شهدت الدورة السادسة والثلاثين من مهرجان مونتريال السينمائي الدولي، والتي اختتمت فجر اليوم الثلاثاء بتوقيت القاهرة، العرض العالمي الأول للفيلم التونسي "ارحل" أو "الشعب يريد"، بحضور مخرجه محمد الزرن، وهو أول فيلم تونسي تسجيلي طويل (96 ق) يوثق يوميات الثورة التونسية، التي اندلعت 17 ديسمبر 2010 علي خلفية إحراق البائع المتجول الشاب محمد البوعزيزي نفسه أما مقر ولاية "سيدي بوزيد" احتجاجا علي سوء معاملته وصفعه من قبل إحدي موظفات البلدية التونسية. وبينما يذهب البعض إلي إن الثورة نجحت في 14 يناير 2011 بهروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إلي السعودية، يؤكد الفيلم، مثل معظم التونسيين، أنها استمرت بعد ذلك - وبصورة أقوي - لإسقاط الرئيس المؤقت راشد الغنوشي وحكومته، وتواصلت حتي انتخاب الجمعية التأسيسية واختيار المنصف المرزوقي رئيسا، مرورا بتولي فؤاد المبزغ الرئاسة مؤقتا. كان الزرن قد شرع في تصوير الفيلم، وهو رابع أعماله السينمائية الطويلة، يوم 14 يناير 2011 نفسه، في ذروة المظاهرات، حيث تابع بالكاميرا غالبية المسيرات التي جابت شوارع العاصمة، كما سجل شهادات الشباب من مختلف أنحاء تونس، مثل "القصرين" و"قفصة"، بالإضافة إلي "سيدي بوزيد"، مهد "ثورة الكرامة والحرية" كما يسميها التونسيون. ووصف المخرج فيلمه بأنه "تحية إلي المناطق المهمشة" في تونس، وقال إنه واكب مختلف أحداث الثورة، ونقل بعدسته الأحداث التي عكست إرادة شعب تحدي الخوف حين قال "ارحل" لبن علي. ودعم الزرن فيلمه بشهادات عائلات الشهداء، خاصة عائلتي البوعزيزي وثاني شهداء الثورة حسين ناجي، بالإضافة إلي شهود عيان في عدة مناطق من تونس، ونقل صورة صادقة عن بعض الأحداث المأساوية والانفلات الأمني الذي ساد عقب تنحي الرئيس المخلوع عن السلطة. كما التقط مشاهد لمئات المتظاهرين الذين اعتصموا لعدة أيام في ساحة الحكومة في "القصبة" بوسط العاصمة قبل أن يتم إخلاؤها بالقوة. عرض في الشارع عرض الفيلم للمرة الأولي في ذكري استشهاد البوعزيزي يوم 17 ديسمبر الماضي، أمام مقر ولاية "سيدي بوزيد"، حيث أقدم علي إحراق نفسه، ثم في 14 يناير الماضي أمام وزارة الداخلية التونسية، في شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي بالعاصمة احتفالا بالذكري الأولي للثورة التونسية. ولأن "فنون الشارع" جديدة إلي حد ما في تونس، فقد تجمع عدد كبير من أهالي "سيدي بوزيد" في فضول - يوم عرض الفيلم - أمام مقر الولاية وهم يتساءلون عم يحدث، بينما كان الزرن ومجموعة من شباب الولاية يجهزون شاشة عملاقة للعرض الذي حقق نجاحا كبيرا، وكان أفضل احتفال بالذكري الأولي للثورة. تميز الفيلم، وهو اختزال لستين ساعة تصوير بكاميرا الزرن، بشهادات حية لمجموعة كبيرة من التونسيين العاديين البسطاء، والباعة الجائلين، والشباب العاطلين عن العمل الذين تقتصر أحلامهم علي أن "يخدموا"، أو يحصلوا علي وظيفة باللهجة التونسية، وكلهم أصدقاء لشهداء ضحوا بأرواحهم لينعم الشعب التونسي بالحرية والديمقراطية. ومن هؤلاء، نساء ورجال عايشوا وعرفوا الشهيد محمد البوعزيزي، وقدموه في صورة شاب دمث الأخلاق كان يجاهد لتحصيل قوت يومه من تجواله في شوارع المدينة وسوقها دافعا أمامه عربة خضر يبيعها ليعود إلي منزله حاملا قروشا ينتظرها أب وأم وإخوة يعيلهم جميعا. وفي هذا الإطار، يعتبر الفيلم امتدادا لأفلام الزرن الروائية والوثائقية السابقة التي دارت كلها حول نضال البسطاء من أجل حياة كريمة.. ففي فيلمه الروائي الطويل "الأمير"، قدم قصة صراع بين الواقع والحلم من خلال مغامرة رومانسية غير متكافئة يتغلب في نهايتها الحلم