تمتلك مسرحية يوليوس قيصر مكانة خاصة ضمن أعمال شكسبير، فهي تبعث حضوراً سياسيا طاغيا، ودهشة إنسانية صادمة، وجدلا عارما بين جموح السلطة وعشق الوطن ووحشية التناقضات، وقد انطلقت مؤخراً موجة حياة جديدة للمسرحية، مسكونة بقوة الوعي والجمال عبر إنتاجها الحديث الذي يقدمه الآن «جورجي دوران» المخرج والمصمم الفني لمسرح الرويال شكسبير. اتجهت رؤي «دوران» نحو الانتقال بالحدث من روما إلي أفريقيا المعاصرة الحديثة، حيث أثار فريق العمل من الممثلين الإنجليز السود حالة من الاشتباك المثير مع سحر التمثيل الكلاسيكي الذي كشف عن موهبة خصبة لاتزال متاحة لأبناء القارة السمراء، وإذا كانت أفريقيا لاتزال تعيش عذابات الديكتاتورية والرؤي الأحادية المغلقة، فإن مسرحية يوليوس قيصر قد اكتسبت حيوية خطيرة عبر تفاعلها الساخن مع وقائع القهر والتسلط والاستبداد، وتحولت الصيغة الجديدة للزمان والمكان والأحداث في القارة السوداء إلي عزف ثائر علي أوتار مأساة الإنسان في بلادنا، التي لا تزال معذبة بالقيد والردة والاستبداد والعبودية. لم تتوقف رؤي «دوران» عند محاولات طرح مفاهيم جديدة للجدل الأخلاقي حول جرائم القتل السياسي، لكن صياغاته الجمالية امتدت أيضا لتذكرنا أننا أمام قطعة مسرحية رفيعة المستوي، مسكونة بالنبوءات والتناقضات.. بالفلسفة والاعتراضات ووحشية الخيال والتصورات.. ورغم أن أفريقيا ليست هي المكان الوحيد في الدنيا الذي يموج بالاعتقاد في قوة الروح، إلا أن أصحاب النبوءات وقارئي الكف هناك يمتلكون قوة سحرية حولتهم إلي رجال كأبطال الأساطير يشهبون الأرواح والأشباح، يسيطرون علي الخير والشر، ويكشفون أسرار الغيب ودلالات الواقع والأحلام. علاقة فريدة هكذا نصبح أمام علاقة فريدة صاخبة الجمال تبعثها فكرة الانتقال عبر المكان، حيث الربط التلقائي الواضح بين طبيعة شخصيات نص يوليوس قيصر، وبين سيكولوجية البشر في أفريقيا الآن، وعلي مستوي آخر لامسنا ذلك الاشتباك الساخن بين الإطار الفكري للنص، والإطار التاريخي والإنساني والأيديولوجي للواقع الأفريقي الحالي. تتبلور القوة الحقيقية لعرض المخرج «جورجي دوران» في اهتمامه الشديد بالكاستينج ودقة اختياره لشخصيات الأبطال ، فقد اتجه الممثل «باتريسون جوزيف» الذي لعب شخصية «بروتس» إلي تجسيد تلك الحالة المدهشة ليواجهنا بكيان إنساني نقي مسكون بالوهج، ونري بروتس كرجل مختلف، يمتلك أفكاراً لافتة ناجحة، تخرج عن المألوف والسائد، تبحث عن مثالية ما يجب أن يكون، ولذلك يظل أسير صراع داخلي مع رغبته في أن يحيط نفسه دائماً بشرنقة من الكبرياء والاعتداد بالذات. كان جوزيف/ «بروتس» يشعر بالفخر وهو يدق علي صدره بيديه.. مخاطباً جمهوره وهو يقول بقوة «ياأهلي.. يا أجدادي..» وصنع بذلك سلسلة من الأخطاء التكتيكية الكارثية، فاندفع إلي رومانسية الخيال، وتباعد عن طبيعة الواقع الشرسة ليعلن مضللاً نفسه في الخطبة الأخيرة الساحرة، بعد مقتل قيصر.. يعلن للناس ولأصدقائه المتآمرين، أن التاريخ سيعتبرهم متعصبين إرهابيين، أهدروا دم من خالفهم في الرأي ولن يكونوا أبداً مجرد قتلة عاديين، ويمتد المونولوج الفريد ليكشف عن عمق عذابات بروتس وانشطار أعماقه، فقد ظل يعتقد دائما أنه هو أكثر رجال الدنيا صدقاً ومثالية في عالم السياسة الواقعي، ويذكر أن الممثل «باتريسون جوزيف» قد تخطي حدود الجمال ومنح الجمهور يقينا بأن منظور رؤية بروتس للوجود، كان يتدفق بالموجات الأخلاقية العارمة، والتصرفات الدقيقة الصارمة، والعشق الأثير للوطن. مفارقة درامية من المؤكد أننا أمام مفارقة درامية شكسبيرية مدهشة، يبعثها اشتباك جماليات كتابة النص مع طبيعة الأداء الكلاسيكي الخلاب الذي منح الحالة المسرحية أثراً عالياً مضاعفا، فالجميع يعلمون أن «بروتس» مذنب.. ارتكب خطيئة قتل يوليوس قيصر، لكن لم يكن هناك من يعرف سر الحقيقة إلا «سيريل نيري» الممثل الذي أثار الإعجاب بأدائه لشخصية «كاسيوس» العقل المدبر للمؤامرة الكبري، فقد امتدت موجات رفض كاسيوس للقيصر وأعلن عليه العصيان النفسي، عرف كيف يقوم بالتخطيط المحكم، ويكسب تأييد بروتس ومارك أنتوني وأوكتافيوس، ليضعوا نهاية دموية حاسمة لحياة الحاكم الإمبراطور وطموحاته. تمتد إيقاعات الجدل حول المتآمرين الشرفاء - كما وصفهم بروتس- كلماته لاتتخذ مسارها إلي قلوب الناس، لم يصدقوا اعترافه أنه أحب روما أكثر مما أحب القيصر..