يمثل المكان عنصرا فاعلا داخل كل مبدع يؤثر ويتأثر به، يلعب دورا كبيرا في بنية العمل الفني أو الأدبي خاصة القصة أو الرواية أو المسرح، وعندما نتناول إبداعات القاص محمود أحمد علي نجد المكان يمثل عنده مساحة لا بأس بها، وارتباطا وجدانيا وعمقا اجتماعيا داخل تكوين العمل الأدبي حينما يتناول قضايا عدة أثناء معالجته لها أو طرحها بين أحداث قصصه الإبداعية ما هي إلا لحم ودم وحياة آخرين بكل ما فيها من أفراح ومآسي ومشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية، وهذه القضية دائما تشكل الفعل الحقيقي في إبداع محمود أحمد علي، لأنه ينصهر داخل بوتقة المجتمع الذي ينتمي إليه، خاصة نشأته في قرية صغيرة بمحافظة الشرقية تحمل عادات وتقاليد كثيرا ما تختفي في مجتمع المدينة الواسع الذي تتلاشي فيه صورة المحبة والترابط المجتمعي بشكل يخالف ما نجده في القرية. من هنا يجب أن ننسج عنصر المكان نسجا خاصا مرتبطا بكل ما يحمل من عناصر سيكولوجية وأيديولوجية تؤثر في شخصيات العمل القصصي الذي يشكل بعدا اجتماعيا شديد الثراء الفني من خلال إلقاء الضوء علي المجموعة القصصية الأخيرة «سمع هس» التي صدرت في سلسلة إبداعات الدلتا الهيئة العامة لقصور الثقافة. نتوقف أولا أمام قصة «ابنتي من الآخر» المكان المستشفي تحديدا حجرة العمليات الزوجة تلد مولودا جديدا يتطلع إلي عالم لا يرحم مليء بالقسوة، الصراع قائم بين آمال وأحلام كائنة في الخيال تحتضن الواقع الأليم بين رجلين كل منهما ينتظر مولودا، لكن تختلف لحظة قبول الخبر ومدي تأثيره علي الشخص نجد الأول يرضي بما قسمه الله له بالكائن الذي سوف يسعد حياته، أما الآخر فيعقد العزم والنية علي خبر واحد فقط يقبله بالرضا والسعادة هو أن تلد زوجته ولدا يحمل اسمه من بعده فقط. أما لو جاءت أنثي يرفض البُشري التي أرادها له الله بل الأفدح من ذلك يربط العزم علي طلاق زوجته، هذه القصة تعالج القضاء والقدر يجب أن نأخذهما كما أرادهما الله عز وجل، وليس كما نريده نحن. وإلا وقع الإنسان في معصية كبيرة وذنب عظيم فالدقائق تمضي ثقيلة كالدهر القاسي كل منهما يتمتم بهواجس نفسه تتطلع الأعين إلي باب حجرة عمليات الولادة، لهفة وشغف، يخرج الدكتور يحمل خبرا للرجل الأول الذي يرضي بما قسمه الله إن كان المولود ولدا أو بنتا بأن الجنين الولد تعيش أنت.. وديعة ربنا أخذها.. أما الرجل الآخر يتعطش أيضا إلي ما يحلم به، لكن مشيئة الله تخالف ما يتمني.. مبروك جالك بنت جميلة جدا.. جدا. انصرف الطبيب التفت إلي الرجل تقابلت أعيننا.. في ضيق راح يصرخ في وجه الغرفة: طالق.. طالق بالتلاتة.. انصرف سريعا وهو يتمتم: بنت.. بنت سادسة.. هو أنا حافتح مدرسة بنات.. قال بنت قال.. هنا يجب أن نضع علامة استفهام كبيرة نسافر بعدها إلي أعماق النفس البشرية وما تطوي من رغبة جامحة لما نتمناه من تحقيق الذات البشرية، ثم نضع بعض الأسئلة التي يجب أن نسألها أولا لأنفسنا هل السعادة الحقيقية في إنجاب الأولاد فقط؟ أم السعادة في إنجاب البنات؟ أم السعادة الحقيقية في إنجاب الاثنين معا؟ الواقع المجتمعي المنفتح علي العالم الآن يجد السعادة في وجود أي منهما ربما زادت السعادة لو تأملنا حكمة الله عز وجل في أن يرزقنا بالبنين أو البنات، الرضا بما يقسمه الله لنا، عندما نقف أمام رحلة اكتشاف الغيب سيدنا موسي مع الخضر والعلامات الدالة الفارقة لحقيقة الأمور لارتضينا بما يقسم لنا، فالمحطات الثلاث خرق السفينة، قتل الغلام، إقامة الجدار. كل هذه المحطات ما هي إلا استكشاف الحقيقة الغيبية التي لا ندركها ولا نعلم كنهها، لأنها سر من أسرار الكون لا يختص بها الله أحدا من البشر وإلا انقلبت الموازين. أراد الكاتب أن يطرح لنا هذه القضية التي تتجذر داخل بعض المجتمعات، وهو يمس جوهر الحقيقة بخيط من الحرير الذي يكبل رغباتنا الجامحة التي لا تعي أحيانا ولا تدرك، يتمثل هذا في المشهد الأخير، عندما خرجت الممرضة مبتسمة وهي تقف أمامه.. امتدت يدها إلي حاملة ابنة الرجل وهي تقول: مبروك يا بيه.. تتربي في عزك. لنعد سريعا إلي عنوان