجله الشهيد وسيم    ياسمين عبد العزيز: النية الكويسة هي اللي بتخلي الشغل ينجح    اليوم.. ذكرى رحيل فارس السينما الفنان أحمد مظهر    اليوم، تطبيق المواعيد الجديدة لتخفيف الأحمال بجميع المحافظات    اليوم.. دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ذي القعدة لعام 1445 هجرية    أختار أمي ولا زوجي؟.. أسامة الحديدي: المقارنات تفسد العلاقات    ما هي كفارة اليمين الغموس؟.. دار الإفتاء تكشف    دعاء في جوف الليل: اللهم امنحني من سَعة القلب وإشراق الروح وقوة النفس    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق شقة سكنية بالعمرانية    طريقة عمل تشيز كيك البنجر والشوكولاتة في البيت.. خلي أولادك يفرحوا    في يوم الربو العالمي.. هل تشكل الحيوانات الأليفة خطرا على المصابين به؟    الابتزاز الإلكتروني.. جريمة منفرة مجتمعيًا وعقوبتها المؤبد .. بعد تهديد دكتورة جامعية لزميلتها بصورة خاصة.. مطالبات بتغليظ العقوبة    إجازة عيد الأضحى| رسائل تهنئة بمناسبة عيد الأضحى المبارك 2024    القيادة المركزية الأمريكية والمارينز ينضمان إلى قوات خليجية في المناورات العسكرية البحرية "الغضب العارم 24"    الشعب الجمهوري بالشرقية يكرم النماذج المتميزة في صناعة وزراعة البردي    مراقبة الأغذية بالدقهلية تكثف حملاتها بالمرور على 174 منشأة خلال أسبوع    محافظ أسوان: تقديم الرعاية العلاجية ل 1140 مواطنا بنصر النوبة    الجدول الزمني لانتخابات مجالس إدارات وعموميات الصحف القومية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما بين ألمانيا الشرقية ومنيا القمح
نشر في المشهد يوم 14 - 08 - 2015

عندما ننظر إلى الواقع في مصر الأن نجده أكثر إزدهاراً بل انه لا توجد أي أوجه للمقارنة بين حال مصر الأن وبين حال ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.. فمصر الأن رغم ما فيها من مشكلات وما يرتكب في حقها من خطايا, كانت غاية أحلام الألمان أن يصل بهم الحال إلى ما عليه المصريين الأن.. ولكن ما فعله الألمان في خمسين عاماً كان بكل المقاييس هو "الإعجاز" بكل ما تحمله الكلمة من معاني.. تحقق فقط لأنهم اختاروا لأنفسهم أقصر الطرق وأكثرها أولوية أهمية.
وإذا أرادت مصر أن تحقق ما حققته ألمانيا فعلى المصريين أولاً أن يعرفوا كيف كانت ألمانيا وكيف تكون الأن:
ألمانيا 1945
مع نهاية الحرب العالمية الثانية التي استمرت من عام 1939 إلى عام 1945، فقدت غالبية المدن الألمانية كل معالمها، فلا بيت واقف في مكانه، ولا شوارع ولا ميادين.. ولقي عشرون مليون شخص مصرعهم، وأصبح اثنا عشر مليون ألماني شريداً بعد طردهم من ديارهم في شرق أوروبا، وكان هناك ثمانية ملايين أسير في معتقلات قوات الحلفاء، بل إن السوفيت احتفظوا بالأسرى حتى عام 1956 في معسكرات عمل لديهم، ليصلحوا ما هدمته قواتهم النازية.. أما الولايات المتحدة وبريطانيا أهدتا فرنسا مليون أسير ليقوموا بالمهمة نفسها.
وفوق ذلك هاجمت طائرات الحلفاء في يومي 13 و14 فبراير 1945 مدينة "دريسدن"، وقتلت 35 ألف مدني، وحرق من تبقى من السكان جثثهم في سوق المدينة.
