في الأزمان التي يهمل فيها نفر من الناس حركة الزمان ولا يتشبثون إلاّ بتقديس المكان - مواضع محددة من المكان - يشتعل الحديث كثيراً بين طليعة من طائفة هنا وأخري هناك عن المنع والتحريم بوصفهما الأصل مع أن الأصل هو الإباحة . واللافت للنظر أن الحديث عن المنع والتحريم يبدأ من العموميات القطعية ولا يثنّي بالجزئيات المدللة علي صحة الافتراض العمومي المتصايح بالتحريم عبر الأثير من خلال مكبرات الصوت وثوباً حاداً وفجائياً نحو التأثيم فالتجريم ؛ مع أن التجريم الدنيوي في النص القرآني مقصور علي (القتل والزنا وقذف المحصنات والسرقة وقطع الطريق "الحرابة") والتأثيم والتجريم لما يلحق الضرر بالمجتمع عمل مشروع ، غير أن محددات ما يضر وما لا يضر وما ينفع ومالا ينفع المجتمع هو عمل مختص وله أهله فما كان مخالفاً (للعقائد أو للعبادات أو للمعاملات أو للأخلاق ) وهي أصول الدين فحسابه عند الله لا البشر. وما يخص الدين فهو شغل رجال الدين من أهل العلم المتفقهين في الدين والمنزهين عن الغرض الذاتي أو الغرض التحزبي الذي يمكن رجال الدين من تسييس الدين . وما يخص السياسة فهو شغل السياسة والمحللين السياسيين دون خلط لما هو أصل أو فرع في الدين بشئون السياسة والحكم . وما يخص الأدب والفن فهو شغل النقاد وعلماء اللغة والأدب والفن والفلسفة . والخلط في الاختصاص عمل من أعمال الفوضي الفكرية المصاحبة لأزمنة الإنحدار حيث يختلط الاشتغال بين التخصص وعدم التخصص ، فتجد رجال الدين يحكمون الأدب بمقاييس آرائهم الدينية وفق ما فهموه أو ما يريدون للناس فهمه ، انطلاقاً من مبدأ التحريم والتأثيم فالتجريم . ولا يهم إن كان من الواجب علي من يحكم علي عمل ما أن يحكم فهم شروطه - أولاً - ويتملك الأدوات التي تؤهله للحكم - ثانياً - ولا يفصل عند انشغاله بإصدار الأحكام بين الشكل والمضمون ، ولا يجتزئ صورة أو موقفاً أو لفظاً من السياق العام للعمل الإبداعي في ظل إهمال هؤلاء المتصايحين بشعارات المنع خوفاً علي المجتمع من إفساد الكتاب والأدباء والمفكرين له ، إذا صور واحد منهم في رواية له أو مسرحية أو فيلم أو صورة مشهداً إباحياً أو جعل شخصية روائية أو مسرحية تتلفظ بألفاظ ثقافة بيئتها السوقية أو البذيئة . وهم يتكلمون تارة باسم الدين وأخري باسم المجتمع ، متقنعين خلف أهداف سياسية تتستر بالدين. وفي الحالة الأولي يحرم من يحكّم الدين ؛ الحديث عن الجنس أو تصويره تصويراً أدبياً أو فنياً . والتحريم قد يقوم عندهم علي أساس من الشرع - عند بعض المفسرين المسلمين المعاصرين أو عند غيرهم - أما الشرع فقد تحدث عن الجنس ووضع للتناكح ضوابط تحدد المشروع منه ، وغير المشروع (المحرم). والأدب رواية كان أم شعراً أم مسرحاً أم فناً سينمائياً أم تصويراً لا يتوقف عن تصوير الجنس، سواء توخي في ذلك حديث الشرع أم خالفه ؛ لأنه إذا كان التحريم يمنح للشيء المحرم نوعاً من التقديس ؛ فإن الحديث عن الجنس بوصفه محرماً يضع موضوع الجنس موضع التقديس أيضاً . فالتحريم منع عن المساس بما هو مقدس . والمساس بشيء معناه التعريض به والحط من شأنه، فهل كل حديث عن الجنس هو حط من شأنه ؟! ربما كان الحديث عن الجنس فهماً له وإحاطة به . وربما كان الحديث عن الجنس إعلاء من شأنه وربما كان الحديث عن الجنس كشفاً لصور ممارسته ممارسة بذيئة أو متدنية تحط من شأنه ومن شأن أصحابه ، ربما كان الحديث عن الجنس تعليماً أو تربية أو نوعاً من تعديل السلوك (تعلماً) وربما كان وقاية وحذراً من وقوع من ليست لهم خبرة ولا دراية بالزلل !! ونحن إذا رجعنا إلي أسباب الخلق كما نص عليها القرآن نجدها في (سورة الذاريات) في قوله: "وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون". إن