السياسة والسلطة في الوطن العربي لم تتغير منذ الجاهلية تسير وفق التمييز العنصري والعصبية القبلية حذر من مغبة الوقوع فى قبضة إسرائيل بالصلح معها بقصيدة "لا تصالح" كتب الشعر محملًا بكل القضايا القومية مثل الاستبداد السياسي وصراع المثقفين مع السلطة يرمز عنترة إلى الشعب العربي الذي تركه الحكام في صحراء الإهمال حتى نشبت الحرب أسرعوا إليه يدعونه للدفاع عن أموالهم وأنفسهم الكشف عن عورات المجتمع محورًا رئيسًا من محاور التجربة الشعرية عند دنقل قام بتوظيف التراث الشعبي والتناص معه باستخدام صيغ محكية شفهية تردد في الحكايات الشعبية استوحى قصيدته "حكاية المدينة الفضية" من عالم ألف ليلة وليلة استطاع أن يربط القديم بالمعاصر الغائب والشاهد كما سعى إلى تبصيرنا بتجربته الفكرية والشعورية الضاربة في الأعماق وإذا كان أمل دنقل قد جعل عنترة قناعا لشخصية الجندي المعاصر أمام صاحبة النبوءة والرؤية المستقبلية زرقاء اليمامة التي يرمز بها إلى الوطن، مثلما استدعى شخصية عنترة ليرمز بها إلى المثقفين المصريين الذين فرضت عليهم السلطة المصرية الصمت/الخرس، مثلما قيل لعنترة التراثي: اخرسْ، فإنه لا يقنع بهذا التشاكل التراثي/العصري، وإنما يستعين بشخصية تراثية تتشاكل وشخصية زرقاء اليمامة، وهذه الشخصية التراثية هي الزباء ملكة تدمر(25) التي يستدعيها بآلية القول عندما يضمن على لسان عنترة مقولتها «ما للجمال مشيها وئيدا؟!!» يقول أمل: تكلمي أيتها النبية المقدسهْ تكلمي.. تكلمي.. فها أنا على التراب سائلٌ دمي وهو ظمئٌ يطلب المزيدا أسائل الصمت الذي يخنقني: «ما للجمال مشيها وئيدا..؟!» «أجندلاً يحملنَ أم حديدا..؟!» فمنْ تُرى يصدقني؟ أسائل الركَّعَ والسجودا أسائل القيودا «ما للجمال مشيها وئيدا..؟!» ما للجمال مشيها وئيدا..؟!" ( ). يواصل أمل دنقل في هذه القصيدة مع توظيف شخصية (عنترة) للتعبير عن الصراع الحاد بينه وبين السلطة، فسادة القبيلة وكبراؤها، هم السلطة، وعنترة العبد الذي يقع على عاتقه الدفاع عن هذه السلطة بكل الوسائل التي يمتلكها، وعندما يحقق لها النصر، لا يلقى شكراً ولا عرفاناً، بل مزيداً من الهجر والنسيان: ظللت في عبيد (عبس) أحرس القطعان أجتزّ صوفها.. أردّ نوقها.. أنام في حظائر النسيان طعامي: الكسرة.. والماء.. وبعض التمرات اليابسة. وهاأنا في ساعة الطعان ساعة أن تخاذل الكماة.. والرماة.. والفرسان دعيت للميدان! أنا الذي ما ذقت لحم الضأن.. أنا الذي لا حول لي أو شأن.. أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان، أدعى إلى الموت.. ولم أدع إلى المجالسة( )!! لا يزال عنترة (المثقف العربي)، كما يصوره هذا المقطع، يعاني من الحرمان والهجران، وهو سبيل التقدم والتحرر، يدعى إلى الموت ولا يدعى إلى المجالسة والمشاورة. وفي استخدام الشاعر لهذه الشخصية إشارة ذكية إلى أن السياسة والسلطة في الوطن العربي لم تتغير منذ العصر الجاهلي، فهي لا تزال تسير وفق التمييز العنصري والعصبية القبلية. وقد