يعرف المشاهد الكثير عن الأوبرات التي ُألفت في القرن الثامن و التاسع عشر إبان فترة الكلاسيكية والرومانتيكية الأوروبية مثل أوبرات زواج فيجارو، دون جوان وكلاهما لموتسارت، وعايدة لفيردي، وكارمن لبيزيه، ولكن قلما يسلط الضوء علي أنواع الأوبرات القصيرة التي عرفها الغرب وخاصة أمريكا في مطلع القرن العشرين، فقد ظهرت أنواع من الأوبرات ذات الفصل الواحد، أو الفصلين التي لا تزيد مدة عرضها عن الساعة أو الساعة والنصف علي الأكثر، ومن هذه الأوبرات كانت تلك الأوبرا التي شاهدتها لكم علي خشبة مسرح الجمهورية وهي أوبرا "الوسيط الروحاني" وان كانت ترجمتها الحرفية "الوسيط " فقط .أوبرا "الوسيط" من الأوبرات الناطقة باللغة الإنجليزية، كتب نصها الشعري "ليبريتو" وألف موسيقاها الأمريكي إيطالي الأصل جيان كارلو مينوتي عام 1946، وهو أحد المؤلفين الموسيقيين الذين تمردوا علي بنية الأوبرا التقليدية الطويلة في زمنها، المتشعبة الشخصيات، التي يصاحبها الأوركسترا السيمفوني بأكمله. أبطال الأوبرا تكونت الأوبرا من فصلين قصيرين فقط زمن كل منهما نصف ساعة فقط، فلم يشعر المشاهد بالملل علي الإطلاق، هذا الي جانب أن استخدام اللغة الإنجليزية في الأوبرا جعلها قريبة من المشاهد ذلك لأنها لغة التواصل الأولي في دول العالم، وأجد أن تقديم أوبرات من هذا النوع تجمع بين قصر المدة الزمنية واللغة المفهومة للغالبية من شأنها تقريب فن الأوبرا من المتلقي خاصة هؤلاء غير المتمرسين علي مشاهدة أو الاستماع الي فن الأوبرا، فهل ستتبني دار الأوبرا المصرية مهمة البحث عن مثل هذه النوعية من الأوبرات وتقديمها علي خشبات مسارحها؟ الأوبرا تعتمد علي نص تراجيدي تدورأحداثه حول "مدام فلورا" التي تعمل بأعمال الشعوذة حيث تقوم بدور الوسيط الروحي الذي يستدعي بعض أرواح المتوفين لإيهام ذويهم بأنهم يتحدثون إليهم، ويساعدها في ذلك كل من ابنتها "مونيكا"، وخادمها الأبكم "توبي"، ولكن ينقلب السحر علي الساحر حيث تصيب مدام فلورا حالة من الذعر والخوف نتيجة لهواجس أصابتها جراء ممارستها أعمال الشعوذة، مما يجعلها في نهاية الأوبرا تقوم بقتل خادمها المخلص لها "توبي" وُتهدم حياتها وحياة ابنتها . قام بتجسيد شخصيات الأوبرا ستة من فناني الأوبرا المصريين، قامت الميتزوسوبرانو هالة الشابوري بدور "مدام فلوريدا" بأداء رائع متمكن جمع بين حرفية الغناء والتمثيل. السوبرانو جاكلين رفيق جسدت شخصية "مونيكا" الابنة وهي من الأصوات الرائعة التي أدت دورها أيضا ببراعة، وهي عضو في فرقة أوبرا القاهرة ولكني لم ألحظ وجودها في أدوار رئيسية ضمن ريبرتوار أوبرات خشبة المسرح الكبير بالرغم من كفاءتها !. قامت بدور إحدي الأمهات التي فقدت طفلها "السيدة جوبينو" السوبرانو أمينة خيرت التي درست الغناء في مركز تنمية المواهب بدار الأوبرا المصرية، وهي تتمتع بموهبة غنائية جديرة بالاهتمام والرعاية، جسد دور زوجها "السيد جوبينو" الباريتون عماد عادل عضو فرقة أوبرا القاهرة الذي له العديد من الأدوار الناجحة في أوبرات ريبرتوار دار الأوبرا. السوبرانو جيهان الناصر جسدت شخصية "السيدة نولان" والدة فقدت ابنتها. أما دور توبي فقام بتجسيده في اليوم الأول الممثل محمد مصيلحي، أما في اليوم الثاني فقام بأدائه مخرج العرض هشام الطلي، وبالرغم من أن الدور صامت الا أن هشام استطاع أن يجسد الشخصية بآداء تمثيلي متميز. موسيقي وإخراج الوسيط اعتمدت أوبرا "الوسيط الروحاني"علي مصاحبة موسيقية من آلة البيانو فقط قام بعزفها الأسكتلندي جريج مارتن الذي كان قائدا أيضا لأبطال الأوبرا . الافتتاحية الموسيقية للأوبرا في بداية الفصل الأول كانت قصيرة، اعتمدت علي تآلفات هارمونية وضح فيها التباين بين صوتي منطقة الباص والمنطقة الحادة في آلة البيانو، كذلك افتتاحية الفصل الثاني التي كانت كثيرة جدا ولكن تآلفاتها الهارمونية تشابهت كثيرا مع جزء منها في افتتاحية بداية الأوبرا، وقد غلب علي كلا الافتتاحيتين أجواء التوتر والترقب. تعمد "مينوتي" رسم الشخصيات الرئيسية للأوبرا من خلال بعض العلامات الموسيقية التي كان أبرزها، تعمده إبراز النغمات التنافرية من خلال التآلفات العنقودية التي اتسمت بها موسيقي الجاز في القرن العشرين في الفواصل الموسيقية التي تسبق دخول "مدام فلوريدا" أو أثناء المصاحبة الموسيقية لغناء الأجزاء الخاصة بها، لإبراز التفسخ النفسي للشخصية، كذلك غلب علي الأداء الغنائي لهذه الشخصية الأداء الريسيتاتيفي (الإلقاء المنغم). أما شخصية "مونيكا" فقد غلب علي موسيقاها الغنائية في اللحن الغنائي واللحن المصاحب للغناء، كذلك اختار لموسيقي هذه الشخصية موازين وإيقاعات رشيقة خاصة في المشاهد التي جمعت بينها وبين شخصية "توبي" مثل إيقاع الفالس . احتوت أوبرا "الوسيط الروحاني علي ثلاث آريات "الأغنية الفردية داخل الأوبرا" وهي : "فالس مونيكا"، "البجعة السوداء" وكلاهما غناء شخصية مونيكا، "الخوف، أنا خائفة" غناء شخصية مدام فلورا، بينما بقية الأغنيات تنوعت بين الثنائيات، والثلاثيات، والغناء لأربعة أصوات. قسم مخرج العرض هشام الطلي خشبته الي مستويين، المساحة الأكبر منهما هو المستوي الرئيسي للخشبة، بينما المستوي الأعلي نسبيا نتيجة للدرجات السلمية التي توحي بأنها مدخل منزل "مدام فلوريدا" كان في أقصي عمق الخشبة، وقد استطاع الطلي أن يقدم رؤية إخراجية متميزة استغل فيها جميع أجزاء وأركان ومستويات الخشبة في رسم حركته، مستخدما بعض الفنون الأخري في العرض وهو فن العرائس القفازية التي ظهرت في أول مشهد من الفصل الثاني . دارت أحداث الأوبرا في منظر واحد فقط هو بهو منزل "مدام فلورا" الذي صممه محمد عبد الرازق، طغي عليه الألوان الترابية بينما كان هناك مخارج استثنائية يمين ويسار الخشبة بخلاف الكواليس الجانبية، كنوع من الخداع البصري الذي يخدم أجواء الشعوذة التي تدور حولها موضوع الأوبرا، المنضدة الرئيسية في العرض التي دارت عليها أو حولها جميع مشاهد الأوبرا انتصفت الخشبة ناحية اليمين، وبذلك أصبح الجزء الأكبر من الخشبة في الكثير من المشاهد في حالة فراغ أراد المخرج من وراءه إبراز حالة الفراغ النفسي والعاطفي عند بطلة العرض "مدام فلوريدا". شارك في تتويج المشهد البصري لمشاهد الأوبرا الإضاءة التي صممها عصام علي حسن والتي تركزت في تمازج ثلاثة ألوان هي الأزرق والأحمر والأصفر وقليل من الأبيض. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا لا تعرض مثل هذه الأوبرات القصيرة، التي تقدم باللغة الإنجليزية وأبطالها من الشباب، وعدد أبطالها والعاملين فيها محدود للغاية، ويصاحب غناء أبطالها آلة موسيقية واحدة وهي البيانو، لا تقدم علي خشبات مسارح دار الأوبرا وقصور الثقافة في محافظات مصر؟ ذلك للتثقيف من ناحية، والارتقاء بالذوق الفني والعام من ناحية أخري، فأرجو من مسئولي مؤسسات وزارة الثقافة الاهتمام بهذه التوصية وأخذها في الاعتبار من أجل مستقبل أفضل .