وفي لقاء خاص مع الباحث صرح أن فكرة المشروع جاءته خلال شهر اكتوبر الماضي بمناسبة مرور خمسين عاما علي رحيل شفيق غربال، فجاءته فكرة العكوف علي بطون الدوريات القديمة لجمع مقالاته المتناثرة في الفترة من 1928 إلي 1961، ولم يكتف بالدوريات فقط، وانما رجع أيضا إلي مقدمات الكتب التي تفضل بوضعها، والتي تعتبر في حد ذاتها كتبا مستقلة بذاتها، وإلي أحاديثه الإذاعية، وبعض التقارير والأبحاث العلمية المقدمة في بعض المؤتمرات . وعند سؤاله عن اهم الصعوبات التي واجهته خلال عمله، أجاب بأن أهم صعوبة واجهته هي فقدان بعض الدوريات مع تمزق الورق الخاص بالبعض الآخر، كما صعب من مهمته قدم عمر الورق واصفراره مما أدي إلي صعوبة تصوير بعض المقالات الامر الذي اضطره إلي إعادة كتابتها مرة أخري، ثم إعادة مضاهاتها مع الأصل مرة أخري لضمان الدقة، كذلك توجد بعض المقالات التي لم يتمكن من الوصول اليها، كذلك بعض الاحاديث الإذاعية التي وجد بعض الأشارات إليها في مجلة الإذاعة، أو في بعض تعليقات الباحثين عليها، ولكنه لم يتمكن من الوصول إلي نصها الأصلي . من هو شفيق غربال؟ أما عن أهمية شفيق غربال نفسه، فهو واحد من أهم رواد المدرسة الأكاديمية في التاريخ المصري، ولد بالاسكندرية في عام 1894، واصل تعليمه الابتدائي في نفس الحي الذي ولد به، والتحق بعدها بمدرسة المعلمين العليا بالقاهرة، وأتم دراسته بها عام 1915، وحصل علي بعثة حكومية لدراسة التاريخ بجامعة ليفربول بإنجلترا، حيث حصل علي درجة البكالوريوس بمرتبة الشرف عام 1919، وعاد إلي مصر ليعمل مدرسا بالتعليم الثانوي بالإسكندرية لمدة ثلاث سنوات، ثم ذهب بعدها إلي إنجلترا مرة أخري لاستكمال دراساته العليا، فالتحق بمدرسة المعلمين العليا بجامعة لندن . وهناك تتلمذ علي يد المؤرخ العالمي الكبير أرنولد توينبي (1889- 1975) وأشرف علي رسالته في الماجستير وكان موضوعها "بدايات المسألة المصرية وصعود محمد علي وبعد حصوله علي درجة الماجستير لم يقدر له أن ينهي دراسته للدكتوراة بمناسبة نهاية مدة بعثته، فعاد إلي مصر ليعمل مدرسا للتاريخ بمدرسة المعلمين العليا حتي عام 1929 ، حيث عين أستاذاً مساعدا للتاريخ الحديث بكلية الآداب بالجامعة المصرية، ثم عميدا لكلية الآداب خلفا لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، ثم نقل إلي وزارة المعارف وعمل وكيلا مساعدا حتي عام 1942، واستمر يعمل ويتدرج في المناصب حتي بلغ السن القانونية للمعاش عام 1954، ولقد ساهم في تأسيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عام 1945، حتي صار رئيسا لها عام 1956 . كما كان عضوا نشطا في جمعية الآثار القبطية، والجمعية الجغرافية، والمجمع العلمي المصري، ومجمع اللغة العربية، كما كان عضوا مؤسسا في المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب والمجلس الأعلي للآثار، كما حصل علي جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1960 . والجدير بالذكر أنه أرسل دعوة إلي المؤرخ العالمي أرنولد توينبي لزيارة مصر قبيل وفاته، وعندما وصل كان شفيق غربال قد توفي بالفعل، فرثاه بكلمة طيبة في مجمع اللغة العربية، وذكر فيها أنه تعلم من غربال الشيء الكثير ذلك أنه في الدرسات العليا يشترك كل من الأستاذ والطالب في تعليم كل منهما الآخر . ويمثل شفيق غربال ثورة في المنهج العلمي في الكتابة التاريخية، فلقد تأثر بالفكر الليبرالي وما يرتبط به من تمجيد لدور الفرد ودور الصفوة