تنطلق 15 مايو.. جدول امتحانات الشهادة الإعدادية 2024 بالمنيا    ضمن مشروعات حياة كريمة.. محافظ قنا يفتتح وحدتى طب الاسرة بالقبيبة والكوم الأحمر بفرشوط    وضع حجر الأساس لنادي النيابة الإدارية في بيانكي غرب الإسكندرية (صور)    وزير الدفاع يلتقي قائد القيادة المركزية الأمريكية    مدبولي يتابع موقف التعديلات المقترحة على قانون المناطق الاقتصادية    ارتفاع أسعار الدواجن، وهذا سعر البيض في السوق اليوم الثلاثاء    بيلاروسيا تجري اختبارا مفاجئا لحاملات الأسلحة النووية    تعرف على حكم مباراة العودة بين الأهلي والترجي في نهائي دوري أبطال أفريقيا    النيابة تخلي سبيل مجدي شطة بكفالة مالية    سب والدته.. المشدد 10 سنوات للمتهم بقتل شقيقه في القليوبية    تجاوز 185 ألف جنيه.. تعرف على سعر إطلالة ياسمين عبدالعزيز في «صاحبة السعادة» (صور)    وائل كفوري ونوال الزغبي يحييان حفلًا غنائيًا بأمريكا في هذا الموعد (تفاصيل)    الصحة: نحرص على توفير الدورات بشكل دائم لصقل مهارات الأطقم الطبية والإدارية    الشامي: حسام حسن علمني الالتزام في الملعب.. وأخبرني أنني أذكره بنفسه وهو صغير    «زعيم الأغلبية» يدين الهجمات الوحشية للقوات الإسرائيلية على رفح الفلسطينية    غدا.. صحة المنيا تنظم قافلة طبية بقرية معصرة حجاج بمركز بني مزار ضمن مبادرة حياة كريمة    على طريقة الشيف عظيمة.. حضري بسكويت اليانسون في المنزل    9 أيام إجازة متواصلة.. موعد عيد الأضحى 2024    الرئيس الصيني يتعهد ب"عدم نيسان" قصف الناتو للسفارة الصينية في بلجراد    قبل بدء فصل الصيف.. موعد انخفاض أسعار الاجهزة الكهربائية وتوقعات السوق (الشعبة توضح)    نجمة البوب العالمية دوا ليبا تصدر ألبومها المنتظر "التفاؤل الجذري"    كيف يقوم العبد المسلم بشكر ربه على نعمِه الكثيرة؟..د.عصام الروبي يوضح    رئيس "دينية الشيوخ": تعليم وتعلم اللغات يمهد لمقاصد شرعية كريمة    البورصة المصرية تربح 11.9 مليار جنيه في ختام تعاملات الثلاثاء    بدء تطبيق نظام رقمنة أعمال شهادات الإيداع الدولية «GDR»    وزير الدفاع البريطاني يطلع البرلمان على الهجوم السيبراني على قاعدة بيانات أفراد القوات المسلحة    للأمهات.. أخطاء تجنبي فعلها إذا تعرض طفلك لحروق الجلد    وزير الري يتابع موقف المشروعات المائية وتدبير الأراضي لتنفيذ مشروعات خدمية بمراكز المبادرة الرئاسية "حياة كريمة"    انطلاق الأعمال التحضيرية للدورة ال32 من اللجنة العليا المشتركة المصرية الأردنية    ضبط متهم بالاستيلاء على بيانات بطاقات الدفع الإلكتروني الخاصة بأهالي المنيا    نصائح مهمة لطلاب ثانوي قبل دخول الامتحان.. «التابلت مش هيفصل أبدا»    توقف حركة دخول شاحنات المساعدات إلى قطاع غزة    75 رغبة لطلاب الثانوية العامة.. هل يتغير عدد الرغبات بتنسيق الجامعات 2024؟    احتفالات القيامة بإيبارشية القوصية ومير بحضور المحافظ ومدير الأمن| صور    حفل met gala 2024..