الزعيم النازي أو الفوهرر "أدولف هتلر" الذي وعد الألمان، حين انفرد بالحكم في عام 1934 بأن يجعل من أوروبا منطقة سكن خاصة بشعبه "الآري" الألماني المتميز, والذي يجب أن يتكاثر ليصبح عدده 100 مليون نسمة، وبشرهم بأنه سيوفر لهم فرص العمل والرخاء والصناعة والتقدم، هو الشخص نفسه الذي أمر في آخر أيامه فيما يعرف ب "أمر نيرو" بتدمير جميع المنشآت الاقتصادية، لأن الشعب الألماني خسر في معركة الحياة، وهو نفس القائد الذي وقف جنوده في وجه الهاربين من الألمان المدنيين، الخائفين من انتقام وبطش دول شرق أوروبا التي تعرض سكانها للذل على يد القوات النازية من قبل، فتسببوا في مصرع الكثير من هؤلاء الألمان الهاربين.
( كانت وقتها قوة مصر تضاهي قوة إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وأمريكا لدرجة جعلت بريطانيا تضع جلاء الإنجليز عن مصر مقابل المشاركة معها في الحرب إلا أن الملك فاروق رفض هذا المشاركة وتلك المساومة, تارة لأنه كان لا يثق في قوة التحالف البريطاني ضد الألمان وكان يتوقع انتصار الألمان ومن ثم ربما تكون العواقب هي خروج مصر من الإحتلال الإنجليزي مقابل الإحتلال الألماني.. وتارة أخرى لأنه لا يريد أن تنتقل الحرب لأرض مصر وتصبح مصر ميدان رئيسي للمعركة.. لكنها دافعت عن نفسها عندما إمتدت الحرب من شرق ليبيا إلى مرسى مطروح. )
فهل يمكن أن تقوم لدولة قائمة بعد كل ذلك؟
بعد خسارة ألمانيا.. ضُم إقليم "السوديت" إلى "تشيكوسلوفاكيا" و"بومرن وشليزيين" إلى بولندا، "بروسيا الشرقية" قسمت بين "بولندا والإتحاد السوفياتي" وعادت "النمسا" من جديد دولة مستقلة تحت اسم "جمهورية النمسا".. وقسمت دول الحلفاء ألمانيا المهزومة إلى أربعة قطاعات، هي ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية ومقاطعة "السار" ومقاطعة "الرور".. ثم بناء جدار "برلين" في عام 1961 تم تقسيم ألمانيا إلى جمهوريتين، الأولى: جمهورية ألمانيا الديمقراطية الاشتراكية "ألمانيا الشرقية" والثانية: جمهورية ألمانيا الإتحادية "ألمانيا الغربية"
كانت ألمانيا حطام دولة والبنية التحتية الألمانية كانت قد دمرت بشكل كامل ، فضلاً عن أن قوات الحلفاء كانت قد نهبت المصانع والآلات تماماً.. وتكفي الإشارة إلى أن فرنسا كانت تأخذ الفحم الألماني لتوفر التدفئة لمواطنيها، في حين تعرض الألمان في شتاء 1946م 1947م لموجة برد بلغت 30 درجة تحت الصفر، تسببت في كوارث إنسانية لا توصف، أما السوفيت فلم يكتفوا بذلك، بل كانوا يقومون بتفكيك المصانع والمعدات من الأراضي الألمانية، لنقلها إلى بلادهم.
إعادة تربية الشعب الألماني
شعب ألمانيا بعد الحرب كان عبارة عن أطفال وشيوخ ونساء كن – بجزء كبير منهن – شاهدات على الاغتصاب الجماعي الذي قامت به القوات البرية التي اجتاحت ألمانيا في ذلك الوقت، فانتشرت فكرة الانتحار حينها كنتيجة للدمار النفسي والاجتماعي.
لم تكتف قوات الاحتلال بتقسيم ألمانيا ونهب ما تبقى فيها من أساسيات الحياة، بل قررت "إعادة تربية الألمان" بحيث يتخلصون من النازية والنزعة العسكرية، ويتعلمون الديموقراطية والحياة السلمية، كما قررت معاقبة النازيين، فجرى تصنيفهم إلى خمس مجموعات، متهمين أساسيين، ومذنبين، ومذنبين جزئيًا، وتابعين، وغير مشاركين فعليًا.
