في مسرحية " منمنمات تاريخية " للمبدع الكبير سعد الله ونوس صاح ابن خلدون قائلا : " في هذا الغروب الشامل قد تكون قبسة الضوء الوحيدة هي وصف هذا الغروب"...الآن وقد مر نصف قرن علي وحدة مصر وسوريا ونفس المدة تقريبا علي الانفصال باعتبار أن الوحدة لم تستمر اكثر من ثلاثة اعوام،ماذا يمكن أن يقال عن هذه الوحدة في الأدب العربي وتحديدا الرواية؟ كيف تعاطي الروائي العربي مع هذه الوحدة التي "مايغلبها غلاب"..من الذي غلبها من وجهة نظر المبدع العربي وليس السياسي؟ وماالذي بقي منها في صحن التاريخ لكي تلتقطه اجيال لم تولد بعد؟ في حواره مع صحيفة "الخليج، انتهي المفكر العربي المعروف د. سمير أمين، للقول بأن الوحدة العربية غدت ضرورة تاريخية، فيما يقرر د. خير الدين حسيب، مدير عام مركز دراسات الوحدة العربية وأمين عام المؤتمر القومي العربي، بأن لا مستقبل للأمة العربية إلا بالوحدة،ويري المفكر الليبرالي حازم الببلاوي بأن النهوض العربي الجديد لايتحقق بدون تكامل اقتصادي علي النسق الاوروبي، ويتزايد الاقتناع بين المفكرين العرب، علي اختلاف انتماءاتهم السياسية، بضرورة الوحدة،وينعكس ذلك الوعي العام علي المبدع العربي باعتبار أن الرواية العربية تعبر عن الوجدان الشعبي، ما جعلها «مدونة » نوعية لقرن بكامله وذاكرة قومية تتحدث باسم الشعوب العربية. يقول الناقد والباحث د.فيصل دراج في كتابه «الذاكرة القومية في الرواية العربية» (مركز دراسات الوحدة العربية - 2007) إن صعود القومية العربية نسبياً وتطور الوعي السياسي والثقافي أديا إلي تطور اللغة العربية نسبياً وطالما أن الهوية العربية هي في الأساس هوية لغوية صعدت الرواية لتعبر عن تطور اللغة العربية كهوية لقدرتها علي التقاط هذه التطورات والتبشير بأفق جديد لها، بهذا لعبت الرواية دورين هما: تأكيد تطور اللغة العربية واستمراريتها والتبشير بأن هناك مرحلة جديدة في التاريخ العربي سوف تفضي إلي مستقبل جديد. ويواصل دراج تحليله للعلاقة الجدلية بين الرواية والتاريخ القومي بالقول:انطوت الرواية العربية في القرن العشرين علي ثلاث مقولات متلاحقة: التفاؤل الطليق، الذي أعلنه توفيق الحكيم في "عودة الروح" وطه حسين في "دعاء الكروان" وتوفيق يوسف عواد في "الرغيف"، واستأنفه حنا مينا وجبرا إبراهيم جبرا والطاهر وطار إلي نهايات ستينات القرن الماضي،وارتبطت فيها الرواية بالصعود القومي ومعارك عبد الناصر ورحلة البحث عن تجسيد واقعي للشعارات القومية،ولكن بعد التفاؤل جاء نقيضه، وأخذ التشاؤم أبعاداً شاسعة في أعمال كثيرة أخري،لاسيما بعد نكسة 67. ويشير الدكتور حلمي القاعود- الأستاذ بجامعة طنطا إلي أنَّ الوحدة العربية- في إطار النهضة الحديثة- كانت محورًا مهمًّا من محاور الأدب العربي والإسلامي الحديث، في مواجهة الدعوة للمتوسطية والدعوة للإقليمية، والدعوة للقطرية وللطائفية،واللافت ان المبدع العربي اكتسب قدرا من تكوينه الفكري والثقافي من الخطاب القومي،حتي صار هذا الخطاب العمود الفقري لعدد ليس بقليل من المبدعين العرب ليس في مصر وسوريا وحدهما وانما امتد تأثير هذه الوحدة الي ادباء المغرب العربي ناهيك عن الخليج واليمن،وقد ظهر جيل كامل حمل اسم جيل الستينات تأثر فكريا بالوحدة المصرية السورية سواء باسباب انطلاقتها او مبررات فشلها،وتبلورت داخله قناعات بصحة المقدمات وخطأ النتائج،وتكشف السير