القصة «ابنتي من الآخر» فالدلالة هنا يدركها القاص بشكل رمزي لما نحن عليه الآن، فالكاتب شديد الثراء الفكري الذي يتمثل في اختيار لغته القصصية من خلال بنية العمل الإبداعي، فالكلمة بجوار الكلمة والجملة بجوار الجملة في النهاية نري ثوبا جميلا تم نسجه بحنكة وبراعة القاص، والذي نراه في بعض القصص الأخري داخل هذه المجموعة المتميزة. نقف أمام محطة أخري قصة «الهدية» التي إذا تأملنا كل كلمة أو جملة بما تحمل من معني ورمز يكسر عظامنا بل يحرق أعصابنا وينقض علي البقية الباقية من الحنان والعطف والحب ليطحنها لكي نرتوي بها ونتجرعها حتي الثمالة. هذه القصة أراد «القاص» أن ينسج مضمونها ويرسلها إلينا من خلال تلغرافات سريعة متتالية كل تلغراف يلسعنا ويمس عقولنا مسا حتي نفيق علي الحقيقة الصعبة لخصها لنا القاص في حقب زمنية قريبة جدا لكنها ممتدة.. أول من أمس.. أمس.. اليوم.. ماذا يحدث بين تلك الفترات الزمنية عمر مديد حاول القاص أن يفلسفه لنا ويبني هرما طال بنيانه، ويختصر الزمن الطويل جدا في ثلاث لمحات بصرية شديدة القسوة والمرارة. أنجبت ولدا جميلا بعد سنوات عجاف.. طرقت خلالها أبواب أطباء كثيرين.. أسميته «نور» حتي يضيء ظلمات وحدتها من بعد موت زوجها المفاجئ في حادث أليم.. الأم ترعي طفلها عيناها لا تغيب عنه لحظة من اللحظات، تحاول أن تعلمه كيف يحبو مستندا إلي حائط البيت، كيف يقف ويسير ويلهو بين جدران الحجرة وهي في سعادة بالغة هذه التلغرافات السريعة التي يرسلها لنا القاص ما هي إلا موجات من الهموم تطبق علي أنفاسنا. مرضت الأم مرضا شديدا.. نفس الحجرة.. نفس الجدار.. الزمان فقط غير الزمان.. أصابع طفلها الذي صار رجلا مازالت آثارها علي الحائط. ضحكاته مازال صداها يعم المكان.. وضعت أصابعها فوق آثار أصابعه. تعاودها ضحكاته.. راحت تهمس.. تاتا.. تاتا.. تاتا.. كما كانت تقف بجواره وهو طفل عندما كان يحاول السير والمشي والوقوف علي الجدار. الآن وهي مريضة لا تقدر علي السير من المرض الذي داهمها «الجلطة». يتولد بداخلنا السؤال: أين هو الآن؟ لكي يقف بجانبها وهي تتعثر في المشي، وفي أشد الاحتياج إلي شخص يقف بجانبها حتي تتكئ عليه.. الإجابة يرسلها لنا الكاتب من خلال تلغرافات صادمة كتيار الكهرباء الذي يسري في سلك عار. اليوم.. دق بابها.. في تثاقل شديد.. شديد جدا قامت من نومها.. مستندة إلي عكازها الذي خرطه وأتقن صنعه زمانها فتحت الباب. مبتسما وقف سائق ابنها يقول: كل سنة وانتي طيبة يا حاجة «نور» البيه بيتأسف لحضرتك أوي عشان مشاغله كثيرة زي ما حضرتك عارفة بس مانسيش حضرتك، وبعت معايا هدية عيد الأم.. لو تأملنا أحداث هذه القصة القصيرة جدا بكل ما تحمل من مضمون ورؤية بعيدة المدي نجدها تمس عصب المجتمع بشكل صارخ أراده القاص كأنه يريد أن يختصر حياة الأم من السهر والتعب والقلق الحائر علي حياة طفلها الذي أصبح رجلا ذا مكانة اجتماعية كبيرة يختزل حياة أمه بما تمثل له من أشياء كثيرة لو تأملها وأدركها بعقله وفؤاده لظل تحت قدميها طائعا ذليلا، ولكنه اختصر واختزل كل هذا في أن يرسل إليها هدية عيد الأم مع السائق. لو تأملنا عنصر المكان في القصة الأولي «ابنتي من الآخر» لوجدنا مبني المستشفي تحديدا حجرة عمليات الولادة تم توظيفها توظيفا دلاليا في بناء الأحداث وامتداد الزمن أيضا في القصة الأخري «الهدية» نجد أن الحجرة لعبت دورا رمزيا دلاليا في المكان الذي احتضن الطفل وتعلم وكبر حتي صار رجلا يافعا، أيضا هذا المكان هو الذي شهد مرض الأم وتعثراتها بعد ذلك في المشي علي عكازها الذي كان يجب أن يكون الابن نجد المكان في القصتين لعب دورا كبيرا في أحداث كل منهما. علي هذه الوتيرة يبني القاص مجموعته القصصية، بل هي امتداد لإصداراته السابقة، فهو بالفعل يعزف دائما علي وتر وجدان المجتمع بما يعتمل من مآس ومشكلات اجتماعية يجب أن نقف أمامها كثيرا، كما سنري في: سمع هس هل أنت مذنب خروج كفر البلاسي محطة رجوع حكاية للكبار فقط الباب المفتوح وباقي قصص المجموعة، التي استمتعت بقراءتها وتأثرت بأحداثها الموجعة والمؤلمة.