نجمة في موقف محرج بسبب فستان الساعة الرملية (فيديو)    9 عروض مسرحية مجانية لقصور الثقافة بالغربية والبحيرة    المشاكل بيونايتد كبيرة.. تن هاج يعلق على مستوى فريقه بعد الهزيمة القاسية بالدوري    بحضور مجلس النقابة.. محمود بدر يعلن تخوفه من أي تعديلات بقانون الصحفيين    الضرائب: تخفيض الحد الأدنى لقيمة الفاتورة الإلكترونية ل25 ألف جنيه بدءًا من أغسطس المقبل    الأمم المتحدة: العمليات العسكرية المكثفة ستجلب مزيدا من الموت واليأس ل 700 ألف امرأة وفتاة في رفح    برلماني: الاستجابة للمقترح المصري طوق النجاة لوقف نزيف الدم    3 ظواهر جوية تضرب البلاد.. الأرصاد تكشف حالة الطقس على المحافظات    بكتيريا وتسمم ونزلة معوية حادة.. «الصحة» تحذر من أضرار الفسيخ والرنجة وتوجه رسالة مهمة للمواطنين (تفاصيل)    انطلاق فعاليات مهرجان المسرح الجامعي للعروض المسرحية الطويلة بجامعة القاهرة    ضبط نصف طن أسماك مملحة ولحوم ودواجن فاسدة بالمنيا    «تعليم القاهرة»: انتهاء طباعة امتحانات نهاية العام الدراسي لصفوف النقل.. وتبدأ غدًا    عادات وتقاليد.. أهل الطفلة جانيت يكشفون سر طباعة صورتها على تيشرتات (فيديو)    "تم عرضه".. ميدو يفجر مفاجأة بشأن رفض الزمالك التعاقد مع معلول    إيرادات «السرب» تتجاوز 16 مليون جنيه خلال 6 أيام في دور العرض    اقوى رد من محمود الهواري على منكرين وجود الله    المتحف القومي للحضارة يحتفل بعيد شم النسيم ضمن مبادرة «طبلية مصر»    تفاصيل نارية.. تدخل الكبار لحل أزمة أفشة ومارسيل كولر    كيفية صلاة الصبح لمن فاته الفجر وحكم أدائها بعد شروق الشمس    عبد الجليل: استمرارية الانتصارات مهمة للزمالك في الموسم الحالي    زعيم المعارضة الإسرائيلي: على نتنياهو إنجاز صفقة التبادل.. وسأضمن له منع انهيار حكومته    لاعب نهضة بركان السابق: نريد تعويض خسارة لقب الكونفدرالية أمام الزمالك    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    شكر خاص.. حسين لبيب يوجه رسالة للاعبات الطائرة بعد حصد بطولة أفريقيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خادم صلاح أبو سيف يرثي لحاله ويحاول الإنفاق عليه بعد أن باع سيارته ومصاغ زوجته
نشر في القاهرة يوم 08 - 05 - 2012

بعد انتهاء صلاح أبو سيف من فيلم "المنتقم" سافر منتجوه، لتسويقه في الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك سُئلوا عن جنسية الفيلم!! وحين أجابوا أنه مصري تعجب الجميع سائلين "بأمارة إيه؟ ماذا به يدل علي ذلك؟" وصدمت الواقعة صلاح وشكلت نقطة تحول في تفكيره، عززت ما كان يلح عليه كمال سليم من ضرورة أن يحمل الفيلم السمات التي تكشف عن هويته، وبات يؤرق صلاح قول الشاعر: "في سماء الخيال ضم جناحيك- تقع بيننا- فتصبح منا/ دع جمال الخيال وادخل كهوفا للملايين وارو للكون عنا/ إنما الفن دمعة ولهيب- ليس هذا الخيال والتيه فنا".. وكان من تأثير ذلك، مع استعادة أيام "حارة العزيمة"، العمل علي خلق سينما واقعية مصرية، واجتذاب الحوارجي نجيب محفوظ للعمل في السينما. نشأ صلاح أبو سيف في بيئة شعبية فقيرة. كان والده عمدة قرية الحومة مركز الواسطي في صعيد مصر، لكن أمه السيدة تفيدة فهمي كانت قاهرية من أوائل المتعلمات المصريات، تعودت علي حياة مختلفة تماما في طبيعتها عن حياة القرية، مما أكسبها شخصية قوية، رفضت معها العيش مع زوجها وسط زوجاته السابقات، فأقامت في بيت العائلة مع شقيقها في القاهرة، رافضة سطوة الزوج وتسلطه (تزوج شرعا 20 مرة وفق كلام صلاح) مما دفعه لقطع المصروف عنها وعن