الخلق في البداية كان تشكيلاً من (صلصال مهين) حسب قصة خلق آدم ، غير أن نسله ؛ خلق عن طريق الممارسة الجنسية لذلك قلت : (في البدء كان الجنس!!) بوصفه وسيلة للخلق بعد آدم .. ولما كان الخلق وسيلة للعبادة علي اعتبار أن العبادة غاية إلهية للخلق ، ولأن الجنس وسيلة إلهية للنسخ التالية علي خلق آدم ، ولأن الهدف لا يتحقق بدون الوسيلة ؛ فإن الحديث عن الغاية من الخلق وهي العبادة ، وليست هناك عبادة بدون عقيدة وليست هناك عبادة بدون معاملات وبدون أخلاق وهذا يجرنا بالضرورة إلي الحديث عن وسيلة الخلق (الجنس) لأن حظر الحديث عن صورة الخلق (وسيلة) يعد فصلاً للوسيلة عن الغاية التي انتدبت لها ، مما يصيب المخلوق بجهل استخدام الوسيلة (الجنس) ؛ ومن ثم الجهل بالغاية نفسها واستبدالها بغايات أخري أدركت وسائلها . وبذلك تخرج الغاية الأصلية عن إطارها وهو (العبادة) ، إعمالاً لقول الخالق (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . فإذا كانت الغاية مقدسة فإن الوصول إلي المقدس يتحقق بوسيلة مقدسة أيضاًَ . ولمّا كان الحديث عن الله هو حديث عن المقدس خالق الغاية والوسيلة ، متاحاً للمخلوق وكان الحديث عن الغاية نفسها (العبادة) متاحاً للمخلوق ؛ فكيف لا يتاح للمخلوق أن يتحدث عن الوسيلة (الجنس) كيف لا يشبع وسيلة الخلق درساً نظرياً وتطبيقياً من خلال تصويرها بأساليب أدبية وفنية ؟ حتي تحكم المخلوقات البشرية توجيه الوسيلة الوجهة التي تحقق الغاية من خلقها ؟! إن هذا التمهيد ليس نوعاً من التحيز لفكرة الإباحة والبذاءة أو الترويج لأدب الجنس ، ولكنه مجرد تمهيد نظري تأملي في مسألة لها صفة القدسية التي نوليها لمن جعلها وسيلة لفعل العبادة . ذلك أن تقديسنا لذاته ولغاية جعل الجنس أداتها يلزمنا بتقديس أداته . ومعني ذلك أن هذه المقالة هي نظرة تأملية ترتقي درج التحليل ؛ كشفاً عن قداسة وسيلة الخالق في خلق من يحقق غاية خلقه لخلقه : (العبادة) وذلك في صورها الفنية والأدبية المتباينة . ومع التحليل المنهجي لا يكون سوي الحياد العلمي الموضوعي الذي يكشف عن المكونات في كيفية وجود الصورة أو الظاهرة وسببية وجودها علي النحو الذي وجدت عليه وما يراد منها تحقيقه علي المستوي المعنوي أو الفكري . وهو تحليل لا ينفصل فيه الشكل عن المحتوي ولا يجتزأ منه جزء أو فقرة أو صورة أو لفظة من سياق الحدث ككل . ولأن المسرح هو اختصاص فني فاعل في معرفتنا ، بالقدر الذي نحن فيه فاعلون ؛ لذلك كانت وقفتنا هنا دفاعاً عن مشاهد الإباحة في الأدب والفن دون حرج عند الحديث عن رغبات البدن تلك التي لم يخجل القدماء من الحديث عنها سواء عند العرب أو عند الإغريق والرومان الذين (تنبهوا إلي قدسية الرباط المقدس الذي يربط بين جسدي الرجل والمرأة وإلي عدم الخجل من رغبات البدن ، فلما جاءت المسيحية في القرون الوسطي زرعت في نفوس المؤمنين بها الإحساس الدفين بأن الجنس خطيئة تستحق التكفير عنها ) إن الأدب والفن صورة . والصورة لا تنشأ بغير العاطفة والفكر والخيال . وإن كانت العاطفة والخيال أسبق من الفكر لذلك فإن القول بإعلاء قيمة العقل علي حساب العاطفة والغرائز هو إبطال للصورة ، أي نفي للأدب والفن . والصورة في المسرح سواء قامت علي الإيهام وأرسلت علي جناحي الاندماج (المتعادل بين المرسل والمستقبل) أو قامت علي الدهشة وأرسلت عبر وسائل الإدراك والوعي ؛ فهي بالإيهام والاندماج معاً أو بالإدراك تدفع المجتمع المدني إلي المزيد من الاستبصار والتطلع إلي المستقبل الأفضل للإنسانية وتدفع المجتمع غير المدني الي مراجعة نفسه وإيقاظ ضميره والشروع في مسيرة ديمقراطية من خلال التفاعل المتبادل بين مجتمع العرض المسرحي ومجتمع الصالة.