علي محاولات الخروج من يوميات صعبة وعنيفة داخل مجتمع تلاشت فيه القيم الأخلاقية. وكان سرد في فيلمه "السيدة"، الذي فاز بجائزة العمل الأول في مهرجان أيام قرطاج السينمائية عام 1996، قصة حي "السيدة" الشعبي بالعاصمة التونسية، والذي يكتظ بخليط ممن نزحوا من الريف بحثا عن لقمة العيش وأحلام المدينة، وفقراء تلك المدينة نفسها. ويدور فيلمه الطويل "زرزيس.. العيش هنا" عن هموم الشرائح الدنيا من المجتمع التونسي. رؤية خاصة ولذلك يعتبر مخرجنا البسطاء الصناع الحقيقيين للفيلم.. "إنّها الثورة كما عايشتها وكما شاهدتها، لقد أردت أن أبرزها من خلال زاوية معينة، هي رؤيتي الخاصة للحدث، إذ اختلفت نظرة كل من صوّر هذه الثورة، وكل كانت له فكرته التي أراد أن يعبّر عنها. لكن ما مىّز الفيلم أنني نزلت بنفسي إلي الشارع والكاميرا علي كتفي لتصوير ذلك المشهد الثوري الذي أبدعه شعب تونس.. ورغم أنني كنت موجودا في أشد اللحظات حرجا، من غازات مسيلة للدموع وأعيرة نارية، إلا أنني لا أعتبر نفسي بطلا ولا حتي محررا لهذا الفيلم، بل أحسست بأنني مواطن تونسي بكل ما تحمل الكلمة من معان، والفارق بيني وبين من كان حاضرا في تلك الأماكن هو الكاميرا التي أعتبرها قلمي الخاص، هذا القلم الذي عانق شارع الحبيب بورقيبة والقصبة وسيدي بوزيد ليصوّر الأبطال الحقيقيين للفيلم، وكانوا متعاونين جدا معي رغم أن تلك الفترة عرفت عداء بين الشعب والكاميرا، حتي أنني عندما أٌغمي علي بسبب انفجار قنبلة غاز مسيل للدموع عند قدمي، لم أجد إلا المتظاهرين ليمدونني بالإسعافات الكاملة، ويحمونني". مثل السينمائيين وسائر المثقفين في مصر الآن، ينشغل الزرن وغيره من المثقفين التونسيين بمستقبل الإبداع في بلادهم، وله رؤية خاصة لتلك القضية يلخصها قائلا: "لقد قمنا بإسقاط ديكتاتور، وكان الإبداع في عهده يخضع للرقابة، ومن المفارقات أن الإبداع في تلك الفترة هو أن تتجاوز السلطة. واليوم، ننتقل إلي ديكتاتورية الفرد، حيث أصبح كل فرد من المجتمع قادراً علي أن يكون ديكتاتوراً، وهو ما يشكل خطرا علي الحرية. أما بالنسبة للمبدع فإنّ ذلك سيكون حافزا قويا للخلق والإبداع مع وجود الرقابة الذاتية، فالمبدع اليوم أصبح مهددا جسدياً ومادياً.. لا أعتبر أن الثورة بعد 14 يناير كانت ناجحة، كان لابد من إعطاء الأولوية لمسألتي الثقافة والوعي، بمعني فتح كل منابر الثقافة والفن حتي يستطيع كل مواطن أن يكتشف نفسه من جهة ويكتشف الآخر من جهة أخري، حتي يكون واعيا بما تخوضه البلاد وقادرا علي الإعداد للمرحلة الانتقالية.. لكن للأسف، بدلا من فتح هذه المنابر، تمّ تحويل المساجد من أماكن لذكر الله إلي منابر سياسية". أهم ما فيلم "ارحل"، أو "الشعب يريد" (يحتوي التتر علي العنوانين)، أنه ينسب الثورة التونسية إلي أصحابها الحقيقيين من الشباب المكافح الباحث عن لقمة عيش شريفة، والذي كان يعاني الظلم والتعنت تحت حكم بن علي ونظامه.. وفي الفيلم حكايات موجعة عن الباعة الجائلين من أمثال البوعزيزي الذين كانت البلدية تتعسف معهم وتستولي علي بضائعهم وأهم وأغلي ما في جعبتهم (الميزان) بحجة عدم حصولهم علي التراخيص اللازمة للبيع في الشارع، علما بأنهم كانوا يحصلون علي بضاعتهم بالأجل، ويستأجرون العربة، أي لم يكونوا - في الحقيقة - يمتلكون شيئا. ويدين الفيلم محترفي اختطاف وركوب الثورات من الساسة ومسئولي الأحزاب، الذين يمدون أياديهم لقطف ثمار الثورة من دون مراعاة حقوق من زرعوها ورووها بدمائهم.. وتتجلي الإدانة في صرخة تطلقها خالة الشهيد البوعزيزي قائلة: "لا نريد أن تقولوا (أم الشهيد راحت وأم الشهيد جاءت).. نريد حقوق هذا الشهيد وإخوانه".