، ولم يتعاطفوا معه عندما أعلن أن «مارك أنتوني» قائد نبيل، يجب إنقاذه، وعبر تداعيات الواقع والأعماق تتبلور ملامح لحظة خاطفة يلتقط فيها كاسيوس أنفاسه، ونراه مندفعاً لامتلاك خيوط لعبة العرش والسياسة.. يقرر أن يطعن رؤي المتحالفين ضد الامبراطور بعد اغتياله، ليعاود العزف علي أوتار قلب «بروتس» ويجتذبه بقوة إلي عالمه المخيف..، وفي نفس السياق يتذكر كاسيوس موجات الغضب البركاني حين اندفعت من أعماق مارك أنتوني بالأمس في ليلة. التخطيط الشيطاني لاغتيال يوليوس قيصر، وعبر اشتباك دوافعه الآثمة مع جدل الأحداث يظل مدركا أنه بالفعل متآمر خطير، وأنه أكثر رجال الحاشية نفاقا للقيصر، وأن التاريخ يمكن أن يتغير إذا امتلك هو المسار إلي أهدافه ورؤاه. كان من العسير علي المخرج جورجي دوران الذي تعامل بحساسية بالغة مع نص شكسبير ومواقفه في كثير من الأحيان كان من العسير عليه أن يتجاوز الهبوط الدرامي الذي بعثته مشاهد المعركة فيما بعد الذروة الساخنة، وإذا كانت خطبتا بروتس ومارك أنتوني تدفعان بالحدث الدرامي إلي الامتداد الأفقي، وليس التصاعد الرأسي فإنهما يمتلكان شهرة مسرحية عريقة، باعتبارهما مجالا ثريا للاشتباك مع مراوغات السياسة، وكشف طبيعة القادة، وأساليب التأثير علي الجماهير التي تظل دائما غائبة عن الحقيقة ومدفوعة بلا وعي إلي دوائر الاستلاب والاستبداد. موجات التفاعل ويذكر أن العرض قد شهد في أكثر من موضع اتجاها نحو توظيف قوة أصوات الممثلين لتثير موجات التفاعل والحيوية لكنها حلت محل الثراء الفعلي للأداء ولدلالة التفاصيل الغزيرة. كشف الممثل زاي فيرون الذي لعب دور مارك أنتوني عن كاريزما أخاذة، ساحرة وخطيرة ازدادت بريقا عبر أدائه المتميز لخطبته السياسية التي امتلك بها قلوب الناس واستطاع أن يؤثر بقوة علي مشاعرهم. أما الأداء العظيم ليوليوس قيصر الذي قدمه الممثل «جيف فيري كيسون» صاحب المشاعر المتدفقة والانتقالات الخصبة الناعمة التي بعثت حضورا حداثيا معاصرا، حيث تضافرت خطوط حركته مع بريق الضوء ولون البدلة الأنيقة البيضاء واستطاع أن يثير ذكريات تاريخ طويل من القهر والاستبداد ويبعث روح هؤلاء الحكام الطغاة الذين حكموا أفريقيا فباعوها وسرقوا ثرواتها واستلبوا الوعي والحياة من أبنائها. يظل الصراع والتناقضات وسخونة المفارقات في حالة اشتباك مع إيقاعات الجمال والحياة، ففي مسرحية ذكورية صرفة مثل يوليوس قيصر يسيطر الرجال علي أقدارها وأحداثها واتجاهاتها، كانت هناك أجزاء درامية رفيعة المستوي قدمتها الممثلتان أدجوا أندوه وآن أوجبومو اللتان جسدتا دوري زوجتي بروتس وقيصر وتفتحت أمامهما المسارات لتعرضا تلك الطاقات المشحونة بمفارقات الوعي والنبوءات والعذاب.. فالحقيقة الكاملة كانت ماثلة أمام عيون النساء والمؤامرة البشعة كانت تنذر بالسقوط والغياب والدماء؟ لكن الرجال لم يسمعوا ولم يدركوا الأبعاد وقرروا الاندفاع إلي أقنعة الزيف والتضليل. إذا كانت مسرحية يوليوس قيصر تقبل العديد من الرؤي والقراءات والتفسيرات باعتبارها قابلة للتفاعل الحيوي مع الإطار التاريخي للإنسان والسياسة، فإنه من المستحيل علي أي طرح لها أن يمتلك كل أسرار ودلالات تلك المسرحية الخلابة المراوغة. وفي هذا السياق اتجه التشكيل السينوغرافي لهذه التجربة إلي الملامح الواقعية وانتقلت موسيقي اكينتايو أكينبود من كرنفالية الاحتفال بالحياة إلي إيقاعات الخوف والرهبة والتوتر والنبوءات ويبقي أن إنتاج جورجي دوران مخرج الرويال شكسبير قد منح الجدل الأساسي للمسرحية والذي يدور حول ضرورات القتل السياسي، منحه لمحات جديدة معاصرة. الجارديان ويكلي 28 يونية 2012 مقال للكاتب ميشيل بيلينجتون