بعد العرض المفاهيمي «ماذا يحدث الآن؟!».. والذي أقيم بقصر الفنون عام 2008 بمشاركة 32 فناناً.. وقدم مشهداً تشكيلياً ناجحاً لفنون ما بعد الحداثة.. تلك الفنون التي ظهرت في الثلث الأخير من القرن الماضي وأصبحت حقيقة واقعة ونحن في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة.. جاء عرض و« لم لا؟!» خطوة أكثر جرأة وانطلاقاً إلي آفاق جديدة بمشاركة 43 فناناً وهو يعد بحق «هايد بارك» الإبداع التشكيلي.. وقد فاض بحرية التشكيل والتعبير.. وحرية الأفكار المفاهيمية المسكونة بالوسائط المتعددة من الميديا الحديثة والتي باحت بتنوع الأساليب والأشكال.. والتجارب.. في هذا العصر الذي انتقل فيه الفن من الصورة الزيتية إلي اللوحة الإليكترونية.. واستعمل مع المعادن والحجارة.. الألوان العاكسة وملامس النسيج والضوء والكتابات التي تنبض بوميض الليزر وحتي الأطعمة.. والناس كما في فن الأداء «البيروفو رمانس». في و«لم لا؟!» ارتفعت أعمال في مستواها إلي درجة كبيرة وهبطت أخري.. و هناك أعمال جسدت المعني الحقيقي لما بعد الحداثة.. وأخري غلب عليها الارتجال والاستخفاف.. كما جاءت أعمال محاكاة وترديد للنموذج الغربي. إلا أنه وبوجه عام يعد مشهداً يستحق التقدير.. أكد علي أن الفن المصري جدير بأن يواكب بمستوي لائق ما يحدث بالعالم من تيارات واتجاهات في الإبداع. اتفرج ياسلام تكمن قيمة أعمال رائد فن البوب المصري رمزي مصطفي في أنها تنتمي بصدق للفرجة الشعبية.. وطوال رحلته ظل يقدم أعمالا تعد في الأصل تأصيلاً واستلهاماً لما نراه في الواقع الشعبي في الحياة اليومية. في القاعة الصغري بقصر الفنون يطل تشكيل رمزي مصطفي «عدوك أمامك» وقد جسد من خلاله أحد عشر شخصاً داخل فصل دراسي.. يجلسون علي مقاعد أمام مرآة.. في لمسة تلقائية مسطحة بطريقة القص.. الوجوه مرايا صغيرة بيضاوية.. وعلي جانبي المرآة الأمامية مسطحان بالأحمر البرتقالي حيث نقرأ «عدوك أمامك».. وهنا يتوحد المشاهد مع التشكيل ويصير جزءاً من العمل باتجاهين حين ينظر إلي الأمام باتجاه المرآة مع الشخوص.. وفي نفس الوقت حين يتطلع إلي تلك الوجوه فيطل وجهه.. ولهذا يحذرنا رمزي مصطفي من عبادة الآنا والنرجسية الشديدة بإشارة داخل التشكيل يشير فيها إلي «العابدون للشمس والذات».. والعمل بألوانه وتنوع مستوياته يحمل في طياته معاني عديدة مع القيمة الأخلاقية تحقق متعة عقلية وثقافية للمتفرج.. ومعه نقول: اتفرج ياسلام.. وتأمل هذا العرض التفاعلي. - ولا ينفصل الفنان عن الواقع الاجتماعي وقضاياه.. يتأثر به وثؤثر فيه.. وقد جاء التشكيل المجسم للفنان عبدالوهاب عبدالمحسن.. «جدار من أرغفة الخبز» متراصة بانتظام. في مفارقة بين حاجة الناس وتلك الوفرة.. وهو يذكرنا بتشكيل الفنان الإيطالي ميشيل هانجران والذي يبدو غاية في الخفة والطرافة والرصانة والإحكام من أقماع بسكويت الآيس كريم.. تتداخل فيه الأقماع قاعدتها إلي أسفل ورأسها إلي أعلي في دنيا تتنوع بمستويات الدخول والخروج.. البارز والغائر. تألق فن النحت في فنون ما بعد الحداثة انتقل فن النحت إلي حالة جديدة من التشكيل المجسم.. تموج بالحركة.. وتعكس لميكانيكية الآلة.. وتشع بالضوء والنحت الصوتي وقد ارتفع مستوي فن النحت أو التشكيل المجسم إلي درجة كبيرة كما في التشكيل الثنائي المضاء بالنيون للفنان جمال مليكة.. جسد فيه آدم وحواء بهيئة هيكل عظمي.. وهو تشكيل جمع بين المادي والمعنوي.. الموت والحياة.. أو الموت الجسدي وبقاء الروح متوهجة بالنور الذي يضيء من الداخل.. وقد تألق العمل بخلفية من لوحة تصوير لنفس الثنائية توهجت بالأحمر الناري مع الأزرق البحري.. وهنا يتحاور المجسم مع المسطح وسحر الضوء مع سحر اللون. - وبعنوان «الماكينة الموسيقية» قدم الفنان محمد هارون تشكيلاً ثلاثياً.. نحت حركي صوتي.. مستوحي من المسلة المصرية وروح الهرم مع المبالغة في الاستطالة وهو تشكيل معدني.. اعتمد فيه علي الحركة الميكانيكية من تلك الأشكال التي تتحرك علي السطوح في إيقاع رتيب انعكاساً لآلية العصر ورتابة الحياة. - ويأتي التشكيل الميكانيكي الضوئي للفنانة نيفين فرغلي والمسكون بالمطارق والتروس في ثراء شديد بين التقاطعات الرأسية والأفقية.. وهو تشكيل ترتبط فيه الحركة الميكانيكة بالضوء الذي يشع في بؤرة العمل.. ولا شك أنه يمثل صورة للإبداع التخيلي يمتزج فيه سحر الفن بميكانيكا الآلة. - وعند مدخل قصر الفنون يطل تمثالا أحمد عسقلاني.. شخصان بدينان في ضخامة شديدة في كتلة شاحمة تنفرج عن ساقين كجذع الجميز مع الانحسار البين للذراعين وتضاؤل الرأس.. هل أراد الفنان أن يجسد مساحة الترهل والبلادة التي تسود الحياة المعاصرة بفعل التلوث رغم صخب العصر وإيقاعه السريع؟ - وفي تنوع وثراء تتألق لوحة التصوير بوسائط متعددة.. كما في اللوحة الصرحية للفنانة مروة عادل والتي تعتمد علي تسع شرائح تصويرية جاءت أشبه بالوميض تصور امرأة في إيماءات غائمة.. متوحدة مع الخلفية وخارجة منها.. ضائعة في الفراغ الذي يشبه ملمس الحنين الخشن.. واللوحة جاءت بمثابة صرخة تعبيرية للمرأة الموزعة بين قيود المجتمع ومحاولة الخروج والانطلاق. - وتتألق أعمال الفنان فارس أحمد فارسي في التصوير المجسم وهي أعمال مفعمة بروح التراث المصري خاصة الفن القبطي مع الإسلامي والفرعوني.. شكلها علي وسائد من الصفيح.. ومن خلالها تتأكد العلاقة الحقيقية بالموروث التشكيلي ما بين التفاعلي معه والخروج عليه كما نري في بعض الصفائح المهمشة والمرسمة. - ويتواصل فن التصوير بوسائط عديدة في أعمال الفنان محمد عبلة.. فهو يستخدم شرائح كولاجية ما بين الرسوم والكتابات الخطية والكاريكاتير مع رموز شديدة المصرية.. تؤكد علي انتماء أعماله للثقافة الشعبية أو «البوب» المصري.. مجسدا عناصر المجتمع المصري من رجال الحكومة الذين يتمثلون في الضباط مع السلطة الدينية والأهالي من العمال والفلاحين والموظفين. ويعد ما قدمه عبلة بمثابة معرض استعادي يضم مراحل من أعماله.. هذا بالإضافة إلي عرض الفيديو من خلال شاشة صغيرة «ميني» جاء بعنوان «الأرض أرضنا» قدمه من قبل كجزء في «ماذا يحدث الآن؟!» وجسد فيه مأساة جزيرة «قرصاية» علي نيل القاهرة وتعرض أهلها للتشرد. - وينقل الفنان هاني راشد مشهداً من الشارع المصري.. مجسداً شخوصاً نطالعها في حركة الحياة اليومية.. رجال ونساء وأطفال بمجاميع لونية من الأسود إلي درجات من الرمادي مع الأبيض وكأنه يعكس لتلك الغيمة أو السحابة السوداء التي تجتاح القاهرة بفعل التلوث وأبخرة العادم وحرق النفايات. العاطفة والنزعة التصحيحية ويقدم الفنان أيمن السحري مشروعه المفاهيمي من خلال مجموعة من المساقط الأفقية. تصميمات هندسية تجسد مشاريع حقيقية مثل مشروع توشكي وبنايات يتعايش معها البشر كالمدرسة والمستشفي وحتي المتحف والبورصة.. ومن خلال شاشات صغيرة «ميني» تنساب الصور الإليكترونية ترسم صورة للمواطن المصري علي خلفية من تلك المشاريع الواقعية والمتخيلة. - ويلتقي الفنان عماد أبو زيد مع التراث المصري البصري.. مقدما لوحة تصوير أشبه بجدارية مسكونة بسحر الزمن في نسيج من النغم.. في اختزال شديد يقتنص رحيق الحياة والسرعة المتلاحقة.. في إيقاع عاطفي مع آخر تصميمي. - وتنتمي أعمال الفنان محمد أبو النجا بتلك الشرائح التصويرية للواقعية السحرية.. يعتمد فيها علي عناصر ورموز بوسائط عديدة جاءت في إشراقات وتجليات صوفية.. مجسداً مساحة من الميثولوجي الشعبي فيما يتعلق ب «قدم النبي» يقول:عندما كنت صغيراً كنت أذهب مع أمي إلي السيد البدوي بطنطا.. وكانت بصمة «قدم النبي» علي حجر البازلت الأسود ذات رهبة وقوة كبيرة في نفسي.. الآن مازلت أذهب هناك.. أراقب الناس البسطاء يتمسحون بالحجر.. ينشدون الإيمان والسلام وهم يبكون أمام الأثر». ومع الصورة البصرية الرمزية الثابتة.. تنساب الصورة الإليكترونية بالفيديو من وحي الليلة الكبيرة في السيد البدوي تجسد تلك الدفقات الشعورية في تسابيح وتواشيح مصورة. - وتنقلنا الفنانة مروة طلعت إلي حالة صوفية أخري «تجهيز في الفراغ مع فيديوأرت». وهي حالة مستلهمة من وحي زيارة والديها إلي الأراضي المقدسة للحج تقول مروة: تشغلنا الحياة كثيراً.. ونعيش هذا اللهاث المادي المتصل والمستمر بشكل يومي.. ولكن فجأة ينتاب البعض منا لحظة صوفية.. لحظة تحلق فيها الروح قليلاً.. والعمل هنا من وحي تلك اللحظة. والفنانة تقدم تشكيلاً مجسماً.. يجمع بشكل رمزي بين الأرض والسماء بين كثافة المادة ورهافة الروح.. فعلي الأرض تعرض دكة خشبية عارية من الفراش يعلوها تشكيل بسيط لجامع من الجريد.. أما أعلي فيطل تشكيلان دائريان.. من الحرير الأبيض اللامع.. منقوشان بكتابات بارزة في أدعية وابتهالات وأشعار لكبار المتصوفة خاصة رابعة العدوية.. ومن الفيديو تنساب الصورة الإليكترونية تجسد حالات الوجد وتجليات الذكر والابتهالات مع أشعار رابعة العدوية التي تطل في كتابات علي الشاشة.. و«ليت الذي بيني وبينك عامر». تليماتش السادات أسابيع قليلة مرت لا تتجاوز الثلاثة شهور.. علي فوز الفنان وائل شوقي بجائزة بينالي الإسكندرية الكبري.. عن مشروعه المفاهيمي «تجهيز في الفراغ- فيديو آرت» بعنوان تليماتش الحروب الصليبية.. وهو واحد من سلسلة أعماله العديدة التي جاءت بعنوان «تليماتش» علي غرار العرض التليفزيوني الألماني الشهير بنفس الإسم والذي كان يدور حول بلدتين نشبت بينهما سلسلة من الخلافات.. ومن بين أعماله في هذه السلسلة «تليماتش مصر العليا»- «تليماتش السوق» و«تليماتش السادات» الذي شارك به في عرض و«لم لا؟!». ووائل شوقي فنان يعي جيداً المعني الحقيقي لما بعد الحداثة.. وأعماله عموماً عبارة عن مشاريع فنية تعتمد علي أفكار ذات معني عميق.. تعكس في بعضها لحجم الصراع بين الشرق والغرب في جانب.. وفي الجانب الآخر الصراع بين الدين في مواجهة السياسة.. وسط هذا العالم المتغير المضطرب. وفي «تليماتش السادات».. يعيد وائل شوقي تمثيل حادث المنصة خلال الاستعراض العسكري احتفالا بالنصر في 6 أكتوبر من عام 1981.. وذلك من خلال شاشة عريضة ومتسعة ومسطح مرتفع من الطوب رمزاً للمنصة.. ولكن الأطفال هنا هم الذين يقومون بالعرض.. حشود من أطفال الريف والبدو هم أصحاب العرض العسكري.. ومن بينهم جاء حادث المنصة وهم أيضاً الذين يقدمون جنازة الرئيس.. ولا يخفي هنا المعني الحقيقي والذي يعتمد بجرأة شديدة علي الإسقاط السياسي. - أيضاً تمثل الرائعة آمال قناوي الرمز الحقيقي لمواكبة اتجاهات ما بعد الحداثة وهي بأعمالها تعد أيقونة للحداثة.. فهي أعمال تنساب بالصور الإليكترونية التي تعكس الحلم المجهض للمرأة في واقع مليء بالضغوط.. تتدفق فيه الصور بكثافة شعرية.. تسترسل في سرعة وحيوية وتتغير من مساحة إلي أخري مسكونة بالشجن العاطفي من هدير الخطوط إلي تلك المساحات التي تنبض كدقات القلب.. وقد انتقلت آمال في عرض و«لم لا؟!» من التلميح إلي التصريح.. ومن التلخيص إلي التجسيد، العرض من وحي إحدي اللوحات الشهيرة للفنان الإنجليزي فيليب بيرن جونز «1861- 1926» وربما أشهر لوحاته الستين بعنوان «مصاص الدماء».. واللوحة لامرأة شابة تجلس بجوار رجل مستلقي فاقد الوعي.. يعتقد أنها ممثلة تدعي باتريك كامبل.. والفنانة جسدت اللوحة ولكن بعد أن دبت فيها الروح بفعل حركة الصور الإليكترونية.. حين يهم الرجل المستلقي علي السرير حتي يسقط مرة أخري.. هذا مع الحركة الدائرية للسمكة التي تجوب الكادر رمزا للخصوبة والتوالد.. والمرأة بردائها الأبيض والجالسة علي حافة السرير.. موزعة بين الحركة والسكون.. الفعل ورد الفعل.. أمام تلك الحالة من العجز.. هل هو الحلم المجهض مرة أخري؟!.. بالتأكيد وهو حلم يعلن عن قدرات آمال التشكيلية والتعبيرية الكبيرة ووعيها بمشاكل المرأة في واقع عليها أن تساهم في تغييره بفن المرأة. لقطات جاء عرض الفنانة ريهام السعدني «الضياع بين الحياة والموت» شديد الطرافة.. وقد جمع بين التصاوير التي تجسد واقع الحياة بحيويتها في مجال سيريالي مع هذا الملاك الذي يصاحب المرأة في كل الصور.. وفي نفس الوقت بين هذا التشكيل المجسم لرجل وامرأة في كيان واحد مستلقيان علي سرير اسطوري تجسيدا للموت.. مع شجرة الخلد المسكونة بدنيا من الملائكة الصغار. - أما ما قدمه الفنان أيمن لطفي «فيديو آرت وشرائح تصويرية خلال وسائط» فهو عرض رغم اعتماده علي الإبهار الشديد.. إلا أنه تقمص روح الفن الغربي وجسد صراع القوتين الذي كان وسقط منذ فترة تحديداً بداية التسعينات وأصبحت أمريكا قطبا أحادياً مهيمناً علي العالم!!. - ومع المستوي المرتفع لعرض و«لم لا؟!» بوجه عام.. هبطت أعمال مثل ماقدمه الفنان أحمد بدري للعلامة التجارية لمنتج شعبي للشاي المصري فهو ترديد لما قدمه أندي دارول رائد البوب الأمريكي «1927- 1987» دون إضافة والمسافة بيننا وبينه ما يربو علي ثلاثين عاماً. - ومن غير المعقول أن يعيد الفنان محمد علام صياغة ماقدمه الفنان عادل السيوي من صياغة جديدة للوحة المجنون الأخضر.. اللوحة الشهيرة للفنان عبدالهادي الجزار كنوع من الحوار والتفاعل.. فما مغزي هذه التكرارية من علام؟ وهل ضاق الفن إلي هذه الدرجة؟ - وإذا كانت فنون ما بعد الحداثة تجسد مشاريع وبرامج ذات أفكار مسبقة فالبديهي وعي الفنان بمشروعه وقدراته عرضه نظرياً.. فهل تليق تلك اللغة بفنان مفاهيمي.. يقول الفنان أحمد فتحي: نظرا لكوني فنان شارع أتعامل مع المكان من خلال عمل له علاقة بين انطباعاتي وماهية المكان نفسه.. ونظراً لأن المكان تابع للدولة «يقصد قصر الفنون» فرأيت أنه يمكن الربط بين ذلك وبين العمل الفني من خلال عمل دمغات ووضعها علي جدران المكان بشكل عشوائي مثلما توضع علي الأوراق الرسمية!!.. هكذا بهذا الارتجال والاستخفاف. - وأخيراً.. تحية إلي قطاع الفنون التشكيلية الذي قدم هذا العرض و«لم لا؟!» والذي نتصور أنه حفر عميق في نهر إبداع فنون ما بعد الحداثة.. «برغم ماشابه من بعض الأخطاء» لعلنا نعيه ونتأمله بعين الفن والنقد.