أكثر من تأثره بالمدرسة الاجتماعية التي ظهرت في فرنسا . وكان يري أنه من الإسراف وضع قانون ثابت يفسر حركة المجتمعات البشرية، فالإنسان ليس آلة صماء يسهل التحكم فيها، وهو بذلك اختلف قليلا عن أستاذه توينبي الذي بني دراسته للتاريخ علي نظريته الشهيرة "التحدي والاستجابة. ولقد تميز غربال بذهن ذكي غني بالمعلومات مع القدرة علي التركيز والتلخيص والتركيب والتحليل، كما تميز بثقافة موسوعية في الأدب والتاريخ والفلسفة والاجتماع وعلم النفس الأمر الذي انعكس في انتاجه الفكري كما سنري من خلال عرضنا لبعض مقالاته . فمثلا في التراجم والشخصيات، كتب كلمات رثاء في كل من الدكتور علي مصطفي مشرفة ومحمد حسين هيكل وأحمد بدوي . كما كتب مقالا بعنوان " الشخصيات البارزة في تاريخ مصر الحديث " كما كتب مقالا عن تاريخ مجمل للحركة العلمية في مصر في العصر الحديث . فعن الشخصيات البارزة في تاريخ مصر يذكر المؤلف أن الجمعية الملكية للدراسات التاريخية عنيت بإعداد معجم كامل شامل لرجال مصر منذ أقدم العصور حتي الآن، وهو عمل ضخم .والمنهج الذي أعتمد عليه غربال في معجمه هو ربط شخصية المترجم له بحركة مهمة قام بها . فدراسة شخصية مثل علي بك الكبير اقترنت بدراسة حركة استقلال الولايات عن الدولة العثمانية، وعندما ندرس رفاعة الطهطاوي اقترنت دراسته بحركة الترجمة للغة العربية في القرن التاسع عشر، وعندما يعرض لأطباء مصر في العصر الحديث يقارنها بدراسة التعليم الطبي الحديث والعناية بالصحة العامة علي أسس علمية غير الأساس القديم، كذلك عند دراسة المهندسين يقرنها بحركة المنشآت العامة وانشغال الدولة بتنمية مواردها . ويلاحظ كذلك أن دراسة هذه الشخصيات لا تقتصر علي جنس واحد، ولا طبقة واحدة، فتجد منهم الريفي والحضري والقاهري، ومنهم من كان قبطيا أو من نصاري الشام والأرمن إلا أن الغالبية كانت من المسلمين . وفي مقالة له عن محمد حسين هيكل رجل القلم، اقتبس منه هذه العبارة التي وردت في مذكراته والتي قال فيها "فمصر تتأرجح حتي اليوم بين العقليتين العربية والغربية، تتغلب إحداهما حينا، وتتغلب الثانية حينا آخر - تتغلب العقلية الغربية حينا فينهض الفكر الحر وتنتشر النظريات العلمية، وتتأثر الثقافة بهما في المعاهد المختلفة وفي المعاهد الدينية نفسها، وتتغلب العقلية العربية حينا فتتحكم العاطفة ويسترد الماضي سلطانه، وتتأثر الثقافة بهما في المعاهد المختلفة، وفي المعاهد الجامعية المدنية نفسها، وهذا التأرجح يحدث حينا بعد حين، ويثير مناقشات حادة، لها حتي اليوم أثرها الواضح في اتجاهاتنا المختلفة، ويرجو كثيرون أن يوفقوا إلي صيغة تؤدي إلي اندماج العقليتين " . ولقد عالج هيكل هذه المشكلة بنفسه عمليا، عندما عين وزيرا للمعارف حيث فرض علي المدارس الأجنبية أن تعلم جميع تلاميذها اللغة العربية والتاريخ المصري والتربية الوطنية وجغرافية مصر . كما قال أيضا " وسط هذا الوطن الذي نشأت فيه، والذي نسيت معه كل ما رأيت مما سواه، ذكرت أنني أستطيع أن أجوب أقطار الأرض ما شئت، وأشهد من صور الجمال في مختلف مظاهر الفن ما حلا لي أن أشهد، أستطيع أن أصنع كل هذا وأكثر منه ثم أبقي بعد ذلك مصريا، وأبقي أكثر من مصري، أبقي فلاحا قحا صميما أقدس كل ما في مصر ومزارعها من جمال، وأقدس النيل الذي حبا مصر الحياة وحباها الجمال". والجدير بالذكر أنه جاري طبع الجزء الثاني من تراث محمد شفيق غربال حتي تكتمل الموسوعة وتصدر الاعمال الكاملة لهذا المؤرخ الكبير.