يكفي أن ثلثي سكان ولاية "بافاريا" الجنوبية وحدها تعرضوا للمساءلة، وجرى إقالة 90 % من العاملين في سلك القضاء، وإغلاق المدارس حتى يتم «تطهير مناهجها والقائمين عليها من الفكر النازي»، وكذلك إلغاء دور النشر ووسائل الإعلام كافة، ثم العودة لانتقاء صحفيين يكتبون في ظل وجود رقيب من قوات الاحتلال، يقرر ما ينشر مما يكتبون.
قال ذات مرة موظف رفيع المستوى الأن؛ أنه وأسرته كانوا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء الزبائن من تناول القهوة، في حطام مقهى والده ليلعقوا ما تبقى في الفنجان.
الإحتلال مضطر لبناء ألمانيا خوفاً من تفشي الشيوعية
رفض الرئيس الأمريكي "روزفلت" لمشروع "مورجنتاو" بجعل ألمانيا دولة زراعية فقط، ووجود قناعة لدى البريطانيين والأمريكيين بأنه يجب أن لا يتكرر خطأ ما بعد الحرب العالمية الأولى، حين فرضت القوات المنتصرة على ألمانيا قرارات مهينة، ما جعلها تتحين الفرصة للانتقام.. ولذلك عرض وزير الخارجية الأمريكي "جورج مارشال" في عام 1947 المشروع المعروف باسمه لدعم دول أوروبا، فاتهمه وزير خارجية الاتحاد السوفيتي "مولوتوف" بأن الولايات المتحدة وبريطانيا تسعيان لاستعباد ألمانيا بهذه المساعدات.
ورغم إدراك الألمان منذ البداية أن الأمريكيين لم يفعلوا ذلك من أجل زرقة أعينهم، بل لأنهم يسعون إلى الحيلولة دون تفشي الشيوعية في غرب ألمانيا كما حدث في شرقها، علاوة على أن قبول هذه المساعدات مشروط بالتعاون مع بقية الدول المتلقية للمساعدات، بهدف الحفاظ على الاستقرار في أوروبا على المدى الطويل، وأن هذا التصرف نابع من فكر تاجر ماهر، يستثمر أموالاً يعرف أنها ستعود إليه مستقبلاً، فإن المسؤولين الألمان رحبوا بقبول تلك المساعدات، من ناحية لعدم وجود بدائل أخرى أمامهم، ومن ناحية أخرى لأنهم كانوا قد عثروا على الخطة الطموحة للمستقبل..أي عدم المكابرة عن قبول المساعدة في وقت الحاجة الماسة، من أقل الأعداء سوءاً، بشرط أن تتفق مع حساباتك، وأن تكون المساعدة هي الاستثناء لا القاعدة، بهدف الاعتماد على القدرات الذاتية في أقرب حين.. لا أن تصبح بندًا ثابتًا في ميزانية دولتك، دونها لا يجد شعبك ما يأكله، ويصبح كل عضو كونجرس صاحب فضل عليك وعلى كل أفراد شعبك.
بدأت النساء والشيوخ ومن كان متأملاً للدمار بجمع الأنقاض لإعادة بناء البيوت، فجُمعت الأوراق والكتب من تحت الانقاض لفتح المدارس، و كُتب على بقايا الجدران المحطمة شعارات تبث الامل وتحث على العمل، وكان من أكثرها انتشاراً.. لا تنتظر حقك ،افعل ما تستطيع ، ازرع الأمل قبل القمح.
لتشهد بعد ذلك ألمانيا ما بين عامي 1945 و 1955 م مرحلة بناء البيوت وسميت النساء في هذه الفترة "نساء المباني المحطمة" ، لينال المنتخب الألماني عام 1954م كأس العالم ، كانعكاس على الروح المتحدية حينها لظروفهم القاهرة.