ابنها، بالذات بعد رفض إرساله للعيش مع بقية اخوته، وإصرارها علي إلحاقه بالمدرسة، حيث كان الأب ممن يرون أن التعليم- والوظيفة من بعده- حاجة للفقراء دون غيرهم، ومع ذلك لم تلن قناة الأم أو تتراجع عن موقفها. وقد أثرت طباع الأم في صلاح - وأورثته بين ما أورثته - صفة الحزم منذ الصغر. وكان حي بولاق، أحد معاقل ثورة 1919، يموج بالاضطرابات والعنف والمقاومة الشعبية لجنود الاستعمار البريطاني، وكان خال صلاح بين من تطاردهم السلطات البريطانية وتعتقلهم، وكان طبيعيا أن يكون لكل ذلك تأثير كبير ومباشر في نشأة صلاح، فتشرب روح الوطنية والكفاح ضد الاستعمار، مما كان له أبلغ الأثر علي بناء شخصيته وتكوين فكره السياسي. وقد لعبت حادثة شخصية عابرة دورا مهما في لفت صلاح منذ وقت مبكر إلي فكرة العدالة الاجتماعية. فعند زيارته لأسرة أحد الأقارب وجد لدي طفلهم كمية كبيرة من اللعب، فأخذ إحداها. وفوجئ صلاح باتهامه بالسرقة، وأدهشه الاتهام فقد كان يري أن اللعبة التي أخذها لا قيمة لها قياسا بما يملكه قريبه. ورغم عقابه علي ما اقترف، سمع أولاد خاله يناقشون المسألة من وجهة نظر سياسية، فارتبطت بذهنه كلمات العدالة الاجتماعية والمساواة علي صغر سنه. وكانت أم صلاح تواظب علي قراءة الصحف، مما لفته مبكرا إلي القراءة وحببه فيها. وعزز هذا الحب اهتمامه بمتابعة المجلات والكتب التي كان أولاد خاله الكبار يشترونها. نداهة السينما في العاشرة بدأت علاقة صلاح بالسينما. كان في الرابعة الابتدائية حين قرر إسماعيل صدقي وزير المعارف (عام 1925)، إضافة سنة خامسة يدرسها التلميذ، قبل الحصول علي الشهادة الابتدائية، وأنشأت المدرسة فصول تقوية مسائية لتلاميذ السنة الرابعة، لتوفر عليهم مؤونة الدراسة سنة أخري. ملّ صلاح من الدراسة صباحا مساءً، فقرر يوما عدم الذهاب إلي فصل التقوية. خرج من المنزل وهام علي وجهه في الشوارع. إلي أن وجد نفسه أمام مبني يزدحم الناس حوله، وعلي بابه صورة كبيرة لوجوه نساء ورجال، وأمامه شباب يتحلقون حول عربات كشري وبسبوسة وبوغاشة وبليلة و... . سأل عن سبب الزحام، فقالوا ساخرين: هذه سينما، والأبواب ما زالت مغلقة، وستفتح بعد دقائق. لمح جارا يعرفه، بادره بأن السينما تعرض اليوم روايات بديعة، وبالأسعار العادية، ثمن تذكرة الدخول قرش صاغ واحد! لم يكن مع صلاح سوي قرش واحد فتردد لحظات، حيث كان ينوي شراء بسبوسة بالقشطة، لكنه سرعان ما تغلب علي تردده مع سيل الداخلين وقطع تذكرة. كان قد زار المسرح مع بعض أهله أكثر من مرة، وشاهد يوسف بك وهبي ونجيب الريحاني. لهذا خف وأخذ مكانه في أول صف، مستغربا من اتجاه الجميع إلي المقاعد الخلفية، ظانا أنه دفع، دونا عنهم، ثمن تذكرة بريمو (ممتازة). انتظر أن يأتي معرفته الذي قال له إن التذكرة بقرش ليجلس إلي جواره، لكنه لم يأت. راح يتلفت حوله قلقا، إلي أن ناداه معرفته يسأله عن سبب جلوسه في الصف الأول، دون أن يفهم صلاح شيئا. جاء معرفته وسحبه من يده: الجلوس هنا سيصيبك بالصداع من "الدوشة"، ومن المقاعد الخلفية تري أفضل. يومها غرق مع "طرزان" و"شارلي شابلن" و"السفينة الغامضة". خرج مذهولا مما شاهده، فأي فارق بين هذه العوالم العجيبة وما يداوم علي لعبه كل يوم.. السيجة والجري وراء عربات رش الشوارع بالمياه و... . ما إن وصل المنزل حتي انهمك يحكي لأهله، وكان نصيبه علقة ساخنة علي التزويغ من المدرسة، وفرمانا يحظر عليه الذهاب إلي السينما مرة أخري. لكن نداهة السينما كانت قد خطفته، حتي أن الفرمان تعدل، وصار قاصرا علي الابتعاد عن أوقات الدرس وتجنب الترسو وجمهوره. وهكذا استمر لا في الذهاب إلي سينما "إيديال" في شارع إبراهيم باشا وحدها، بل عرف كل سينمات وسط البلد. ما إن يدق جرس انتهاء الدراسة يوم الخميس حتي يصطحب من يستطيع من زملائه معه، ويسعد مرة وهو يدعوهم إلي الصفوف الخلفية حين يندفعون إلي الصفوف الأمامية، وأخري وهو يكرر لهم بعض ما سمعه من مفهماتي الفيلم قبل ذلك. وإمعانا في إغراء الصغار المتحفظين كان يصحبهم إلي "سينما الشيكولاتة"، التي تربط بين توزيع الشيكولاتة وتذكرة الدخول. وهكذا سرعان ما اشتهر في المدرسة علي أنه "بتاع السيما". من التمثيل إلي الإخراج بات يحمل مسدسا (لعبة) في جيبه طوال الوقت، مثل البطل الأمريكي الشهير توم ميكس، كما يحاكي الممثلين في سلوكهم، ويقلد رعاة البقر في مشيتهم. واندمج مرة في فيلم "كاوبويز"، فوجد نفسه بعده منفوش العضلات. تحرش بأول من قابله، وسرعان ما ظهر أنه وقع في يد أحد فتوات حي الترجمان، وكان ما كان، مما جعله أقل اندماجا مع التمثيل. مرة وهو خارج من سينما "أوليمبيا" بالعتبة لمح في إحدي مكتبات أول شارع محمد علي كتاب "كيف تكون ممثلا سينمائيا؟" لم يكن معه قرشان ثمن الكتاب فسأل صاحب المكتبة الاحتفاظ له به، وسرعان ما عاد بثمنه والتهم صفحاته. كان يعتقد أن الممثل هو كل شيء في الفيلم. يتحرك علي الشاشة، من تلقاء نفسه، كما يريد. لكنه عرف أن هناك شخصا آخر أهم من الممثل: "في الاستديو ستجد شخصا صامتا. لا تقترب منه ولا تحاول أن تكلمه أو تشغله، لأن في رأسه الفيلم كله، وهو الذي يوجه الممثلين ويقود المصور و...". كانت المرة الأولي التي يعرف شيئا عن دور "المخرج"، وبات يحلم بأن يكون هذا الرجل. ومع أنه بدأ يبحث عما يعرف منه وظيفة المخرج، إلا أن كلمات كتاب شفيق حنين جعلته بين أقرانه خبيرا سينمائيا، يكرر كلما لاحت فرصة: "تكونش فاكر إن الممثل يتحرك علي كيفه. فيه مخرج...". بات أبو عريف "السيما" الذي يسأله من حوله عما يغمض عليهم. كانت بعض أسئلة زملائه تفاجئه ولا يعرف لها إجابة، لكنه سرعان ما وعي كيف يعلق المفهماتي علي ما يجري فوق الشاشة. يندمج وينفعل، ويبتكر لتشويق وإثارة الجمهور، وربما بما لا علاقة له بلوحات الحوار والعناوين، ولا حتي بسياق مشاهد الفيلم الصامت. حذا حذو المفهماتي ودأب هو الآخر علي تأليف، لا ما يرد به علي الأسئلة فقط، وإنما كل ما يكفل تشويق زملائه وإثارتهم وجرهم إلي عالم "السيما". وهو في الثانية الثانوية (1928/1929) شاهد فيلم عزيزة أمير "ليلي". انفعل فخرج من الفيلم عازما علي التأليف للسينما. انهمك، هو شبه اليتيم، في كتابة رواية سماها "اليتيم" حتي أنهاها، وأرسلها إلي عزيزة أمير طالبا منها إنتاجها. ردت عزيزة برسالة رقيقة مشجعة. قالت إن "الرواية وصلتها وستنظر في أمرها". عرف طلاب المدرسة ال 1500 موضوع الرسالة، وفي غمضة عين بات يشار إليه بالبنان، ويعامل بصفته مؤلفا سينمائيا. ومن يومها بات يحلم باليوم الذي ينهي فيه المدرسة ليعمل في "السيما". نيازي والمونتاج تدهورت أحوال الأسرة فانتقل صلاح- لتقصير طريق الدراسة- من التعليم الثانوي إلي التعليم التجاري، وكان متقدما بدرجة مكنت صلاح من القراءة بالإنجليزية والفرنسية، فراح يقتني مرتجعات المجلات السينمائية الأجنبية، ويلجأ إلي القواميس وأولاد خاله في التغلب علي ما يجابهه من صعوبات في قراءتها. وسرعان ما بدأ يترجم دون مقابل بعض ما يقرأ للمجلات الفنية مثل "الصباح" و"أبو الهول"، بل ويكتب بعض المقالات. وبعد حصوله علي الشهادة المتوسطة سعي إلي العمل بالصحافة الفنية، معتمدا علي تجربته هذه، مع معرفته باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وبعض المعارف السينمائية، واتفق علي تزويد مجلة "الراديو" و"البعكوكة" بمقالات مقابل 150 قرشا في الشهر، وكان سعيدا بالحصول علي كارنيه يتيح له دخول السينما مجانا. كان دخله هزيلا لا يغني ولا يسمن من جوع، بالذات وقد أصبح مسئولا عن أمه التي كانت تنفق عليه من ممارسة الخياطة. ولاحت فرصة للعمل في شركة النسيج بمدينة المحلة الكبري بأجر معقول، فقبلها مع عدم التخلي عن اهتماماته الفنية، بل واستغل موارده المالية الجديدة في الإنفاق عليها، ومن الأمور الطريفة الدالة علي الولع وقيمة الوظيفة، واقعة نسخ صلاح لكتاب فسيفولد بودوفكين عن فن السينما لعدم قدرته علي شرائه قبل راتب الوظيفة، وإرساله يستجلب بعض الكتب من لندن مباشرة بعد الالتحاق بالوظيفة. المهم أن صلاح في عزلته عن الوسط الفني والسينمائي، ووسط معايشته للظروف البائسة التي يعانيها عمال المحلة، انكب علي الاهتمام بالمعارف المتباينة المتعلقة بالسينما، مثل الموسيقي وعلم النفس والمنطق و...، وعمل علي ممارسة هواياته الفنية، فترجم كتابا عن المسرح، وألف وأخرج ووضع أزجال وألحان مسرحية قدمها فريق الشركة. ومن الأمور الطريفة أنه اعتزم آنئذ السفر إلي أوروبا لدراسة السينما، ولما كانت مدخراته وحده لا تكفي، فقد جمع له زملاء العمل والفن في المحلة الكبري 40 جنيها، مساهمة في نفقات السفر والدراسة! ذهب المخرج نيازي مصطفي إلي المحلة، وهو يعد فيلما عن شركات بنك مصر (1936)، وهناك رحب به أبو سيف الذي كان متابعا للمقالات التي يكتبها عن السينما والمونتاج في مجلة السينما. فوجئ نيازي بذيوع صيته، ولما عرف عن اهتمام صلاح بالسينما، دعاه لملازمته خلال إنجاز الفيلم. لم تكن المرة الأولي التي يتابع فيها صلاح الإخراج علي الطبيعة، إذ أتاح له عمله السابق في الصحافة، حضور تصوير أجزاء من بعض الأفلام، ومنها فيلم عزيزة أمير "كفري عن خطيئتك" (1932). وأمام مبادرة صلاح و دأبه وجديته وتفانيه اقترح نيازي انتقاله للعمل مساعدا له بقسم المونتاج في استديو مصر، وهكذا حدث ما تمناه صلاح طويلا. في بداية عمله باستديو مصر وجد نفسه منهمكا في ممارسة الترجمة لتحسين دخله. كانت مديرة مدرسة الخدمة الاجتماعية (إنجليزية الجنسية) في حاجة إلي من يترجم لها الدراسات والأبحاث التي يقوم بها الطلاب، وشارك صلاح في ذلك، مما أفاده كثيرا في تطوير لغته إلي جوار مفاهيمه الاجتماعية. يوسف وهبي وسيف الجلاد لم يلبث صلاح أن أصبح رئيساً لقسم المونتاج بالاستديو. وفي هذه الأثناء جاء يوسف وهبي لإخراج فيلم "سيف الجلاد"، وكان المفروض أن يقوم صلاح بمونتاج الفيلم بصفته رئيسا للقسم، لكن يوسف كان يحب العمل مع فريق خاص به، ولما رأي حماس من