إحياء لذكري ميلاد الفنان "محمد عبدالوهاب" موسيقار الأجيال الذي أمتع الكثيرين بعطائه الفني المتواصل لأكثر من نصف قرن من الفن الجيد والأصيل، والذي أثري الحياة الفنية والموسيقية في العالم العربي بأغانيه وألحانه، يقوم صندوق التنمية الثقافية تحت إشراف المهندس محمد أبوسعدة مدير الصندوق بالكثير من الأنشطة في المجالات الفنية المختلفة حيث قدم الصندوق حفلاً موسيقياً في الثالث عشر من الشهر الجاري علي المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية. وقد بدأت الاحتفالية بكلمة للمايسترو الفنان "سليم سحاب" وأعقبها كلمة أخري للفنان القدير "محمد سلطان"، ثم قدمت المطربة الشابة ريهام عبد الحكيم ذات الصوت الطربي الأصيل والإحساس الدافئ فاصلاً غنائياً لمدة ساعة ونصف الساعة حيث تغنت بمجموعة مختارة بعناية من أغنيات الموسيقار محمد عبدالوهاب وهما رائعتا كوكب الشرق "الحب جميل" و"فكروني" وقصيدة كامل الشناوي للسيدة نجاة "لا تكذبي"، وأغنية "في يوم وليلة" للسيدة وردة الجزائرية، أيضاً أغنية "تهجرني بحكاية" و"ست الحبايب" لفايزة أحمد والتي تتناسب مع مناسبة الاحتفالات بعيد الأم في هذه الأيام، هذا بالإضافة لرائعة أمير الشعراء (أحمد شوقي) وعبدالوهاب قصيدة "مضناك جفاه مرقده"، ولأول مرة بمصاحبة فرقة الدكتور "عادل عبد الحميد" عميد كلية التربية الموسيقية وهي عبارة عن تخت شرقي مكون من سبعة أفراد هم: "عادل عبدالحميد" علي آلة العود، و"محمد عاطف" علي آلة الناي، و"محمد قطب" علي آلة الكمان، و"سامر بركات" علي آلة القانون، و"أحمد عامر" علي آلة التشيللو، و"صلاح رجب" علي آلة الكنترباص، و"عبدالرازق أحمد" علي آلة الرق. وكانت الفرقة علي مستوي فني عال ويظهر ذلك في أدائهم لبعض الألحان المنفردة والتي يتضح من خلالها حسن اختيار العازفين، وأيضاً لوجود الهارموني والتوافق فيما بينهم وبين صوت المطربة المتألقة ريهام عبد الحميد والتي أمتعت جميع الحضور بأدائها المميز. أساتذة الطرب أيضًا شهد بيت الغناء العربي يوم الخميس الموافق الخامس عشر من مارس الحالي احتفالية كبري لنفس المناسبة، وأيضاً تحت رعاية صندوق التنمية الثقافية، وتقديم الإعلامي "محمد الناصر"، وقد أحيا الحفل نخبة من المشتغلين بالحقل الموسيقي في مصر بالاشتراك مع فرقة (أساتذة الطرب) بقيادة المطرب " محسن فاروق "، حيث قدمت مجموعة من أروع إبداعات الموسيقار الكبير وهي افتتاحية صوت العرب للفرقة، ثم أغنية "قالولي هان الود" وقدمها المطرب محمود عبد الحميد كما قدم المطرب خالد عبد الغفار أغنيتان من أروع الأغاني وهما "النهر الخالد" و"بلاش تبوسني"،أما أغنية "آه لو تعرف"و"ماليش أهل" فكانتا للمطربة الشابة داليا فؤاد والتي قدمت دويتو غنائيا متميزا "يا دي النعيم" مع زوجها الفنان المطرب محسن فاروق والتي لاقت استحساناً جماهيرياً كبيراً. كما قدم عازف آلة الناي المتميز بأدائه الراقي المبدع ممدوح سرور "والله مانا سالي" مع مجموعة من كورال الرجال، أما عاشق الكمان الفنان محمد نصر فقدم أغنية "فكروني" عزفاً منفرداً وكان أداؤه الفني عالي الحس استطاع من خلاله أن يعبر بالأوتار والقوس بإحساس صوت سيدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم، كما كان انتقاله بين المقامات الشرقية يعبر عن حرفيته وتميزه الشديدين، حيث أبهر بأدائه جميع الحضور، أيضاً قدم المطرب صاحب الصوت الرصين "محسن فاروق" أغنيتين استطاع من خلالهما التعبير عن أصالة صوته وقوته وقدرته علي أداء الجمل اللحنية الطويلة وهما "من قد إيه كنا هنا" و"عشقت روحك" والموال الموجود في بدايتها والذي تميز وأبدع فيه "محسن فاروق" حيث اختتم بها الحفل الذي لاقي إقبالاً جماهيرياً وحفاوة بالغة انتهت بتصفيق حار من جميع الحضور، وخاصة بعد إشادة أسرة الفنان الراحل عبدالوهاب والذين لبوا الدعوة بالحضور لهذه الاحتفالية، حيث حضر كل من ابنتيه عفت وعصمت محمد عبدالوهاب وزوجيهما وأبنائهما وأحفادهما ومجموعة من أصدقاء الأسرة، والذين كانت تعتريهم حالة من الفخر والمجد بقيمة موسيقار الأجيال وبرقي هذه الليلة التي كانت في أحضان التاريخ العربي والإسلامي في قصر الأمير بشتاك، وهو (الأمير سيف الدين بشتاك الناصري) أحد أمراء الناصر محمد بن قلاوون، ويرجع تاريخ إنشائه إلي القرن الرابع عشر حوالي عام 1334-1339، والقصر واقع في قلب القاهرة بشارع المعز لدين الله الفاطمي بمنطقة النحاسين، ويتميز هذا القصر بالعمارة الإسلامية التي تتجلي في الزخارف والحوائط والبهو الأثري الذي يشع فناً وثقافةً وحضارة أصيلة تمتزج بروح الموسيقار محمد عبدالوهاب وتراث أغانيه العظيمة لتوحي للجمهور بحالة نفسية جمالية تخاطب الوجدان. نشأة دينية وكان عبدالوهاب راغباً في الاتجاه للفن منذ صباه، فقد ولد في حي باب الشعرية بالقاهرة في الثالث عشر من شهر مارس عام 1910، ونشأ في بيئة دينية حيث كان والده "محمد ابو عيسي" مؤذناً وخطيباً وقام بتحفيظه جزءاً كبيراً من القرآن الكريم في طفولته، ثم أُلحق محمد عبدالوهاب بكتّاب جامع سيدي الشعراني بناء علي رغبة والده الذي أراده أن يلتحق بالأزهر ليخلفه بعد ذلك، كما أن حبه للغناء والطرب جعله شديد الشغف بالاستماع إلي شيوخ الغناء في ذلك العصر مثل الشيخ سلامة حجازي وعبد الحي حلمي وصالح عبدالحي، وكان يذهب إلي الموالد والأفراح التي يغني فيها هؤلاء الشيوخ للاستماع إليهم وحفظ أغانيهم، ولم ترض أسرته عن هذا الاتجاه وكانت توجه له بعض العقاب والجزاء، لكن بعد فترة وجيزة قابل عبدالوهاب الأستاذ فوزي الجزايرلي صاحب فرقة مسرحية بالحسين والذي وافق علي عمله كمطرب يغني بين فصول المسرحيات التي تقدمها فرقته، وبالفعل التحق بفرقة فوزي الجزايرلي عام 1917 والتي تعتبر هي نقطة البداية والانطلاق لحياته الفنية. وغني محمد عبدالوهاب أغاني الشيخ سلامة حجازي متخفياً تحت اسم "محمد البغدادي" حتي لا تعثر عليه أسرته، إلا أن أسرته نجحت في العثور عليه وازدادت إصراراً علي عودته للدراسة، فما كان منه إلا أن هرب من سيرك إلي دمنهور حتي يستطيع الغناء، ولكنه طُرِد من السيرك بعد ذلك ببضعة أيام لرفضه القيام بأي عمل سوي الغناء، فعاد إلي أسرته بعد توسط الأصدقاء، وما كان من الأسرة إلا أن اضطرت للنزول عن رغبتها ووافقت علي غنائه مع إحدي الفرق وهي فرقة الأستاذ "عبد الرحمن رشدي" علي مسرح برنتانيا. وكان يغني نفس الأغاني للشيخ سلامة حجازي، وفي ذات ليلة حضر أمير الشعراء "أحمد شوقي" أحد عروض الفرقة وبمجرد سماعه لعبدالوهاب قام متوجهاً إلي حكمدار القاهرة الإنجليزي آنذاك ليطالبه بمنع محمد عبدالوهاب من الغناء بسبب صغر سنه، ونظراً لعدم وجود قانون يمنع الغناء أخذ تعهد علي الفرقة بعدم عمل عبدالوهاب معهم. بعد ذلك ونتيجة لإصراره علي تعلم الموسيقي التحق بنادي الموسيقي الشرقي "معهد الموسيقي العربية حالياً" في عام 1920 لرغبته في تعلم العزف علي آلة العود حيث درس علي يد الفنان "محمد القصبجي". كما تعلم فن الموشحات وبعدها أكمل دراسته بمعهد (جويدين) الإيطالي بالقاهرة، وقد عمل في نفس الوقت كمدرس للأناشيد بمدرسة (الخازندار)، ثم ترك كل ذلك للعمل بفرقة "علي الكسار" كمُنشد في الكورال وبعدها عمل بفرقة "نجيب الريحاني" عام 1921، والتي قام معها بجولة في بلاد الشام وسرعان ما تركها ليكمل دراسة الموسيقي ويشارك في الحفلات الغنائية، وأثناء ذلك قابل "سيد درويش" الذي أُعجب بصوته وعرض عليه العمل في فرقته الغنائية، وتعلم عبدالوهاب علي يديه التطور في الموسيقي العربية، كما عمل معه في روايتي البروكة وشهرزاد، وبالرغم من فشل فرقة سيد درويش إلا أن عبدالوهاب لم يفارق سيد درويش بل ظل ملازماً له يستمع لغنائه ويردد ألحانه حتي وفاة سيد درويش، بعد ذلك كان اتجاهه إلي التمثيل في السينما منذ بدايات السينما المصرية حيث يعد هو أول مطرب يظهر علي الشاشة في فيلم (الوردة البيضاء) الذي قدم عام 1933 إخراج "محمد كريم"، وبعد نجاحه السينمائي أنشأ شركة لإنتاج الأفلام تحت اسم (فيلم عبدالوهاب) وكان المخرج محمد كريم هو المدير الفني لها، كما عمل أيضاً في الإذاعة المصرية منذ عام 1934، وحظي عبدالوهاب علي شهرة واسعة من خلال عمله في السينما والإذاعة، كما لاقت أغنياته وألحانه نجاحاً جماهيرياً منقطع النظير. وقد تعامل عبدالوهاب كملحن مع الكثير من المطربين في مصر والوطن العربي منهم أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفيروز وطلال مداح وأسمهان ووردة الجزائرية وفايزة أحمد ونجاة وشادية وغيرهم، كما تعامل مع كثير من الشعراء وعلي رأسهم أحمد شوقي والذي كانت تربطه به علاقة وثيقة منذ صباه حينما رفض غناءه في الصغر لخوفه عليه، لكن فيما بعد رعاه أحمد شوقي واستطاع بفضله أن يلقب ب"مطرب الأمراء والملوك". تطور موسيقي ويعتبر عبدالوهاب أحد الأعمدة والركائز الأساسية التي اعتمدت عليها الموسيقي العربية والشرقية في تطورها حيث استكمل مسيرة تطور الموسيقي العربية التي بدأها مطرب الشعب سيد درويش، كما عمل علي المزج بين الموسيقي الشرقية والموسيقي الغربية والذي يعد سبقا له الفضل فيه، حيث أضاف الآلات الغربية إلي بعض الألحان الشرقيةالأصيلة وبذلك اختلف شكل التخت الشرقي الذي اعتدنا عليه، كما أدخل بعض الإيقاعات والموازين المستحدثة علي الموسيقي الشرقية مثل الفالس والتانجو؛ مما أصبغ ألحانه وأعماله بلون مميز يختلف عن سابقيه. وقد حصل محمد عبدالوهاب علي الدكتوراة الفخرية من أكاديمية الفنون، ووسام الاستقلال الليبي عام 1955، وحصل علي الميدالية الذهبية من معرض كلولوز عام 1962، ووسام الاستقلال من سوريا عام 1970، وجائزة الدولة التقديرية عام 1971، ونيشان النيل عام 1973، ويعتبر هو أول موسيقي في العالم العربي وثالث فنان في العالم حصل علي " الأسطوانة البلاتينية" المقدمة له من مجموعة شركاتA M T ، وتضم الأسطوانة عمليه " في الليل لما خلي، دعاء الشرق "، وقد لقب ب "الموسيقار العربي الأول" من المجتمع العربي عام 1975، ولقب أيضاً ب "الفنان العالمي" من جمعية المؤلفين والملحنين في فرنسا عام 1983 . وقد وافته المنية في الرابع من شهر مايو عام 1991، بعد رحلة فنية امتدت لما يزيد علي نصف قرن من الفيض الغزير والعطاء المتواصل، والذي جعله واحداً من أكبر المساهمين في إثراء الموسيقي العربية بأعمال خالدة مازالت هي منارة لكل الموسيقيين الذين يودون السير علي نهجه ليس فقط في مصر بل في الوطن العربي أجمع.