الذاتية لعدد من المبدعين عن هذه الحقيقة،ففي سيرة "المفتون" رأي كاتبها فؤاد قنديل، أن احداث حياته الشخصية في الخمسينات والستينات كانت شبيهة إلي حد كبير بماجري في مصر ؛ فقد عاش مراهقته بالخمسينات وكانت أيضا مصر تعيش المراهقة السياسية، وفي عام 1961م رسب فؤاد لأول وآخر مرة بحياته، وحدث الانفصال بين مصر وسوريا ليبدد حلما عربيا في التحول لدولة كبري، ووجد الكاتب فؤاد قنديل أن الكآبة هيمنت علي خطاب الزعيم جمال عبدالناصر وكتب له ذلك بالصحافة، فرد عليه الرئيس " وكأنه يتحدث مع عضو بمجلس قيادة الثورة"، وقال له : ألست معي أن المستقبل لن يسمح للكيانات الصغري أن تعيش ؟، وقال قنديل متعجباُ كان عبدالناصر يتحدث مع طالب راسب بهذه الصورة، ثم يتابع أنه مع نكسة 1967 حدثت له علي المستوي الشخصي انتكاسات كثيرة عاطفية. وفي روايته" الحب في المنفي"يشتغل بهاء طاهر علي نقد الذات الفردية والجماعية برصد خيباتها وفشل مشاريعها وأحلامها علي أرض الواقع، وخيبات الشخصيات وخيبات الإنجاز العربي ساعيا إلي إزالة الأقنعة عما يظهر في السطح، وإظهار الواقع والذات العربية علي ما هي عليه عبر أسلوبي السخرية والاعتراف. ونشر إبراهيم عبدالمجيد العديد من الروايات التي كشف فيها عن انتمائه الي جيل تربي في ظل الفكر الوحدوي وقد وأدت أحلامه بعد نكسة 1967، وهو الجيل الذي طالب بتحرير الأرض، ورأي في وحدة مصر وسوريا انطلاقة لحلم كبير،. وأكدت أن موهبة عبدالمجيد كانت ظاهرة للغاية منذ روايته الأولي " الصيف الساخن" 1967 ومنها "البلدة الأخري"والتي رصد فيها حياة مواطن مصري خارج وطنه، وكيف أثرت عليه قيم النفط ؛ ذلك النفط الذي قلب قيم المجتمعات. الرواية في سوريا بين التأييد والنقد وعلي الرغم من أن تجربة الوحدة بين سوريا ومصر لاتزال لها بريقها في بلاد الشام إلا أن التعبير الروائي السوري عن هذه التجربة كان قليلاً من حيث الكم، وضعيفاً فنياً وفق ماجاء في دراسة اكاديمية للناقد نبيل سليمان . فعلي صعيد الكم لا يكاد عدد الروايات السورية التي رصدت هذه التجربة يتجاوز أصابع الكف الواحدة أما الضعف الفني فمردّه إلي عجز الروائيين السوريين عن تحويل الفكري إلي فني في معالجتهم لتجربة الوحدة السورية- المصرية، بحيث سجلت الرواية السورية التي تناولت الوحدة "أدني الأرقام الفنية وأعلي النغمات الفكرية" . ويتّخذ محمّد أبو معتوق من الوحدة السورية المصرية 1958, وما تلاها من تحوّلات في الستينات والسبعينات متنا حكائيا لروايته: «القمقم والجنّي». وتبرز في سياق هذا المتن أحداثاً مفصلية لها وقعها الخاص في الذاكرة الجمعية وفي وعي أبطال الرواية, منها الانفصال في العام 1961 ونكسة حزيران 1967, وثورة1963 ورحيل عبد الناصر1970. ويتم تخطيب هذا الزمن عبر تتابعه الخطي الصاعد الذي يراعي المنطق الخارجي لتتابع الأحداث كما في روايته السابقة: «جبل الهتافات الحزين"،ويعطي الروائي الكبير حنا مينا في «الشراع والعاصفة» بعدا وحدويا متفائلا، حيث تنشر روايته تفاؤلاً واسعاً معلنة نهوض العالم الجديد وتحقق الاستقلال الوطني الذي سينقل العرب من ظلم الاستعمار وظلامه الي نور عربي لن يخبو. وفي رواية هاني الراهب: «المهزومون» يمتد زمن المتن من طفولة الراوي في الخمسينات حتي شبابه في مطلع الستينات زمن كتابة الرواية. ونستدلّ عليه من الوحدة القائمة بين مصر وسوريا، والثورة