كانت نقطة البداية يناير 1995 وفي مدرج بمدينة «إيلكو» الأمريكية التف نحو 0 1 آلاف من الشباب المناهض للحرب ومن أفراد الأسر التي فقدت أحد أبنائها، البعض في الخليج والأغلبية في العراق، فضلاً عن أفغانستان. جاء الجميع ليصاحبوا جيلا جديداً من الشعراء، اطلقوا علي أنفسهم «شعراء رعاة البقر»، ورد عليهم الشعراء ساكنو المزارع الشاسعة، بتسمية لا تقل غرابة عن الأولي «شعراء الحملان». ومع الشعراء احتل أفراد الأوركسترا أماكنهم، وأغلب آلاتهم الساكس والطبول الأفريقية - الأمريكية، ثم الجيتار. موسيقاهم هي موسيقي الراب. وعلي نغماتها بدأ كل شاعر ينشد قصيدته، الشاعر فيرتللني يرقص، ولاحشد يرقص معه، وهو يردد: - لن أذهب إلي طيران الأردن - لن أذهب إلي طيران الأردن - فمن قبل من قبل ذهب أخي - لم يعد - علي متن طيران الأردن وما إن أنهي قصيدته حتي صعدت إلي أعلي المدرج شابة ممسكة بجيتار إنها الشاعرة كارين الكالي ومع الشاعرة «كارين الكالي» يتجاوب حشد هائل من الشباب المناهضين لسياسة الحروب، ومن الأمهات اللاتي فقدن أبناءهن في حرب الخليج أو في العراق. الكل ينشد مع الشاعرة قصيدة بعنوان «إلي واحدة في بيروت» وتبدأ علي هذ النحو: - إنها تحلق، تحلق فوق مدينتي - طائرات سكاي هوك - تحلق - وهاهي في طريقها لتقذف مدينتك بالقنابل - أيقظتنا الضوضاء - ثم إذا بي فريسة لقناص عنيف - بلاحراك - أحلم - أحلم بك وببناتك ويردد الحشد - إذا ماحدث شيء للبنات، بناتي - إننا نحملكم المسئولية، أنتم بالذات - ففي الخامس والعشرين من إبريل - دكت طائرات إسرائيل بيروت بقنابلها - بينما أنا وأنت نحتسي النبيذ في أقداحنا بقبرص ثم نتناقش في السياسة إنني أدير قناة إسرائيل، بعد البي- بي- سي - قناة عسكرية - ولا أدري أي قناة أصدق - هذا الذي يحدث - في صفوف لبنان - لم تمض دقائق علي وقف إطلاق النار - حتي شرع مصور قناة C.B.S - يصور مركبات إطفاء النار - يصورها من شقة صغيرة - أهو المنزل، حيث تسكنين؟ «لكن ها قد عادت السكاي هوك تحلق فوق مدينتي تم تستدير الشاعرة كارين الكالي نحو الجمهور، لتختتم قصيدتها الغنائية. - أيها الصديق - إن زوجي في الدفاع المدني وأبنائي صغار إزاء الحرب - أما أنتم فلديكم بنات يافعات - مدمنات خمر - لهذا لا يمكننا أن نحارب حربكم - لكن كل واحد منا، كل واحد منكم - مسئول ثم ساد صمت عميق، لم يقطعه سوي صعود الشاعر زار زيسكي «ZARZYSKI» وهو يضع يده في جيب سرواله الجينز، وعلي رأسه قبعة رعاة البقر، وما إن اعتلي المنصة حتي أخذ الحشد يهتف ويردد وهو يرقص الراب - زار زيسكي ينشد - علي إيقاع الويسكي ما الذي يدفع حشداً كهذا إلي أن يجتاز طريقا تغطيه الثلوج مع بوادر عاصفة، كي يرقص ويغني مع شعراء الكاوبوي؟ في كلمة إنه التعبير عن روح الجماعة الرغبة في التنفس بعد أن اختنق الملايين بسبب سياسة الحروب الصغيرة وتجارة الأسلحة الاستراتيجية، ولأن الوقود الحقيقي لهذاالذي يحدث في كل ولاية هم أبناء الأسر. وإزاء ما تبثه القنوات الفضائية، سواء عما يسمي بالإرهاب الدولي وحتمية محاربته أو إعادة صياغة الإنسان في الشرق الأوسط، وفق ما يسمي بأسلوب الحياة الأمريكي، إزاء مزاعم نشر الديمقراطية علي أوسع نطاق وجد الجيل الحالي من شعراء الولاياتالمتحدة أن خير سلاح يشهر في وجه القنوات الفضائية هو تجميع أكبر حشد من مختلف الفئات الاجتماعية وذلك في إطار ما سموه «اللقاء السنوي لشعراء الكاوبوي «رعاة البقر»». الفكرة بدأت عند شعراء مدينة إيلكوELKO مدينة صغيرة مركز لمزارع واسعة، لايعكر هدوء سكانها ضجيج السيارات أو صخب النوادي الليلية والشعراء هم: «وادي ميتشيل» و«بول نارزيسكي» و«الاس ماكريني». و«وادي ميتشيل» هو شيخ شعراء الكاوبوي، انه من أبناء إيلكو، لكنه يعمل بمكتبة الكو نجرس، وبعد نجاح تجمع شعراء مدينة إيلكو، استطاع وادي ميتشيل، أن ينظم أمسيات شعرية بقاعة قوس قزح الشهيرة نفس مكتبة الكونجرس. وعلي هذا النحو، انتقلت الفكرة إلي واشنطن ثم نيويورك ثم بدأت تنتشر هنا وهناك حتي أصبحت جزءاً من حياة سكان 12ولاية أمريكية. وراء هذه الظاهرة فكر ثوري علي مستوي الاحتراف السياسي بل علي مستوي الإبداع الفني فكر يتخلص في هذا المبدأ: «تضييق الهوة الواسعة بين الشعر الأكاديمي وبين الأغاني الشعبية»، فهي إذن قضية من أهم قضايا الشعر المعاصر ألا وهي: «ثنائية لغة التعبير». ففي الكتب الخاصة في الأعمال الأدبية نستخدم لغة رصينة لكنها تجمدت في قوالب متحجرة لا أحد في بيته أو في المقهي أو في العمل يتحدث بنفس التراكيب اللغوية التي تدرس في المدراس والجامعات. وبالنسبة للشعر فقد قضي عليه أن يظل حبيس دواوين مطبوعة تقرأ في صمت تحت مصباح صغير كأنها تعاويذ الكهنة بينما خارج البيت يوجد شعر آخر، شعر يستمد إيقاعه من إيقاع الجسم البشري من الإيماءة من النظرة أساسه الرغبة في الرقص الكامنة لدي كل إنسان. فلو تحول الشعر من قوالبه التقليدية ليصبح بلغة الأغاني التي ترقص الملايين علي أنغامها لن يكون هناك شعر للصفوة وأغاني للعامة فالشعر الصادق هو ذلك الذي يستجيب لحاجة الإنسان لأن يصرخ، يمرح، يسخط، يتنفس، يدندن. الأيتام الأطفال علي ترنيمة المهد؟ إذن منذ طفولتنا ومدركاتنا الحسية تنظم خطوط المجال المحيط بها وفق إيقاع موسيقي. ومن إيلكو إلي قاعة قوس قزح بمكتبة الكونجرس إلي الساحات الواسعة في تقاطع الطرق بالمدن الكبيرة وعلي درجات مداخل الفنادق تتكرر نفس الظاهرة. ولأن موضوع القصائد مستمد دائما من هموم كل أسرة فالأمريكي البسيط يجد نفسه فيما يردده الشعراء كذلك اختيار الشعراء لزي الكاوبوي إلي جذورة: الفروسية، المغامرة، الشجاعة، الصراحة. والطريف حقا أن الكثير من شاعرات الجيل الحالي خضن هن أيضا نفس التجربة وأطلقن علي مجموعاتهن: «شاعرات حظائر الماشية» لأن في مرحلة النزوح إلي الغرب كان دور المرأة هو العناية بالماشية بالإضافة إلي المساهمة في مرحلتي البذر والحصاد. والبذر في أي ريف له طقوسه وغالبا ما تقام حلقات رقص وغناء جماعي وكذلك ميلاد الطفل والزواج وحتي الموت ومن إيقاعات تلك الرقصات يستمد الشعر المعاصر بنيته كمقطوعة موسيقية غنائية راقصة. وفي تحقيق صحفي طويل قامت به الناقدة «سارة دافيدسون» ونشر بعدد 15 يناير 1995 أي في بداية بلورة الظاهرة أقول نشر الحديث بمجلة نيويورك تايمز، ونعرف منه أن الرائد الأول لهذا الاتجاه هو: «هال كانون» من أهم علماء الانتروبولوجيا الثقافية والفولكلور بالطبع وهو من أبناء إيلكو وقد دعا ميتشيل إلي أول تجمع لشعراء الكاوبوي ثم بدأ الخط في التصاعد. وتقول الناقدة سارا دافيدسون: «تساءل زارازيسكي» لماذا تكون هناك مسافة بعيدة بين الأدب الرصين المكتوب والأدب الشفهي الذي ينتقل من جيل إلي جيل عن طريق «الحكي»؟ ولو استطاع شعراء الكاوبوي أن يحفزوا الجماهير إلي حب جرس الكلمات وحب أسطر الشعر الطويلة عندما تقطعها جمل قصيرة مثل ضربة قدم الراقصة مع نهاية كل حركة ومثل العوارض في النوتة الموسيقية عندئذ ستمحي المسافة بين الأغاني الشعبية وبين الشعر بمعناه القديم، أي الأكاديمي. ها قد تكون جمهور عريضة من محبي حلقات الشعر، ويبقي المضمون والمضمون عن هؤلاء الشعراء هو معاناة القاعدة الشعبية العريضة وأول هم هو دفع البلاد إلي العدوان بحجة أو بأخري ومن هنا «معاصرة» الشعر للأحداث الجارية لا بالخطاب السياسي بل بصرخات احتجاج بالرفض، بالقدرة علي أن يحرك الشعر الملايين كي يقولوا لسياسة الحروب الصغيرة ولتجار السلاح: «لا، لا، لا».