نشرت جريدة «المصري اليوم» بتاريخ 27/12/2011 خبرا عن تبرؤ «حزب النور» السلفي مما يسمي «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المصرية» التي أسسها عدد من أعضائه، وبدأت نشاطها عبر صفحة علي موقع «الفيس بوك»، وكان مؤسسو الصفحة قد قالوا في بيانهم الأول إنهم ينشئون الهيئة اقتداء «بالأراضي المقدسة»، وقالوا: إننا لم نقم بهذا الأمر إلا بعد استشارة «أئمتنا الكرام»، وأضافت جريدة «التحرير» أن الصفحة الرسمية للهيئة كتبت علي الحائط أنها ستغير ما تراه خطأ باليد، وإن لم تستطع فستستخدم اللسان، وإن لم تستطع فسيكون بالقلب وهو أضعف الإيمان! أكتب هذا المقال ليكون تحت نظر شباب السلفيين، وعلمائهم الكرام علي السواء. إني لا أجد حديثا منسوبا لرسول الله «صلي الله عليه وسلم» آثار من الاشتباكات والاقتحامات مثل حديث: «من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، «رواه مسلم» إذ يتخذه الإسلاميون ذريعة لارتكاب أعمال عنف، وتدخل في حرية الآخرين، بحجة أنهم يغيرون المنكر باليد «كما أمر رسول الله»! والحديث بلفظه يجعل التغيير باليد أقوي الإيمان وأكثره ثوابا، والتغيير بالقلب أقله ثمرة (كشرح الإمام «النووي» في كتابه «رياض الصالحين»)، ثم هو بشموله يطلب من كل فرد أن يغير المنكر بالقوة متي استطاع إلي ذلك سبيلا، وفي هذا ما فيه من الاعتداءات والتصادمات والفوضي! وهال المثقفون والعلماء ما يجري، فنهضوا يؤولون الحديث، وقالوا: - إن التغيير «باليد» من سلطة ولي الأمر، حاكما كان أو أبا أو راعيا مسئولا عن رعيته. وأن التغيير «باللسان» موكول إلي الدعاة والوعاظ. وأن التغيير بالقلب يقوم به الناس جميعا. لكن المتطرفين - ومعهم كثير من الناس - لم يقتنعوا بهذا التأويل، وقالوا: إن الحديث واضح لا لبس فيه، وهو يتوجه بالخطاب إلي كل مسلم يأمره أن يغير المنكر بيده إن استطاع، وقد يكون معذورا من أنكر هذا التأويل، فإن مفهوم الحديث الشائع هو المستقر عند فقهاء السلف ومنهم حجة الإسلام «أبوحامد الغزالي» (450-505 ه) الذي كتب في كتابه الشهير «إحياء علوم الدين»: «إن القائم بتغيير المنكر باليد من شروطه أن يكون مسلما عاقلا، ويدخل فيه «آحاد الرعايا» وإن لم يكونوا «مأذونين»، فلكل واحد أن يريق «الخمر» (من أمام من يراه يشرب)، ويكسر الملاهي «أدوات اللهو» وإذا فعل ذلك نال ثوابا ولم يكن لأحد منعه فإن هذه قربة إلي الله» أ.ه. وأحسب أن هذا الشرح للإمام «الغزالي» يقف تماما في صف السلفيين! وهو نفس الشرح الذي يشاع علي ألسنة خطباء المساجد، وتلك هي آفتنا الدائمة، أن تنظر في أقوال الفقهاء القدماء، وكأنها من التنزيل! وصدمني حقا أن أري حديثا منسوبا لرسول الله يتسبب في خلق هذه المشاجرات والخصومات، خاصة أن «القرآن الكريم» الذي نزل عليه يؤكد أن الإنسان خلق حرا، بل هو المخلوق الوحيد الحر، وأن الله منحه العقل، وبعث له الرسل وأنزل الكتب لتهديه إلي طريق الخير وطريق الشر، ثم تركه يفكر كيف يشاء، ويقول ما يشاء، ويفعل ما يشاء إلاّ أن يكون اعتداء علي حقوق الغير. فحدد القرآن بعض الجرائم المتصلة بالحياة العامة والتي لها آثارها السيئة علي حقوق الأفراد والجماعات وبلغت من الشر أقصي درجاته، ووضع لها عقوبات إلهية تطبق في الدنيا وهي: الزني، والسرقة، والقذف، والقتل.. أما ماعدا ذلك من الجرائم التي نهي عنها فهي بين أمرين: إما أنها متروكة لسلطة المجتمع تقرر لها العقوبات التعزيرية المناسبة إذ كانت تشكل اعتداء علي حقوق الآخرين، وإلا فيؤجل حسابها وعقابها إلي يوم القيامة. بالنظر إلي هذا «المنهج القرآني» القويم عزمت علي بحث قضية «التعامل مع المنكر في الإسلام»، ودلفت إليها من باب «القرآن الكريم» (كتاب الإسلام)، فأحصيت آياته التي ذكرت «المنكر» فوجدتها نحو خمس عشرة آية نذكر منها قوله تعالي: «ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون» (آل عمران 104)، وقوله سبحانه: «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» (التوبة 71)، وقوله عز وجل: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» (آل عمران 110). ونلاحظ من الآيات أن «المنكر» يذكر دائما مسبوقا بكلمة «النهي» أي أن الله يأمر بالنهي عن المنكر. ورجعت إلي معني كلمة «النهي» في مادة «نهي» في «المعجم الوسيط» الصادر من «مجمع اللغة العربية» فوجدتها تعني: «طلب الامتناع عن الشيء». وفي مادة «طلب» وجدت: «طلب إليه شيئا: سأله إياه»، أي أن القرآن