( في تلك الفترة 1952-1970 كانت مصر في منحدر الهبوط بسبب سياسات جمال عبد الناصر تجاه البحث عن الزعامة العربية مهما كان الثمن, ففوض لنفسه قرار الحرب في كل البلدان العربية التي خسرها جميعاً سواء كانت عسكرية أو مادية.. ثم بدأ تسكين ضباطه الأحرار وزملائهم في شتى مؤسسات الدولة فقط كي يضمن الولاء له غير عابئ أبداً بالكفاءة ومن ثم جاء الإنهيار الإقتصادي أسرع من البرق, حتى انتهى به الأمر إلى إستدعاء حرب 1967 دون أية استعدادات لها حتى خسرها وأصبحت مصر محتلة إسرائيلية.. ومن ثم وجب تسخير ما تبقى من إقتصاد الدولة للموازنة العسكرية.. إستعداداً للحرب. )
كيف استثمرت ألمانيا المساعدات المادية؟
بلغ إجمالي ما حصلت عليه ألمانيا من مشروع "مارشال" حتى عام 1952 ما مجموعه 3 بلايين مارك ألماني، ويرى الكثيرون أنه دون هذا المشروع ما كانت المعجزة الاقتصادية لتتحقق، أو على الأقل في هذا الزمن القياسي.
الخطوة التالية كانت في إجراء الإصلاح النقدي، إذ فوجئ الألمان في يومي 18 و19 مايو 1948 بالكشف عن هذا الإصلاح والذي كان يقضي بإلغاء عملة "مارك الرايخ" واستبداله ب"المارك الألماني" وذلك بأن يحصل كل مواطن يوم 20 مايو 1948م على 40 ماركًا ألمانيًا مقابل 40 ماركًا رايخًا، ثم 20 ماركًا أخرى في أغسطس من العام نفسه، وتبديل المدخرات بمعدل 10 ماركات رايخ مقابل مارك ألماني، وإلغاء ديون الدولة.
كان البرلمان الألماني قد انتخب في 2 مارس 1948م أستاذ الاقتصاد لودفيج إيرهارد وزيرًا للاقتصاد في منطقتي الاحتلال البريطانية والأمريكية، والذي قرر في 24 يونيو 1948م حتى دون الرجوع إلى ممثلي سلطات الاحتلال فرض مجموعة من القوانين للقضاء على السوق السوداء، والإلغاء التدريجي لتوزيع السلع الغذائية تبعًا لحصص تموينية لكل مواطن.وفجأة ارتفعت أسعار السلع بشدة مقابل انخفاض الرواتب بعد الإصلاح النقدي، وأصبح الموظفون هم أكثر طبقات المجتمع معاناة، فدعت النقابات العمالية للقيام بإضراب عام في يوم 12 نوفمبر من العام نفسه احتجاجًا على الفوضى العارمة في سوق البضائع، بسبب الهوة بين الرواتب والأسعار، وشارك نحو تسعة ملايين شخص في إضراب لمدة 24 ساعة شل جميع جوانب الحياة، ودعت الغالبية العظمى من وسائل الإعلام إلى إقالة إيرهارد الفاشل، وطالبت المعارضة في خريف 1948م مرتين بسحب الثقة منه.
بعد مرور ستة أشهر فقط أصبح "إيرهارد" الدافع الرئيس لانتخاب المواطنين للحزب المسيحي الديموقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي، لتولي مقاليد الحكم، بعد أن تبين أن المعجزة الاقتصادية قد بدأت تؤتي ثمارها، وأن "إيرهارد" هو أبو هذه المعجزة.. بعد أن استثنى الموظفين والعمال من هذا القرار كي يسري على الأغنياء وحدهم.
وما بين عامي 1955 و1965م شهدت ألمانيا مرحلة بناء المصانع، حيث تم استقدام عمال أتراك لبنائها . وما بين عامي 1965 و1975م ، ظهرت رؤوس الأموال و رجال الأعمال، وتكفل كل رجل أعمال بتدريب وتعليم خمسين شاباً.
وبمرور الوقت توصل الألمان إلى صناعة معدات أفضل بكثير من التي نقلها السوفيت إلى بلادهم، وأصبحت فرص العمل في مصانعهم أكثر من حاجتهم، فجلبوا العمال الأجانب.