يرمز (عنترة) هنا إلى الشعب العربي الذي تركه الحكام في صحراء الإهمال يسوق النوق إلى المراعي ويحلب الأغنام وينام في الحظائر، حتى إذا ما أنشبت الحرب أظفارها، أسرعوا إليه مستصرخين يدعونه للدفاع عن أموالهم وأنفسهم. لا يكتفي الشاعر في قصيدته " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة " بتوظيف أسطورة زرقاء اليمامة أو التناص مع شخصية عنترة بن شداد فقط، بل يتناص أيضا مع شخصية " الزباء " ملكة تدمر التي ورد على لسانها :" ما للجمال مشيها وئيدا أجندلن يحملن أم حديدا( ) يقول أمل:"تکلَّمي... تکلَّمي فها أنا علي الترابِ سائلُ دمي وَهوَ ظميءٌ... يطلبُ المزيدا أسائلُ الصَمتَ الذي يخنقني: ما للجِمال مشيهاً وئيداً.. أجندلاً يحملنَ أم حديداً"( ) كذلك يمكن أن نلمح مثل هذا التشاكل بين الشخصيات الأربع التي وظفها أمل دنقل في هذا النص الشعري: الجندي المعاصر– عنترة التراثي ومعادله العصري/جماعة المثقفين– زرقاء اليمامة– ثم الزباء، حيث تتشاكل جميعها مع الأنا الشاعرة التي تعرضت لصنوف من المعاناة تستدعي حالة الجندي العائد من المعركة وقد نجا من الموت، وهذه الأنا تحمل من الشجاعة والبطولة ما يمكن التماسه في الجذور الصعيدية التي ينتمي إليها صاحبها، والبطولة والشجاعة وما تستدعيان من الجرأة وجدناها عند عنترة التراثي، وهذه الأنا متنبئةٌ إذ تنبأت من قبلُ بوقوع هزيمة يونيو 1967م ولم ينتبه إليها أحد. إن هذه القدرة الفنية على المزج بين الرموز التراثية والإفادة من مدلولاتها الترميزية في سياق النص الشعري وما تستدعيه من المعادلات الموضوعية المعاصرة التي كانت الهمّ المقعد المقيم للشاعر، جعلته لا ينسى المواءمة الفنية بين رمز الزرقاء التراثية ومعادلها المعاصر وهو الوطن بأبنائه، وقد ذاقوا مرارة الهزيمة والذلة والهوان، وما ترتب عليها من المآسي، يخاطب الشاعر الزرقاء التي يصفها بالنبية المقدسة قائلاً: أيتها العرافة المقدسهْ.. ماذا تفيد الكلمات البائسهْ؟ قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبار فاتهموا عينيكِ يا زرقاء بالبوار قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار فاستضحكوا من وهمك الثرثار وحين فوجئوا بحدِّ السيف قايضوا بنا ونحن جرحى القلب جرحى الروح والفم لم يبق إلا الموت.. والحطام.. والدمار.. وصبية مشردون يعبرون آخر الأنهار ونسوة يُسقن في سلاسل الأسر وفي ثياب العار مطأطئات الرأس.. لا يملكن إلا الصرخات البائسهْ( ) لقد كان الكشف عن عورات المجتمع محورًا رئيسًا من محاور التجربة الشعرية عند أمل دنقل، ولعله هنا قد وصل إلى حافة الهاوية من حيث فقدان الأمل في التغيير، فهذه زرقاء اليمامة العرافة المقدسة بكل ما تحمل القدسية من دلالات التطهر والوفاء والصدق في النصيحة لهذا الوطن وأبنائه، قلتِ عن قوافل الغبار فاتهموا عينيك، قلت لهم عن مسيرة الأشجار فتضاحكوا واعتبروك مثرثرة تهذين بكلام غير مفهوم، وعندما تقع الهزيمة تجيء المقايضة بالمحكومين الذين يحملون العبء من قبل ومن بعد ليظل المنكوبون من أبناء الوطن قابعين خانعين تحت مآسيه، ويظل الأغنياء في لهوهم وصبواتهم، وتظل الزرقاء الوطن. وحيدة عمياء: ها أنت يا زرقاء وحيدة عمياء! وما تزال أغنيات الحب والأضواء والعربات الفارهات والأزياء! فأين أخفي وجهي المشوها كيْ لا أعكِّر الصفاء الأبله المموها في أعين الرجال والنساء!؟ وأنت يا زرقاء.. وحيدة عمياء وحيدة عمياء( ) بموازنة تقنية التوظيف الفني لزرقاء اليمامة عند الشعراء القدامى، وجدنا أن القدامى قد اتكأوا في توظيفها على التصوير البياني من حيث التشبيه الذي جاءت فيه الزرقاء في موضع المشبه به المقيس عليه أو المحتكم إليه لأنه النموذج أو المثال الذي يُطمح في الوصول إليه؛ لذلك كان الحديث عن الزرقاء في النص الشعري القديم بضمير الغياب، فهو الحضور الغياب، أما في الشعر المعاصر، فقد وجدنا حضور الزرقاء هو حضور الحضور من خلال المواجهة الفنية التي تمت على صعيد النص من خلال ضمير الخطاب، وأمثاله من النداء؛ والعلة في ذلك أن الشعراء المعاصرين قد مالوا في توظيف الزرقاء إلى اكتناه الجانب الرمزي الباحث عما وراء المعنى الظاهري، والرمز الشعري مرتبط كل الارتباط بطبيعة التجربة الشعورية التي يعيشها الشاعر، تلك التي تمنح الأشياء مغزًى خاصًّا( ) بها، ومن ثمة اتسمت تجربة الشاعر المعاصر بالعمق والنضج الفكري والثقافي مع إلمامٍ واعٍ بالتراث ومعادلاته الموضوعية المعاصرة. كما يتناص أمل دنقل مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قصيدة "رسوم في بهو فرعوني"، حيث يقول:" الناس سواسية في الذل كأسنان المُشطينكسرون كأسنان المشطفي لحية شيخ النفط"( ) قام دنقل كذلك بتوظيف التراث الشعبي والتناص معه، سواء باستخدام صيغ محكية شفهية تردد في الحكايات الشعبية مثل عبارة " كان يا ما كان في قصيدة " طفلتها "( ) أو استخدامه لبعض الأغاني الشعبية مثل أغنية" "يا شمسُ يا شموسة خُذي سنةَ الجاموسة وهاتي سنةَ العَروسة"( ) إذ يقول في قصيدة " إجازة فوق شاطئ البحر" "صديقي الذي غاصَ في البحرِ... مات فخنَّطتُهُ واحْتفظتُ بأسنانِه کلَ يومٍ إذا طلعَ الصبحُ: آخذُ واحدةً أقذفُ الشَّمسَ ذاتَ المحيّا الجميل بها وأردّدُ: "يا شمسُ؛ أعطيکِ سَنَّتْهُ اللّؤلؤيَّة. ليس بها من غُبارٍ.. سوي نکهةِ الجوع!! رُدّيه، رُديّه... يَرْوِ لنا الحکمةَ الصائبة لکنّها ابتسمتْ بسمةَ شاحبة!"( ) استوحى أمل دنقل قصيدته " حكاية المدينة الفضية "من عالم" ألف ليلة وليلة "وتحديدا؛حكاية مدينة النحاس "المدينة التي أراد الأمير موسى والشيخ عبد الصمد النزول فيها، واجتهدوا أن يعرفوا لها بابا ويجدوا لها سبيلا فلم يصلوا الى ذلك، وفكروا في حيلة لدخول المدينة لينظروا عجائبها علهم يجدون فيها ما يقربهم الى أمير المؤمنين، فصنعوا السلالم وبدأوا بالنزول إليها فكان كل من يدخلها ويرمي بنفسه إليها ينهرس لحمه على عظمه ويموت، حتى مات منهم اثنا عشر رجلا، فقرر الشيخ عبد الصمد النزول إليها متزودا