حوله لقيام صلاح بالمونتاج قال سأمتحنه أولا قبل الموافقة، فاستفز ذلك صلاح وراح يركب المشهد ثم يهده ويعيده مرات، تجنبا لكل ماكان سهلا ومعتادا وقتها، ومراهنة علي ألا يستطيع أحد آخر مضاهاة ناتج عمله، وفوجئ الجميع بمن فيهم يوسف وهبي بما اجترحه، وحقق ذلك لصلاح سمعة مهنية جيدة، بالذات بعد أن عرض الفيلم في مهرجان كان وجرت الإشادة بمونتاجه. جامعة كمال سليم لكن أفق الإخراج كان يداعب صلاح- منذ كتاب شفيق حنين- فعمل خلال تلك الفترة مساعد مخرج، بل وأخرج عدداً من الأفلام التسجيلية والوثائقية القصيرة.. لكن الخطوة البذرية المهمة في حياة أبو سيف كمخرج حدثت في بداية عام 1939، حين عمل مساعدا أولا للمخرج كمال سليم في فيلم "العزيمة" الذي أرسي قوائم الواقعية في السينما المصرية. ويذكر صلاح أنه تعلم الكثير عن فن السينما حينما تعرف علي كمال سليم وعمل معه، فقد كان مخرجا مجتهدا يهتم بالثقافة السينمائية وتجارب أعلام المخرجين
ونظريات السينما، وكان يطمح إلي ترجمة بعض الأعمال التي تعد من معالم الطريق في هذه المجالات. يقول صلاح: " لم يكن كمال سليم مجرد سينمائي. كان صاحب وجهة نظر في السياسة والاقتصاد والفن والفلسفة. كان أديبا وموسيقيا وشاعرا. كنا نقرأ الكتب سينمائية وغير سينمائية معا. وأذكر منها كتب سلامة موسي التي تناقشنا فيها طويلا. كان يفهمها بعمق أكثر مني، فكانت مناقشتي معه حولها توسع مداركي". خبرات فرنسية ولشغف أبو سيف الشديد بالسينما واجتهاده في عمله رشحه استديو مصر لدراسة المونتاج في فرنسا. وفي استديو "كلير" بباريس حدثت مفارقة طريفة، إذ كان كل العاملين في قسم المونتاج من النسوة، وكان حرج صلاح بالغا لكونه الرجل الوحيد بينهن، وأدركت إحدي العاملات الأمر فاقترحت عليه أن يعمل مع زوجها (لاكومب) في قسم الإخراج، حيث استطاع صلاح اعتمادا علي خبراته المتنوعة أن يجد لغة مشتركة مع هذا الزوج في مجال الإخراج. لكن استفادة صلاح الكبري من البعثة جاءت عن طريق آخر. كانت هناك دار عرض تجريبية تقدم برنامجا مخدوما من أفلام مختارة بعناية، لمخرج أو ممثل أو موضوع ما، وانتظم صلاح في الذهاب إليها بعد العمل، ولم يكن يغادرها إلا مع منتصف الليل، وهناك أتيح له مشاهدة معظم الأفلام التي شكلت معالم الطريق علي طول تاريخ السينما التي كثيرا ما سمع أو قرأ عنها دون وجود إمكانية حقيقية لأن يراها. وقد فتحت المشاهدة الواعية، بالورقة والقلم، المجال واسعا أمام صلاح للتعلم وتثقيف نفسه والتعرف علي مختلف تجارب السينما العالمية، ولا سيما الفرنسية والروسية والألمانية والأمريكية. وفي باريس التقي صديقه القديم علي كامل الذي كان، مثل أخيه محمود كامل المحامي، يكتب القصص. كان يقيم في باريس منذ عام فتكفل بتعريف صلاح بها. يقول أبو سيف: "كانت له آراء سياسية مستنيرة، وأعارني كثيرا من الكتب السياسية والاجتماعية القيمة. كنا نسكن معا في مونبارناس، نذهب بين يوم وآخر إلي حي بعيد لنشتري سندوتشات رخيصة للعشاء. كان الطريق يأخذ ساعتين ذهابا وإيابا، نقضيهما في الحوار، وتوطدت العلاقة بيننا كثيرا عبر هذه المناقشات". لكنه سرعان ما عاد صلاح أدراجه إلي القاهرة، بسبب قيام الحرب العالمية الثانية. الظروف الاجتماعية والعالمية وقد شهدت تلك الفترة تبلور التيارات السياسية والفكرية