( هنحارب هنحارب.. لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. كانت مثل تلك الهتافات والشعارت هي عنوان المرحلة في مصر 1970-1973 وهكذا بد "أنور السادات" الحكم الذي ورثه عن "جمال عبد الناصر" وأصبحت مصر تسخر كل طاقاتها للحرب واستعادة الأرض المحتلة عند الضفة الشرقية لقناة السويس, لا توجد كيانات إقتصادية أنشأت ولا سياسة إقتصادية أتبعت.. حتى أنتهت الحرب في أكتوبر 1973 وخرج الإحتلال من معظم سيناء.. وبدلاً من الإهتمام بالإقتصاد الصناعي الذي هو أصل قوة الإقتصاد بعد توقفه عشر سنوات.. اتبع السادات سياسة الإقتصاد التجاري بمعنى أدق سياسة اللإستيراد والتصدير.. والتصدير هنا لم يكن منتج مصري, بل ما تم استيراده من دول لتصديره لدول أخرى.. وأصبحت "السمسرة" هي السياسة الإقتصادية في مصر.. وانشغل هو في معارك سياسية جانبية مع من تبقى من شيوعيين وناصريين وإسلاميين. )
الوحدة الألمانية .. ألمانيا تستعيد نفسها
لم يلهي الألمان التفوق الإقتصادي عن هدفهم الأكبر، وهو عودة وحدة شطري ألمانيا، وهي السياسة التي مهد لها المستشاران الأسبقان "فيلي براندت وهيلموت شميدت"
فمع سقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا فتحت الأبواب بين الألمانيتين ثم هُدم جدار "برلين" وتم أخيرا وفي عام 1990، ضم جمهورية ألمانيا الديمقراطية إلى جمهورية ألمانيا الإتحادية ، وعرفت العملية باسم "الوحدة الألمانية" وعادت إلى ألمانيا سيادتها الترابية بعدما فقدتها لأكثر من 45 سنة.
وقد تم إعادة إعمار ألمانيا بشكل جميل، وبطريقة متقنة بالنسبة للمباني والطرق، وكذلك بالبنية التحتية المتطورة بالرغم من أن إعمار الجزء الشرقي من ألمانيا استغرق وقتاَ طويلاً.
وتحققت في عهد المستشار السابق هيلموت كول في عام 1990م، بعد مفاوضات "2+4" أي الألمانيتين مع القوات المنتصرة الأربع في الحرب العالمية الثانية وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي، بعد موافقتهما على الشروط التي من أصعبها التنازل عن الأراضي الألمانية الخصبة الواسعة، التي حصلت عليها بولندا عام 1945م عند حدود نهري "الأودر والنايسه" تعويضاً عن الأراضي البولندية التي ضمها الاتحاد السوفيتي إلى أراضيه بعد زحزحة الحدود في نهاية الحرب العالمية الثانية.
( في تلك الفترة بين 1980-2000 كانت مصر تبدو وكأنها في مرحلة السكون أو الثبات على الوضع التي كانت عليه خلال عشرون عاماً.. واعتقد وتبنى الكثيرون فكرة أن "حسني مبارك" يحافظ على مصر من المجهول.. فتعامل مع الحكم في مصر بمنطق أمين المكتبة الذي تسلم عهدة من مئات الكتب وأرفف خشبية تحمل الكتب.. وظيفة لا تحتاج إلى أي مجهود أو فكر إبداعي.
لن تجد في عصر مبارك أية سياسات إقتصادية تمس المواطن.. الموظف منه أو العامل.. سوى بناء بعض الكباري والطرق وقليل من المدارس وعلى استحياء بع الجامعات الحكومية.. لكن سياسته الإقتصادية أو بمعنى أدق السياسة التي فرضت عليه من رجال الأعمال والأغنياء هي إزالة أي معوقات قانونية وأخلاقية تحول دونما تفشي الرأسمالية المفرطة دون أية اعتبارات للسلام النفسي والإجتماعي للطبقة المتوسطة التي إنهارت وأصبحت معظمها تعيش في جنبات الطبقة الفقيرة.. وهو ما أدى إلا زيادة الدين الداخلي لأربعة أضعاف والخارجي لضعفين.