يأمرنا بأن نطلب من فاعل المنكر الامتناع عنه وأن نسأله تركه، والطلب والسؤال لا يكونان - بداهة - إلاّ باللسان، أي أن «القرآن» يأمر بتغيير المنكر «باللسان» فقط، ومن ثم فتغيير المنكر «باليد» لم يذكر في القرآن»!. ثم واصلت البحث عن أي أحاديث أخري منسوبة للنبي ذكرت كيفية التعامل مع «المنكر» فوجدت حديثا ثانيا، وثالثا، ورابعا، هي كمايلي: الحديث الثاني جاء فيه: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلاّ كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف «جمع خلف» يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون «أي يفعلون المنكر»، فمن جاهدهم «بيده» فهو مؤمن، ومن جاهدهم «بقلبه» فهو مؤمن، ومن جاهدهم «بلسانه» فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (رواه مسلم). وهذا الحديث يجعل التغيير باليد وباللسان وبالقلب علي درجة واحدة من الإيمان، وليس هناك أقوي الإيمان أو اضعف الإيمان «كما في الحديث الأول»!. ثم الحديث الثالث يقول: «إنه يستعمل عليكم امراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع قالوا: يارسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة» (رواه مسلم). وهذا الحديث يقرر أن من يكره المنكر بقلبه فقد بعد عن الإثم، ومن ينكره بلسانه فقد سلم، وأن الذنب كله يقع علي من يرضي عن المنكر ويتبع من يفعلونه ويمنع الحديث التغيير باليد! والرابع يقول: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» (رواه الترمذي). وواضح أن هذا الحديث يستعمل نفس الألفاظ القرآنية فيأمر بالنهي عن المنكر، أي تغييره باللسان. والحصيلة النهائية لما سبق أننا أمام ما يلي من حيث مراتب تغيير «المنكر»: 1- القرآن الكريم يأمر بتغيير المنكر ب«اللسان». 2- الحديث الأول يأمر بتغيير المنكر باليد «أولا». 3- الحديث الثاني يطلب تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب، وليس هناك أولويات! 4- الحديث الثالث يطلب تغيير المنكر باللسان أو بالقلب، (ويمنع التغيير باليد)! 5- الحديث الرابع يوافق القرآن تماما. والأحاديث الثلاثة الأولي رواها الإمام «مسلم»، ولعلك تعجب عزيزي القارئ - أن الذي اشتهر هو الحديث الأول، وهو الذي يحاول السلفيون تطبيقه الآن، ربما لأنه جاء علي هوي أهل التشدد وكبت الحريات، أما الأحاديث الأخري فلم يسمع عنها أحد! والآن، وعلي ضوء المبدأ الأصولي بأن «رتبة» «السنة» التأخر عن «الكتاب» في الاعتبار، لأن الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة، والمقطوع به مقدم علي المظنون». وعلي ضوء قول السيدة «عائشة» -رضي الله عنها- أنه - عليه الصلاة والسلام - كان خلقه القرآن، بمعني أن قوله ومفعله وإقراره كان راجعا إلي «القرآن» لا يخرج عنه- نطرح هذه الأسئلة: 1- هل يمكن أن يصدر عن رسول الله- وهو الذي نطق بالقرآن - حديثا يخالف القرآن؟ 2- هل يمكن أن يقول رسول الله أحاديث يعارض بعضها بعضا؟ 3- إذا أردنا أن نتعامل مع المنكر، هل نتبع القرآن والحديث الذي يوافقه، أم نتبع حديث: «من رأي منكم منكرا فليغيره بيده»؟ أفيدونا يا أولي الألباب! واختم بكلمات رائد التنوير الإمام «محمد عبده» أوجهها إلي أولي الأمر، وإلي علماء الأمة، وإلي علماء السلفيين، وإلي شبابهم، وإلي عامة الناس: في مواجهة هذه الفرقعة عن فرقة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. «لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانا علي عقيدة أحد ولا سيطرة علي إيمانه، علي أن الرسول «عليه الصلاة والسلام» كان مبلغا ومذكرا لا مهيمنا ولا مسيطرا، قال الله تعالي: «فذكر إنما انت مذكر لست عليهم بمسيطر» ولم يجعل الإسلام لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء، بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فيما بينه وبين الله سوي الله وحده، وليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام حق علي آخر مهما انحتطت منزلته فيه إلا حق النصيحة والارشاد، قال تعالي في وصف المفلحين، «وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر»، فالمسلمون يتناصحون، ثم هم يقيمون أمة تدعو إلي الخير، وتلك الأمة ليس لها- عليهم - إلا الدعوة والتذكير والتحذير، ولا يجوز لها - ولا لأحد من الناس - أن يتتبع عورة أحد، ولا يسوغ لقوي ولا لضعيق أن يتجسس علي عقيدة أحد»أ ه. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه.