تعد "طعم الأيام" لأمنية طلعت، وثيقة تاريخية وأدبية مهمة، وذلك لتصويرها فترة تاريخية حرجة من تاريخ الصراع العربي مع الغرب، تدور أحداثها في القاهرة، ومع ذلك تنعطف بنا إلي محطات عربية كالعراق وغزة، فيتأكد للقاريء أن الهم العربي واحد، وأن ما يجري في فلسطين، ليست البلاد العربية عنه بمنأي، وكأنها تحقق بذلك قول شوقي: "قد قضي الله أن يؤلفنا الجرح وأن نلتقي علي أشجانه/ كلما أنّ بالعراق جريح لمس الشرق جنبه في عمانه"، فالغرب غريب، وإذا رمي عربي بنفسه في أحضانه، فهو مفقود..مفقود. اعتمد البناء الفني لهذه الرواية علي شيئين: الحلم والرمز، استطاعت الكاتبة أن توظفهما في بنية السرد بحرفية عالية، وبلغة رصينة قوية لم تنبُ منها لفظة، لغة وقعت في مستوي يكمن وراء مستويات اللغة العادية، وبخاصة عند استنادها علي أسطورة مصر الخالدة: "إيزيس" التي أضفت سحراً علي الوصف، فأقامت علاقات علي مستويات عدة بين الإنسان والإنسان، وبينه وبين نفسه، مستخدمة لغة تصويرية، لا تقريرية، فأرتنا الشخصيات ولم تصفها، وتحولت الصورة إلي رمز كامن تحت السطح وخلف الظاهر، بعيد عن التناول الأول للعقل والإدراك، فالكاتبة تؤمن بأن العمل الأدبي يشبه الحلم، فهو، رغم وضوحه، لا يفسر نفسه، ولا يعطيك حقائقه، بل يعرض صوره بالطريقة التي ينتج بها النبات زهوره، وهكذا تخلق النفس رموزها. فكل من الحلم والرمز مادة ثرية لصنع نسيج بناء الرواية، لأنها المادة التي تتجسد فيها الأنماط اللغوية في أبلغ صورها، فتظهر الصور الكلية لثنائيات المشاعر الإنسانية؛ كالحب والكراهية، الحياة والموت، الإنسان والحيوان، الله والشيطان، الخير والشر. وهكذا استطاعت الكاتبة أن تمزج بين التاريخ والأسطورة، فأخرجت مادة روائية جديدة تحمل تيارات الوعي واللاوعي في آن، وقد حاول أحد العلماء توضيح علاقة التاريخ بالأسطورة بقوله: إن الأسطورة هي التاريخ الذي لا نصدقه، وإن التاريخ هو الأسطورة التي نصدقها، ولم تبتعد الرواية عن واقعيتها رغم تغليفها بالرمز والأسطورة، فحققت بذلك معادلة صعبة لم تتحقق إلا في روايات ترقي للعالمية، فإذا حاولنا وضع هذه الرواية في موضعها الصحيح بين الروايات، سنضعها بجوار رواية "الحرب والسلام" لتلوستوي، التي كتبها في مطلع القرن التاسع عشر، واستمدت أهميتها التاريخية من تسجيلها للحرب الفرنسية الروسية عند اجتياح نابليون لموسكو، وخروجه منها مهزوماً، وبين الأحداث تدور أحداث أخري لشخصيات متعددة، رئيسية وثانوية وخيالية، يفضح تولستوي من خلالها صورة حياة الترف التي عاشتها طبقة النبلاء، وكذلك مع "عودة الروح" لتوفيق الحكيم، التي صور فيها الصحوة الوطنية بعد ثورة 19 والدور الرمزي الذي راحت تلعبه سنية التي ترمز لمصر، فهي إيزيس التي راحت تلملم أشلاء الوطن، وكذلك "زقاق المدق" لنجيب محفوظ وشخصية حميدة أو مصر، فهي أيضاً لإيزيس بعد أن أخذت شكلاً جديداً أثناء الحرب العالمية الثانية، وهي تشبه ثنائيتي إبراهيم عبد المجيد: لا أحد ينام في الإسكندرية وطيور العنبر، بما فيهما من شخصيات ثرية وعميقة أخذت عمق الرمز، وأحداثها التاريخية المهمة. وقعت الرواية في أربعمائة وتسع وسبعين صفحة، اتخذت فيها الكاتبة طريقة عميقة وحيوية لسرد الأحداث، وذلك حين جعلت كل شخصية من الشخصيات الرئيسية في الرواية، وهم سبع شخصيات، تحكي الأحداث حسب رؤيتها، دون تدخل من السارد الرئيسي، فيطوف القاريء بين سبع روايات مختلفة لحكاية واحدة، وتتجلي عبقرية السرد، في أنه مع كل شخصية، يكتشف القاريء شيئاً جديداًُ، فلا يشعر بالملل من تكرار السرد، بل لا يحس أن هناك تكراراً علي الإطلاق، لأن معلوماته تزداد ثراء مع كل رواية، فتتعمق رؤيته، ويستطيع أن يفكر ويستنتج ويربط بين الأحداث والشخصيات، وكأنه يقرأ نصاً جديداً مع كل شخصية، وهي طريقة عبقرية قدمها