ومع بداية الألفية بدأ الإضطراب السياسية جراء السلام الإجتماعي الذي تلاشى تماماً وتفحل رجال الأعمال أكثر خاصة عندما التفوا حول مبارك الإبن بعد أن أصبح الأب أسير نفسه ويعيش على سماع النكات السخيفة والحكاويالشخصية وفضائح بعض الشخصيات العامة.. والإبن ينتزع منه فعلياً كل سلطاته ويبقى للأب سلطة توقيع الأوراق وحضور المناسبات.. هنا كانت الثورة أمر حتمي.)
أوربا الألمانية
بعد أن كانت ألمانيا عبئاً كبيراً على أوروبا كما هو الحال "اليونان" الأن بل يزيد عنه أضعاف السوء.. أصبحت أوربا تتمنى أن تصبح ألمانيا اليوم.. في غضون خمسين عاماً تحولت ألمانيا من الضياع إلى أن تكون الأيقونة.. فأصبح الاقتصاد الألماني ثالث أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة والصين كواحدة من أكثر الدول صناعةً للسيارات والآلات والمواد الكيميائية والمعدات والأدوات المنزلية، وكرائدة في إنتاج الطاقة الشمسية في جميع أنحاء العالم، كما توجد لديها 37 شركة من أكبر 500 شركة في العالم في مجال أسواق الأسهم العالمية..ويحتل التعليم والبحث العلمي أهمية بالغة في ألمانيا بعد إعادة إعمارها بوجود 383 مؤسسة للتعليم العالي ، منها 103 جامعات و176 معهدًا تخصصيًّا عاليًا. ويقارب عدد الدارسين 2 مليون دارس، وتحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث عدد براءات الاختراع..ومازالت تسير قدماً نحو منطقة لن يستطيع أحد في العالم الوصول إليها بعد ألمانيا إلا بعد خمسين عاماً على الأقل
( مصر اليوم في عهد "عبد الفتاح السيسي" الذي تسلم مقاليدها بإجماع شعبي غير مسبوق بسبب العام الذي حكم الإخوان المسلمين من خلاله حكم مصر.. هي كألمانيا حال ألمانيا في 1955.. تعتمد على المساعدات الخارجية من الدول المجاورة حفاظاً على عدم إنهيارها واستعادة بنائها.. لكن الفارق أن ألمانيا إستخدمت المساعدات في البناء الحقيقي والسريع, واعتبرت المساعدات إستثناء لا تريد تكراره.. ولم تستخدمه في مشروعات سياسية عاطفية أكثر من كونها مشروعات ذات إنتاجية حقيقية وتعتمد في المقام الأول على إستغلال الموارد البشرية تجنباً لتفشي معدلات البطالة أكثر من هذا.. ولم تستخدمها في إنشاء مدن للأثرياء لا جدوى منها لدى المواطن العادي الذي مثل 90% من المصريين.. ولم يعلن حتى الأن خطة مستقبلية لإقتصاد مصر على المدى القصير والطويل, ولم يسعى لإستكمال سلطات الدولة.. ومن ثم الكشف عن معالم النظام السياسي الذي من المفترض أن يقود مصر من خلاله في الفترة القادمة. )
إعتقد من عاصر حالة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية أنها لن تعود يوماً لتحمل حتى نواة دولة ، الا أنها استحقت الولادة من بعد الموت بقوة نسائها قبل رجالها ، وبمن نهض بها من القاع لتغدو ماهي عليه اليوم من دولة ديموقراطية، اشتراكية، تشريعية، وفي صدارة الدول الغنية والمتقدمة علمياً واقتصادياً.. ومن عاصر مصر في نفس الفترة لم يكن يتخيل أن يصل بها الحال إلى هذا الوضع المتردي في كل شي.. فلا ديموقراطية ولا عدالة اجتماعية ولا تشريعات تحفظ للمواطن حقوقه وانهيار اقتصادي وثقافي وصحي وتعليمي.. ويبدو أن التردي لن يقف عند هذا الحد وأن مصر ينتظر مستقبلها مزيداً من الإنهيار طالما تُتبع نفس السياسات والأفكار الهدامة التي ظلت لسبعين عاماً.
المشهد .. لاسقف للحرية
المشهد .. لاسقف للحرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.