الجزائرية، والاضطرابات التي شهدتها العراق آنذاك، وفي رواية حيدر حيدر: «الزمن الموحش», يتحدّد زمن النص في أواخر الستينات, لكن هذا الزمن الذي يشكّل تيمة رئيسية فيها يمتد عبر الاسترجاعات البعيدة والقريبة ليستعيد أحداثا وشخصيات من التاريخ. ويلاحظ الباحث في الرواية السورية التي تناولت تجربة الوحدة وجود شخصيات مثقفة أيدت تجربة الوحدة، ووقفت إلي جانب نظام الوحدة، وبرّرت تصرفاته وممارساته، كما يلاحظ الباحث وجود شخصيات مثقفة أخري انتقدت تجربة الوحدة، وأدانت نظامها. يمثل النمط الأول "فؤاد العسكري" في رواية "اللااجتماعيون" لفارس زرزور، الذي لم يقف إلي جانب الوحدة فحسب، بل وقف إلي جانب نظام الوحدة، وتحديداً إلي جانب الممارسات اللاديمقراطية، وفرض الإرهاب السياسي، وخنق الحريات السياسية، معتبراً أن هذه الممارسات ضرورية لاستقرار الأمور. أما النمط الثاني فتمثله شخصيات مثقفة كثيرة، لاهتمام الرواية السورية برصد الموقف المعارض أكثر من الاهتمام بالموقف المؤيد. وقد انصب نقد الشخصيات المثقفة لتجربة الوحدة علي الجانب السياسي، كغياب الديمقراطية، وقمع الشعب وخنق حرياته، ولا سيما الحرية السياسية. لقد أفردت رواية "اللااجتماعيون" صفحات عديدة للمشكلات التي سادت ابان مرحلة الوحدة وادت في النهاية الي كسر النموذج،كماانتقدت الشخصيات المثقفة في رواية "هزائم مبكرة" لنبيل سليمان الممارسات التعسفية لسلطة الوحدة، كنقل الناس إلي مصر، وتسريح الضباط، وحملات الاعتقالات الواسعة.وقدأدي انطلاق الروائيين من تجاربهم الشخصية أثناء الوحدة إلي حدوث شرخ بين المكونات النفسية والفكرية للشخصية وموقفها من تجربة الوحدة، ممّا أدي إلي إضعاف الشخصية، وعدم قدرتها علي إقناع القارئ. فعلي الرغم من أن بطل رواية "شرخ في تاريخ طويل"، وظل الكاتب، ترك العمل القومي، واستعاض عنه بالغوص في أعماق الذات، لاستكشاف كنهها وسبر أغوارها، فقد أظهر -في خاتمة الرواية- حزناً شديداً عندما حدث الانفصال. الأدب والمد الوحدوي والشاهد ان الرواية السورية لاتزال تتضمن قدرا من الحنين الايديولوجي للوحدة وان كانت قد تجاوزت تجربة الوحدة مع مصر والتي صارت في ذمة التاريخ. ولاشك ان تجربة الوحدة انعكست علي الرواية العربية قاطبة سواء ظهرت بشكل مباشر كما في رواية اللبناني سهيل ادريس "رحماك يا دمشق" المستوحاة من أحداث انفصال سوريا عن مصر ضدّ الوحدة وكذلك الروائي اللبناني ربيع جابرفقد اختار بطل روايته «رالف رزق الله في المرآة» الانتحار احتجاجاً علي واقع الانفصال وهجرة المعني، وحياة يومية تعطف خيبة علي أخري أو كخلفية ثقافية للابطال، فالمغربي محمد برّادة في «مثل صيف لن يتكرَّر» يقدِّم صورة عن خطاب المثقف القومي الخائب والمفجوع بأحلامه القومية،وهو خطاب ساد خلال الستينات وفي اعقاب الانفصال ونجده بشدة في اعمال عبد الله العروي وخناته بنونه عبد المجيد بن جلون ومحمد بن التهامي وعبد الكريم غلاب في المغرب، أما في الجزائر، فقد خاض الروائيون المؤمنون بالوحدة العربية حربا ضد التيارات (المتفرنسة)، ومنها روايات لرضا حوحو وعبد الشافعي، وتتلوها محاولات أخري للطاهر وطار وبن هدوقة وبوجدرة ثم أحلام مستغانمي، أما في تونس فنجد بعض الروايات القليلة لمحمود المسعدي تحدد البدايات الحقيقية لنشأة الرواية هناك ولم نلبث أن تعرفنا علي عدد كبير من الروائيين التونسيين.. وغيرهم.