الكاتب الكبير محمد البساطي في روايته "جوع"، حين قدم مشهد الجوع المدقع لأسرة معدمة مكونة من أربعة أفراد، قامت ثلاث شخصيات رئيسية منها بسرد الأحداث، كل من وجهة نظره؛ الزوج والزوجة والابن الكبير، وكأن الكاتب التقط للمشهد الواحد عدة صور من زوايا متعددة، لتعميق رؤية المشهد، وتلك عبقرية في الحكي تحتاج لخبرة ودقة وحرفية عالية من الكاتب، لا تؤتي إلا للقلائل من الكتاب. تتعرض الرواية لمجموعة من الطلبة، جمع بينهم مكان واحد هو كلية الإعلام جامعة القاهرة، وجمع بينهم زمان واحد وهي الفترة من 1990 زمن التحاقهم بالجامعة، حتي عام 1994، وهو زمن تخرجهم، وتتبع ما حدث لهم حتي عام2003، وبالطبع لهذه التواريخ معان خاصة متعلقة بالأحداث السياسية التي مرت بها مصر والمنطقة العربية، وهي فترة ثرية جداً في أحداثها، تغيرت فيها المنطقة العربية أو الشرق أوسطية تغيراً كبيراً، أطلق عليها النظام الأمريكي السابق: الفوضي الخلاقة أو الشرق الأوسط الجديد، إلي آخر هذه التسميات، التي تدل علي التدخل الغربي السافر والمقصود في المنطقة، وذلك لصالح إسرائيل. وعلي اختلاف طبقاتهم الاجتماعية وتباينها بين هؤلاء الطلبة، واختلاف أماكن نشأتهم، فمنهم من كان من سكان القاهرة ومنهم من جاء من الريف، إلا أنه جمع بينهم شيء مشترك، وهو الرومانسية الشديدة التي استقبلوا بها الدنيا، وكأنهم ورود ندية لا تدري لماذا عوقبت وما ذنبها؟ يحملون في قلوبهم الشابة حلمهم في صنع مستقبل أجمل لوطنهم، فيطبقون أيديهم علي هذا الحلم حتي لا يتسرب من بين بنانهم، ومع ذلك، يسقط الحلم، وتقبض أياديهم العدم، وينتهي بهم المآل جميعاً إلي الموت، بمعنييه الحقيقي والمجازي، فهذا سعيد مختار يأتي صوته من العالم الآخر، يقص علينا روايته، بعد موته في مظاهرة في الجامعة يوم 25 فبراير 1994، فقد تظاهر الطلبة بسبب ما قام به إسرائيلي في الحرم الإبراهيمي بالقدس، من قتل وحشي للمصلين بمدفعه الآلي، أثناء أدائهم شعائر صلاة الفجر في رمضان، فطوقت قوات الأمن الجامعة، وألقت علي المتظاهرين قنابل مسيلة للدموع، فأصابت إحداها رأس سعيد الذي توفي في الحال، وسالت دماؤه علي صدر أحلام حبيبته، وهي البطلة الرئيسية في الرواية والتي تمثل مصر، أو إيزيس التي راحت تلملم أشلاء أصحابها وأحبابها قطعة بعد قطعة، ولكنها تسقط مع القطعة الأخيرة، فتلقي بحلمها الذي كانت مملوءة به: "ولكن الأيام فرغتني منه حلماً بعد آخر حتي صار مجرد لافتة معلقة علي جسدي..هنا ترقد أحلام حيث تراعي جثامين أحلام المقتولة عنوة"، وتموت موتاًُ مجازياً، حين تلقي بجسدها بين براثن الرجال كي ينهشوا فيه قطعة قطعة، وهذا مؤمن حريبة، الفقير المعدم الذي احتقره المجتمع بسبب فقره، فصمم علي الانتقام، فراح يحقق مآربه في الثراء والسلطة، بشتي الطرق المشروعة وغير المشروعة، وهو نمط لشخصية تكررت في روايات كثيرة، أشهرها محجوب عبد الدايم في القاهرة 30، وبعد تحقيق أهدافه، وجد نفسه لم يقو علي رؤية بشاعته، فألقي بنفسه من شرفة منزله الفخم الذي حصل عليه في أرقي أحياء القاهرة، في محاولة للتطهر، وهذه مني حاكم التي انهارت ودخلت في غيبوبة المهدءات بعد اصطدامها بمجتمع المثقفين القتلة، بعد أن سقطت أقنعتهم، وهو موت مجازي، وهذا أحمد فادي الذي ظل رافضاً أن يشارك في بيع وطنه، ولكنه ينهار في النهاية ويسقط، فيعود من منفاه الاختياري بعد أن قتل الإنسان بداخله، مخاطباً بلده التي أحبها: "وهائنذا أعود إليك..وقد قتلت أحمد فادي الذي تعرفينه بكلتا يدي ودفنته في أرض غريبة..أعود في ثوب قواد مقتدر لأساعد عتاة القوادين علي ذبحك". وهكذا تنتهي الرواية بأحلام موؤودة، ودماء تشربها أرض الوطن الظمئة، وتمد أحلام يدها إلي الله، طالبة منه: "فرصة واحدة ياالله..أم خلقتنا لتطعم بنا الموت وتتخم بأجسادنا معدة الفناء؟!"