أول القصيدة وعد كاذب يليه تعقيدات روتينية فتعقيدات أخري ثم رشوة كبيرة لانهاء مصلحة بسيطة، وذلك كله قبل الوصول للمحطة الأخيرة في انهاء تلك المصلحة وهي نقل ملف أحد العاملين من مكان عمل إلي مكان عمل آخر انتقل إليه هذا العامل، هذا هو الخط الأساسي لرواية أول القصيدة.. بسيطة للقاص محمد غزلان الصادرة عن دار كتب للنشر والتوزيع عام 2008 والقصة هي أقرب لما يسمي في التصنيفات القصصية بال Noveiette أو القصة ما بين القصيرة والطويلة، فالخط الرئيسي في القصة «نقل الملف» يمثل مشكلة «بسيطة» قد لا تحتاج لأكثر من عدة أيام أو أسبوع علي الأكثر لحلها أو انهائها وشخصيات القصة قليلة، علي أننا نكتشف أن ماكان يبدو لنا بسيطاً ليس بالبسيط، وقد أحسن المؤلف اختيار عنوان القصة الذي يحمل نبرة ساخرة تميزت بها القصة من أولها لآخرها، فخلال رحلة الراوي لنقل ملفه من وزارة التربية والتعليم إلي مجال عمله الجديد بالصحافة يمر بعراقيل روتينية أغلبها من صنع موظفين مرتشين.. وقد نجح القاص من خلال أسلوب بسيط وسلس في الحكي وساخر في نفس الوقت في الامساك بالخط الرئيسي لقصته بطريقة تغري القارئ بالمتابعة، وكان من الممكن للقارئ أن يستشف من أول صفحة أن هدف الرواية هو الكشف عن مرض الروتين الحكومي المزمن وتفشي الرشوة في دواوين الحكومة لولا أن القاص أراد أن يوسع من دائرة رؤيته لنموذج من الفساد الاداري المصغر ليرينا نماذج أخري من الفساد الاجتماعي، وقد لجأ الكاتب في ذلك إلي تقنية في بنائه السردي تعتمد علي مزج الحاضر بالماضي في كل مرحلة من مراحل السرد، فكل خطوة يقطعها القاص/ الراوي في نقل ملفه تذكره بمرحلة من حياته يستعيد فيها أجواء وأحداثاً عاشها وشخصيات تعامل معها، ولنكتشف أن الفساد الاجتماعي كان موجوداً دائماً بصورة أو بأخري.. انه الشبح الذي يصادفنا في كل مجال نعمل فيه ونتعامل من خلاله مع البشر، والفساد قد يأخذ صورة الغش والنفاق أو التحايل والتلاعب المهني، فالفساد ليس في الإدارة فقط بل كذلك في مجال التعليم الذي عمل به مدرساً بدءاً من المدرسة إلي الإدارة التعليمية إلي الامتحانات التي يتجسد فيها بصورة أكبر من صور الغش والفساد والرشوة، فالرشوة التي اضطر الراوي مجبراً علي تقديمها لنقل الملف لا تختلف عن الرشاوي التي يقدمها أهل بلده للمدرسين المنتدبين لمراقبة امتحانات الثانوية العامة بها من أجل تغشيش أبنائهم والتي عاني منها الراوي الذي كان يرفض تقبلها في الماضي. ومن خلال تقنية إحالة الحاضر إلي الماضي لا يوسع القاص من رؤيته للفساد فقط وإنما يقارن بين نوعية الفساد في الماضي ونوعيته في الحاضر وما أحدثته النقلات الاقتصادية والاجتماعية من تغيرات في حياة البشر وسلوكياتهم وكيف أن زملاءه السابقين في بلده جهينه الكائنة في أعماق الصعيد ظلوا محافظين علي أصالتهم ونقائهم فهم يرحبون بزيارة الزميل القديم لهم بعد السنين الطويلة ويكرمونه غاية الكرم ويقدمون له المساعدة دون مقابل للحصول علي المستند المطلوب الذي سافر من أجله، وكانما أراد القاص بذلك أن يقول لنا إن مصرنا لا تزال بخير طالما كان فيها أمثال هؤلاء الناس، ورغم ما تستند عليه الرواية من بناء سردي جيد إلا أن هذا البناء قد شابه في بعض حالات الإحالة إلي الماضي سرد بعض ذكريات الراوي التي لا علاقة كبيرة بينها وبين الخط الرئيسي للقصة مما جعل الرواية تبدو في بعض الأحيان أشبه بلون من السيرة الذاتية لمرحلة من حياة الراوي أثناء عمله بمهنة التدريس ثم جاء الفصلان الأخيران من الرواية لنفاجأ بحدث يبعدنا تماماً عن الخط الرئيسي للرواية حيث ينتقل- ودون مقدمات- اهتمام الراوي وصديقه من مسألة نقل ملف الخدمة إلي المساهمة في إنشاء جمعية ترعي المسنين ونفاجأ وكذلك بوجود الزوجة السابقة لبطل القصة في اجتماع الإعداد لإنشاء تلك الجمعية رغم أن القاص لم يسبق له الإشارة إلي وجودها في حياته إلا عرضاً من خلال أسطر قليلة في فصل سابق خلال استعراضه لذكريات حياته المهنية السابقة، وقد راح القاص في الفصل قبل الأخير في وصف تلك الزوحة وشخصيتها وما تقوم به من مناورات - خلال الاجتماع- للعودة إليه. ولعل الشيء الوحيد في هذا اللقاء أو الاجتماع الذي له صلة واضحة بالأحداث السابقة في الرواية هو مصادفة وجود موظفة التأمينات الاجتماعية فيه، وهي الموظفة التي تعامل البطل معها خلال سعيه لنقل ملفه والتي أعجب بها صديقه، وقد وجد القاص في سرده لما وقع في ذلك الاجتماع فرصة لوصف التحولات التي طرأت علي مظهر وطريقة كلام الزوجة السابقة بعد عملها فترة طويلة في الخليج، وهو ما كان يمكن أن يشكل خطاً موازياً - إن لم يكن ملتحماً- مع وصفه لما طرأ علي سلوكيات الموظفين والعاملين الذين اضطر للتعامل معهم بعد خمسة وعشرين عاماً من خدمته في التربية والتعليم وهي الأعوام الذي شهد المجتمع فيها الكثير من التغيرات الاجتماعية، علي أن ما أفشل محاولة المؤلف للحم الخطين السابقين في الرواية هو ذلك الانقطاع بين حدث لقاء الإعداد لإنشاء الجمعية وبين الخط الرئيسي للرواية الذي بدأ من أولها واستمر معها وهو مشكلة البطل مع الروتين والموظفين المرتشين أثنا سعيه لنقل ملف خدمته.