بقراءة القرأن الكريم، فأبعد الله عنه كيد الشياطين وسحر السحرة،يتناص أمل دنقل مع هذه الحكاية الشعبية التي وردت في ألف ليلة وليلة، وكأن الشيخ عبد الصمد هو المثقف العصري الذي يحاول أن يدخل المدينة التي ربما تشير إلى الحياة السياسية أو الحياة العامة في إحالة للمثقف العضوي الذي يجب أن يكون فاعلا في مجتمعه،لكنه لا يتسلح إلا بالقلم، والقلم يحيل على القرآن:" كنت لا أحمل الا قلما بين ضلوعي كنت لا أحمل الا قلمي في يدي خمس مرايا تعكس الضوء الذي يسري إليها من دمي طارقا باب المدينة "افتحوا الباب" فما رد الحرس ..قيل كلا"( ) افتحوا الباب " أنا أطلب ظلا وحين يعجز عن دخول المدينة،يتقرب من ابنة ملكها بدور، لكنه حين يسكر بخمر بابل يهبها قلمه:" سكرت كاساتنا من خمر بابل ألف خيط في دمانا يستبد " أه يا سيدتي : أنت ملك أنا لا أحمل الا قلما بين ضلوعي فخذيه ..انه أثمن ما عندي .. خذيه"( ). ويشتغل دنقل على القصة الإطار لألف ليلة وليلة، وأقصد قصة شهريار وحكايته مع شهرزاد، لكنه يقدم مقلوب القصة، فشهرزاد هنا هي الجلاد الذي عبر السلطة يقهر المواطن شهريار، وتتحول العلاقة بين المثقف والسلطة إلى الدم:" ليلة واحدة تفضي بدم يا ترى من كان فينا شهريار ؟ أنا يا مسرور.( ) كان أمل دنقل يكتب الشعر وهو محمل بكل القضايا القومية ، ومثل الصراع العربي الإسرائيلي والاستبداد السياسي وصراع المثقفين مع السلطة من أجل الحرية جل اهتمامه ، وقد وصفه النقاد بأنه شاعر الرفض والمقاومة ، إذ يقول عنه صلاح فضل "لعب شعر أمل دنقل دوراً بطولياً في تمثيل المصير القومي في فترة تحولات أليمة، جعلته يلقب بأمير شعراء الرفض السياسي، لما سيصبح بعد عقد واحدة من السنين الشييء المعقول والمقبول في الحياة العربية، وهو «التصالح المستحيل» مع العدو التاريخي،.... وتأتي قصيدة «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» لتثمل المنطلق الواعد لهذا الحس الحداثي في التعبير الشعري، فهي نص مدهش لشاب لم يتجاوز العشرين من عمره كتبت عام 1962 يتمني فيه مشهداً سينمائياً لفيلم عالمي شهير، ويصب فيه كلماته المشحونة بأيديولوجيا الحرية والمخنوقة بالواقع المکمم لها في الحياة المصرية إبان ذروة المد الناصري العام عقب أول انكسار فادح له بانفصال القطر السوري وماأحدثه من تمزّقات في وجدان الشباب العربي مع تحريم التعبير المشروع عنها"( ). وتظل إفادة أمل دنقل من السير الشعبية وتجليات الفلكلور العربي، ومثلما وظف شخصية عنترة وزرقاء اليمامة والزباء وأبطال ألف ليلة وليلة ذلك وظف الشاعر قصة وسيرة الزير سالم في قصيدته (لا تصالح) ليعبّر من خلالها عن قضية الصراع العربي الإسرائيلي محذراً رئاسة مصر من مغبة الوقوع في قبضة إسرائيل بإقامة الصلح معها. تتألف هذه القصيدة من عشرة مقاطع أو وصايا على غرار وصايا كليب العشرة، يبدأ كل منها بنهي (لا تصالح!)