في مصر، وكانت الجمعيات الثقافية منتشرة في كل أنحاء القاهرة، تنظم الندوات والمحاضرات. وقد اشترك صلاح في جمعية "الثقافة والفراغ"، وكان يتردد عليها آنذاك الفنانون كامل التلمساني وسعد نديم وفؤاد كامل وحلمي حليم.. كانوا يشاهدون الفيلم ثم يذهبون لمقر الجمعية يناقشون ما شاهدوا، وربما عادوا لمشاهدة الفيلم مرة ثانية، ثم عاودوا مناقشته من جديد. واعتاد صلاح تكرار مشاهدة الفيلم الذي يعجبه. يقول: "أذكر أنني شاهدت فيلم جون فورد "عناقيد الغضب" أربع مرات في يوم واحد. كنت قد قرأت القصة بالإنجليزية، وفي مثل هذه الحالات كنت أعود للقصة الأصلية، وأجري المقارنات وأكتب ملاحظاتي". وفي غضون تلك الفترة اكتمل نصاب الفنيين المصريين العاملين في كل مرافق الإنتاج السينمائي. وإن كانت الحرب العالمية الثانية قد أوقفت الإنتاج في كثير من البلدان الأجنبية، والأوروبية منها بشكل خاص، فإنها كانت فترة ازدهار تجاري وتقني للسينما المصرية، مما جعل كثيرا من الفنيين يسعون للتحول إلي الإخراج. كانت رغبة صلاح ملحة في إخراج فيلم روائي طويل، وكانت عقيلة راتب تعمل بعقد احتكار مع استديو مصر، وشاهدت فيلم "جسر ووترلو"، وتمنت أن تقوم بدور بطلته في فيلم مصري، فاقترحت علي رئيس مجلس الإدارة اقتباس الفيلم، وعرضت الفكرة علي أبي سيف. كتب السيناريو وساعده سيد بدير في كتابة الحوار، وقرأ صلاح ما أنجزاه علي بركات وكمال سليم، في محاولة للاسترشاد بخبرتيهما، وأسند دور البطل للوجه الجديد عماد حمدي. وهكذا قام أبو سيف عام 1946 بتجربته الأولي في إخراج الفيلم الروائي "دائماً في قلبي"، المقتبس عن "جسر ووترلو". دارت العجلة وفي عام 1947 قدم فيلم "المنتقم" لأحمد سالم ونور الهدي ومحمود المليجي، وعام 1948 قدم "مغامرات عنتر وعبلة" لسراج منير وكوكا وزكي طليمات، وعام 1949 قدم "شارع البهلوان" لكاميليا وكمال الشناوي وإسماعيل يس. تجربة صلاح الإيطالية ولم يحالف النجاح أبا سيف منذ البداية فقد فشل في تجربتين لم يكن يتوقع هو شخصيا نجاحهما، وهما "شارع البهلوان" و"الحب بهدلة" إلا أن ذلك لم يثنه عن مواصلة العمل، جريا وراء تملك أدواته الفنية. وفي عام 1950 ذهب أبو سيف إلي إيطاليا لإخراج النسخة العربية من فيلم "الصقر" بطولة عماد حمدي وسامية جمال وفريد شوقي. وعززت تجربة صلاح الإيطالية من ثقته بنفسه وبأدواته مما رسخ من خطاه، سواء من خلال إحساسه بالندية، خلال العلاقة اللصيقة مع الأجنبي الذي كان يخرج النسخة الإيطالية، أو مع التفوق الذي كان يبديه فريد شوقي (كثيرا ما صفق الموجودون في موقع التصوير لأدائه)، والأهم من خلال تأكيد تيار الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية لما كان قد مارسه في فيلم "العزيمة"، أيام عمله مساعدا أولَ لكمال سليم، مما جعله يفكر في معاودة التجربة من خلال السينما المصرية، ملتحما بالحارة الشعبية، حيث الواقعية والملامح الفلكلورية والتراثية. وقد لعب دورا في تعزيز هذه الوجهة واقعة دالة، فبعد انتهاء صلاح من فيلم "المنتقم" سافر به منتجوه، وكانوا مجموعة من موظفي شركة شل، إلي الولايات المتحدة الأمريكية، ولما عرضوا الفيلم سئلوا عن جنسيته، وحين أجابوا أنه مصري تعجب الجميع سائلين "بأمارة أيه؟ ماذا به يدل علي ذلك؟". وقد صدمت هذه الواقعة صلاح، لكنه اقتنع بالأمر في النهاية، مما شكل نقطة تحول في تفكيره، عززت ما كان يلح عليه كمال سليم من ضرورة أن يحمل الفيلم السمات التي تكشف عن هويته، ولا يكفي أن يكون جيدا من ناحية الصنعة السينمائية وحدها. وكان من تأثير ذلك - مع استعادة أيام "الحارة" من خلال الواقعية الإيطالية - التفكير في التطور الطبيعي والمنطقي الواجب. لك يوم يا ظالم علي الرغم من حالة الغليان الوطني التي كانت مصر تمر بها في منتصف الأربعينات، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتصاعد حركة المقاومة ضد الاستعمار البريطاني مع التوجهات الاجتماعية. علي الرغم من ذلك كانت السينما المصرية تلهو بعيدا في عالم خاص بها، تجارها يتنافسون في صنع أكبر عدد من الأفلام التي لا علاقة لها بما يمر به المجتمع. كانت السينما تشهد نوعا من الازدهار الكاذب، فتقافز عدد الأفلام التي تنتج سنويا إلي ما فوق الخمسين، وتجاوز عدد الشركات السينمائية المائة، دون أن يكون لبعضها أي اهتمام بالإنتاج السينمائي، إذ دخلت فئة جديدة من تجار الفيلم الخام إلي سوق السينما أثناء الحرب، وتدافع العديد من المصورين والمونتيرين والممثلين ومساعدي الإخراج في التحول إلي مخرجين لتلبية حاجة السوق. وعندما عرض أبو سيف سيناريو "لك يوم يا ظالم" علي المنتجين، وسط هذا السعار، رفضوا مغامرته (كما رفضت من قبل فكرة فيلم المخرج كمال سليم "العزيمة") لكن أحدهم بادره: عليك أنت بإنتاج الفيلم وسأعطيك سلفة توزيع، مما اضطر أبو سيف إلي إنتاج السيناريو بنفسه، معتزما أن تكون هذه نقطة فاصلة في ممارسته السينمائية، فإما النجاح وإثبات صحة قناعاته والاستمرار وفقها، وإما... . وقد حقق أبو سيف بأسلوبه الواقعي واقترابه من الجمهور، ما كان يصبو إليه من نجاح، ولاقي الفيلم إقبالاً جماهيرياً ونقدياً كبيراً، وكان من بطولة فاتن حمامة ومحسن سرحان ومحمد توفيق. يقول أبو سيف: "كان علي أن أدخل مرحلة أخري، فقررت إنتاج فيلم مأخوذ عن رواية إميل زولا "تيريزرا كان". ولكن استديو مصر رفض إنتاج الفيلم، وكذلك كل المنتجين الذين عرضت عليهم السيناريو. مما دفعني للوقوف أمام نفسي، فهل أنا علي حق أم لا؟ وقررت الإنتاج. فبعت سيارتي، ومصاغ زوجتي وأنتجت فيلم "لك يوم يا ظالم"، وقبل عرض الفيلم بأسبوع، لم أكن أملك قوت يومي، حتي أن الخادم في المنزل كان يرثي لحالي.". وكان "لك يوم يا ظالم" (1951) فاتحة التفكير في اجتذاب الحوارجي نجيب محفوظ للعمل في السينما، وفاتحة أفلام أبي سيف الواقعية، التي شكلت نقلة فنية مهمة، ليس في مشوار صلاح فحسب، وإنما في مسيرة السينما المصرية بشكل عام: "الأسطي حسن" (1952)، "ريا وسكينة" (1953)، "الوحش" (1954)، "شباب امرأة" (1956)، الفتوة" (1957) و... . التي قال الناقد والمؤرخ الفرنسي العالمي جورج سادول عنها: "إنها خلقت في مصر تياراً لا تقل فعاليته عن تيار الواقعية الجديدة الذي نشأ في إيطاليا". وكتبت الباحثة السينمائية الألمانية أريكا ريشتر: " أبو سيف هو أستاذ الأفلام الواقعية في مصر... وقد استطاع أن يواجه الأفلام اللاواقعية التي تنتجها "هوليوود الشرق" بأفلام ذات مضمون شعبي وإنساني، وأصبح بذلك سندا أو محرضا وممهدا للسينما المصرية التقدمية".

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.