في كتابه “الموت على أيدي الحكام” الصادر عام 1996، يقول الأميركي رودولف رومل إن حوالي 150 مليون شخص قتلوا خلال القرن العشرين على أيدي حكامهم، في حين أن ضحايا مجمل الحروب التي خاضتها البشرية في الفترة نفسها لا يتجاوز عددهم الأربعين مليونا.لقد كان سان جوست على حق حين قال: “ليس أخطر على شعب من حكامه”. الفرنسي جاك سيملان المؤرخ وخبير البحوث والدراسات العالمية بمعهد العلوم السياسية بباريس، يفسر في كتابه “التطهير والتدمير. الاستعمالات السياسية للتقتيل والإبادة” عمليةَ القتل الجماعي بكونها تتعدّى المنطق السياسي الذي يدفع الحاكم إلى إبادة شعبه للبقاء في السلطة، ويعزو ذلك إلى بعد آخر سيكولوجي. فقد لاحظ أن خطاب الحاكم السفّاح وخطاب منفذي أوامره يحتويان دائما على عناصر بَارانويا، حيث ينظر إلى العدو كرمز للشر وحليف للشيطان. وعادة ما يكون تمثل الآخر على هذا النحو مشفوعا بتجريده من إنسانيته، حيث يوصف بالحشرة والجرذ والأفعى، ومشفوعا أيضا بنزعه من فرديته، فلا ينظر إليه كفرد أو مواطن، بل كعدو مبهم السمات مسكون بنزعة شريرة، لا فرق بينه وبين من يقفون في الصف المقابل. وهو أمر يسميه سيملان ب”العقلانية الهاذية”. ومثال آخر في ما يجري في سوريا الآن، فقد استفحل النزاع إلى حدّ غابت معه الغاية الأصلية (انتزاع السلطة بالنسبة إلى المعارضة، والتمسك بها بالنسبة للنظام الحاكم)، فقوبلت المجازر بالمجازر والفظائع بما هو أفظع في دوامة عنف متصاعدة يتنافس فيها الطرفان المتصارعان، النظام والمعارضة، حتى جاوزت الوسائلُ المعتمدة الهدفَ المرسوم في البداية، وآخر تقارير المنظمات الدولية تسجل تفاقم “جرائم الحرب” المرتكبة من قبل النظام . والنظام السوري هو البادئ بالعنف ضد أبناء شعبه المطالبين بالحرية وبعيش كريم، وقد استعمل لإخماد ثورة بدأت سلمية كل أنواع الأسلحة، لا يستثني من ذلك الدبابات والمدافع والصواريخ والطائرات الحربية وحتى السلاح الكيمياوي، بعد أن استشرى الاعتراض على سياسة القمع والاستبداد التي سار عليها النظام، ولم يتوانَ عن القصف العشوائي لأحياء مدنية آهلة بالسكان، لقتل أكبر عدد ممكن من الخصوم الذين فقدوا مواطنتهم وصاروا الآن “أعداء”، وحوّل حتى المسالمين من أفراد الشعب إلى مسلحين . ذلك أن منطق القتل جماعي بالأساس، إذ يتحول الإنسان الفرد إلى قاتل من خلال المجموعة، متخذا سبيلين: أحدهما عمودي يقوم على الامتثال لمن بيده الأمر والنهي، وثانيهما أفقي جماعي يعتمد على المطابقة والمماثلة، وكأن طائفة متجانسة تحارب أخرى. وبتصاعد مخاطر فقدان العرش، يتحول القتل في سلوك النظام الحاكم إلى إبادة . دعونا نصارح أنفسنا ، أن ما يواجهه السجين في السجون العربية، يجعله يكفر بكل القيم الإنسانية، ويتنكر للمعاني الأخلاقية، ويتحول إلى مخلوقٍ آخر، و ستظل أهم أسباب الإرهاب في بلادنا السجون والمعتقلات، ومسالخ التعذيب وأقبية الزنازين، ورجال التحقيق، والممارسات البوليسية، والأجهزة القمعية،وغيرها من أدوات القمع والتعذيب والترويع، فهي التي تصنع الإرهاب وتخلقه . الفقر لا يولد العنف، والحاجة لا تصنع الإرهاب، والحرمان من فرص العمل والبطالة، وتردي الأحوال المعيشية، وتدني الخدمات الإجتماعية، والتفاوت الطبقي ، والثورة على الأوضاع، وعدم الرضى عن الظروف والأحوال، وانتقاد الشأن العام، وإبداء الرأي في الأداء الحكومي، والتظاهر والاحتجاج والإعتصام والمسيرات، ونهب خيرات الوطن، وبيع مرافق البلاد، ومصادرة الرأي وحرية التعبير، ورفض القرارات الشعبية، كلها مظاهرٌ سيئة لكنها لا تصنع العنف، ولا تدفع بالمواطن ليتحول إلى قنبلة موقوتة، أو إلى رصاصة منطلقة .و لكنها تغذي هذا الطريق و يصبح هو الطريق المفتوح أمام الشباب العربي . تحول السلطة إلى وحشٍ كاسر، وعدوٍ بغيض، تنتقم من الشعب، وتنهال عليه بالضرب والتعذيب، وتزج به في السجون والمعتقلات، وتضعه كالحيوانات في الأقفاص، وتعصب عيونه في زنازين ضيقة لأيامٍ طويلة، لتخرج منه جيلاً رافضاً ثائراً حاقداً منتقماً، متطرفاً عنيفاً ميالاً للثأر ورد الإعتبار، ثم يطلقون عليه صفة الإرهاب وهم صانعوه. هنا ينشأ سؤالٌ كبير، وشكٌ أعظم، هل أن الذين يمارسون التعذيب ضدهم بهذا الشكل عربٌ و مسلمين ، وهل يستحقون العيش بسلام، والحياة بأمان، وأن يتركوا في الحياة دون انتقام، ودون أن يكونوا درساً وعبرة لغيرهم، إذ لا يعقل أن يمارس هذا القدر المهول من التعذيب ضد مواطنٍ عربي، مسلمٌ في عقيدته، أو عربيٌ في انتمائه، أو إنسانٌ سويٌ في عقله، مما يجعل أعداداًمن السجناء، يتحولون في فكرهم، ويتطرفون في عقيدتهم، وهم في الأصل مثقفون ومتعلمون، أساتذة وأطباءٌ ومهندسون و كتاب . أوقفوا التعذيب والقهر، وكفوا عن الإهانة والإساءة، وأغلقوا المعتقلات، وأعطوا المواطن حقه، واحترموا رأيه، ولاتصادروا قراره الإرهابيون هم صناع الإرهاب وليس منفذوه ومرتكبوه، وهم الدول في أغلب الأحيان، الذين يظنون أنفسهم أنهم حراسها، وصمام الأمان فيها، وأنهم يحمون الوطن بتعذيب المواطن، ويحصنون البلاد بتكبيل السجناء، ويشرفون الأمة بتلويث شرف المعتقلين، وتدنيس طهر عائلاتهم، والذين يعتقدون أنهم يجلبون للأمة الأمن بسجن أبنائها، وتعذيب رجالها، بينما هم صناع هذا المرض، فتجب محاكمتهم وادانتهم، وينبغي عقابهم واقصاؤهم، وإلا فإن البلاد مرشحةٌ للمزيدٍ من العنف، والأمة مقبلةٌ على المزيد من الإرهاب .