، بل الشاعر نفسه لا يتوانى في التصريح بأن ما يكتبه هو ذاته ما جاء على لسان كليب، فهو يقدم لقصيدته بهذه الوصايا قائلاً:" فنظر (كليب) حواليه وتحسر، وذرف دمعة وتعبّر، ورأى عبداً واقفاً فقال له: أريد منك يا عبد الخير، قبل أن تسلبني، أن تسحبني، إلى هذه البلاطة القريبة من هذا الغدير، لأكتب وصيتي إلى أخي الأمير سالم الزير، فأوصيه بأولادي وفلذة كبدي.. فسحبه العبد إلى قرب البلاطة، والرمح غارس في ظهره، والدم يقطر من جنبه.. فغمس (كليب) إصبعه في الدم، وخطّ على البلاطة وأنشأ يقول..))( ): لا تصالح! .. ولو منحوك الذهب أترى حين أفقأ عينيك، ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى..؟ هي أشياء لا تشترى..را ........................ لا تصالح على الدم.. حتى بالدم لا تصالح! ولو قيل رأس برأس، أكل الرؤوس سواء؟! أقلب الغريب كقلب أخيك؟! أعيناه عينا أخيك؟! وهل تتساوى يد.. سيفها كان لك بيد سيفها أثكلك؟( ) وتعد قصة سبارتاكوس محرر العبيد الروماني هي أحد التناصات الشعرية التي وظفها الشاعر في قصيدة :"كلمات سبارتاكوس الأخيرة" .وتأتي شخصية سبارتاكوس محملة بدلالاتها المتمردة، مشحونة بالدلالات الأسطورية ويستغل أمل دنقل تلك الدلالات استغلالاً ناجحاً علي مستوي نصه الشعري. حيث لايستحضر الواقعة كما في أصلها بل يعطيها تصوراً جديداً ومعان جديدة ورؤية معاصرة من خلال عملية التوليد وتوزيع المشاهد علي مقاطع شعره والتي يسميها الشاعر، تبدأ القصيدة بحديث عن الشيطان الذي هو رمز التمرد الأكبر في التراث الإنساني ، ويكسر من خلال هذا الاستخدام الدلالة البنية الذهنية الميثيولوجية عن الشيطان، فالمجد ليس للشيطان في الوعي الديني الذي يرى أن الشيطان عاصيا لله،وأن المجد لله في الأعالي ، يأتي الشاعر ليكسر هذه الصورة الذهنية ويخبرنا أن المجد للشيطان، المجد لمن قال لا ، و لا رمز للتمرد ، فالمتمرد في النص لم يكن فقط سبارتاكوس إنما أيضا المتمرد الأكبر. ولعل الشاعر لم ير شخصية تراثية رافضة للخضوع تشابه سبارتاكوس في رفضه، فحاول أن يحدث نوعاً من الالتحام المعنوي بينهما، فنجد سبارتاكوس هو الشيطان نفسه بما يحمله هذه الشخصية من رموز الرفض والتمرد والثورة في حدوديهما"( ). "المجدُ لِلشيطانِ... معبودُ الرياحْ منْ قالَ لا في وجه من قالوا نعمْ منْ علّمَ الانسانَ تمزيقَ العدمْ منْ قالَ لا... فلم يَمُتْ وظلَّ روحاً أبدية الألم!"( ). إن تقديم صورة مغايرة للشيطان يمثل "صورة انزياحية رمزية توافق کل من يتحدي و يرفض السلطات الغاشمة والمستبدة ويدافع عن الحق بالتحريض علي نقيض مدلولها الديني القديم فيستحق التمجيد"( ). "مُعَلَّقٌ أنا علي مَشانقِ الصباحْ وجَبهَتي بالموتِ محنيِّة لأنني لم أحْنِها.... حيَّة! ...... يا إخوتي الذينَ يعبرونَ في الميدانِ مُطْرقينْ مُنحدرينَ في نهايةِ المَساءْ في شَارعِ الاسكندر الأكبرْ لا تَخجَلوا... ولترفَعوا عيونَكم إليّْ لأنكم مُعَلّقونَ جانبي... علي مشانقَ القيصرْ فلترفَعوا عيونَكم إليّ ربما... إذا التقتْ عيونُكم بالموتِ في عَينَيَّ يبتسمُ الفناءُ داخلي... لأنكم رفعتمْ رأسَكم... مَرّهْ"( ) يصير الشاعر هو سبارتاكوس المتمرد الثائر ، لكن الثائر يشنق ويعلق على مشانق الصباح، ويستنهض الشاعر همم الشعب، يطلب منهم أن يرفعوا رؤوسهم إليه، ينظرون في عيونه، لكنه يتكشف أنهم معلقون مثله،فالموت في عيونهم. وهکذا يصبح موته موت الحياة أو الشهادة من أجل أمته وفي سبيل الحرية. جبهته محنية بسبب الموت فيما كانت خلال حياته لا تعرف الانحناء. يخاطبهم سبارتاكوس بأن يرفعوا رؤوسهم، ويروا مصيرهم المرمز في مصير، حيث أنهم معلقون مثله علي مشانق القيصر المستبد. "يا قيصرَ العظيمَ: قد أخطأتُ.. إني أعترف دَعني علَي مِشنقَتي ألْثُم يَدَكْ ............... دَعني أكفِّرْ عن خطيئتي أمنحْكَ بعدَ مَيْتَتي جُمجُمتي تصوغُ منها لكَ كأساً لشرابكَ القويّ"( ). يواصل الشاعر التناص مع القصة،لكنه يأتي بصورة مغايرة عن القصة الحقيقية، فالثائر الروماني لم يتوسل إلى قيصر، لكن الثائر المعاصر يسخر من السلطة، ويتوجه إليها في حس تهكمي مؤلم أنه سوف يلثم يد قيصر حتى وهو على المشنقة، بل يواصل السخرية المفجعة بأن الثائر المعاصر المصلوب على المشنقة سوف يمنح قيصر/ السلطة جمجمته كي يصوغ منها كأسا لشرابه القوي. النتائج إن النصوص الغائبة وحفريات المعرفة في الشعر سؤال شغل النقاد كثيرا، أسماه البعض تناصا، وأسماه البعض الآخر توظيفا للتراث ، وقد استخدم مصطلح "التعبير بالموروث" أي:"توظيف التراث توظيفاً فنياً للتعبير عن التجارب الشعرية المعاصرة"( ) بدلا من (التعبير عن الموروث) الذي هو شكل من أشكال استنساخه أو تسجيله، وقد أفاد أمل دنقل في مشروعه الشعري من الموروث واعتباره رافدا مهما من روافد شعره، وقد قامت الباحثة بقراءة النصوص بهدف البحث عن النصوص الغائبة فيها وتوصلت إلى عدد من النتائج منها: 1 إن القدرة الفنية على المزج بين الرموز التراثية والإفادة من مدلولاتها الترميزية في سياق النص الشعري وما تستدعيه من المعادلات الموضوعية المعاصرة مكنته من أن يقيم مواءمة فنية بين الرموز التراثية ومعادلها المعاصر وهو الوطن بقضاياه. 2 يعد أمل دنقل من الشعراء الدين أسهموا في تأصيل هذا التوظيف برؤيا معاصرة تتواشج فيها جملة من العلائق الحكائية التي تنم عن تداخل عدة نصوص بطريقة فنية وسليمة، وهي تؤدي تعدداً دلالياً يتراوح حضوره بين حقلي الشعر والمسرح الشعري. 3 استطاع أمل دنقل أن يربط القديم بالمعاصر، الغائب والشاهد، كما سعى إلى تبصيرنا بتجربته الفكرية والشعورية الضاربة في أعماق الوجود الإنساني التليد. 4 أفاد الشاعر من توظيف التراث الشفهي أو الثقافة والسير الشعبية في قصائد كثيرة، فوظف قصة ألف ليلة وليلة وسيرة كليب والزير سالم، بعض الأغاني الشعبية. 5 وظف الشاعر بعض الأساطير مثل أسطورة زرقاء اليمامة. 6، وظف الشاعر بعض الرموز التاريخية مثل سبارتاكوس محرر العبيد والثائر الروماني. 7 قام الشاعر بالتناص الأدبي المعرفي مثلما تناص مع شعر أحمد شوقي والمتنبي. 8 قام الشاعر بالتناص مع بعض نصوص من شعره هو.