نحن نكتب أنفسنا، نضع علي الورق كل أوجاعنا، وتصبح الورقة البيضاء هي واحة الراحة بعد غربتنا الصحراوية داخل أنفسنا أو علي الأرض، تصبح الورقة ذلك البساط السحري، تنقلك لكل مكان وفي أي زمان، ترتد وتجلس بسببها داخل بطن أمك وتشعر باتساع الكون الرحيب، أو تصعد بك للنجوم وتصادقها وتجلس ترتشف الشاي علي حافة القمر، ثم تتجول في الشوارع والمزارع والصحاري وتشعر حينئذ أن رحم أمك أكثر اتساعاً ورحابة ودفئاً وعطفاً، لكن من منا يستطيع أن يخلع كل ملابسه وأفكاره وأوجاعه وشقاوته ويفعل هذا!!، أن تصل لمرحلة الطهر والتكشف، أن تكون أنت.. أنت، ذاتك وروحك وأفكارك وخصوصيتك ومغامرتك، تكون صادقاً وصريحاً وجريئاً، لا تخاف من أي شيء، وتصبح أبيض كاللبن الحليب، إذا وصلت لهذه المرحلة في يوم من الأيام فأنت إذاً أمي : نعمات البحيري. والتجربة التي جعلت الورقة أرض نجاة وسفينة إنقاذ، كانت تجربة قاسية، لم أر نعمات البحيري، بل إنني ذهبت إليها مرغماً، كان ذلك عندما وجدت لها قصتين في مجلتين عربيتين، فرحت جداً وكأنها بشارة لقاء، عدت للمنزل واتصلت بها، جاءني صوت امرأة لم تستيقظ بعد ( وأنا أحب أن أهاجم فريستي عند أول شعاع للشمس ): مين معايا.. أفندم!، أرد أنا في بعض القلق الصبياني: صباح الخير، دايماً منورة، أنا محمد، يعود صوتها في استفسار: محمد مين ع الصبح، أنا محمد محمد مستجاب، تصمت لحظات، ثم بكاء يليه صرخة فرح: يابن الإيه.. أنت فين يا واد.. وأبوك كان مخبيك فين.. آه من مستجاب.. جبل مستجاب ونعمات ربما لا يعرف أحد، أن الجبل الرابض عند مدخل مدينة 6 أكتوبر، هو جبل مستجاب ونعمات، أو جبل نعمات فقط، وكم - لا يزال يكافح - هذا الجبل رغم صغر حجمه، كل هجوم جينرالات نادي 6 أكتوبر أو موظفي جهاز المدينة أو زحف المولات الفارهة، ولم يبق صامداً ألا جبل نعمات والذي كنا نذهب إليه بسيارتها البيضاء الصغيرة (فله)، تلك السيارة التي اشترتها بصعوبة، فقد استمرت (تحّوش) وتجمع النقود من فتات القصص والمقالات وتخزن كل هذه القروش البسيطة حتي استطاعت شراء (فله)، كنا نذهب للجبل دائماً في وقت الغروب، نقف بجواره أو نصعده، معنا علب كشري أو لب أو حاجة ساقعة، نجلس علي الرصيف أمامه، ظهرنا للطريق ووجهنا للجبل وفي نهاية الأفق الشمس التي تغرب، وكنت وقتها أندهش من تلك القصة العجيبة، (قصة حب) بين شاب لا يمتلك شيئاً في بداية حياته وكله طموح وعناد صعيدي وامرأة كالجبل يستهلكها المرض ويلتهم منها مايشاء في نعومة ووحشية، امرأة بثدي واحد في منتصف الخمسين وشاب في بداية الثلاثين، وشمس غاربة في نهاية الأرض، حتي الآن أراها هناك وألتقي بها واقرأ الفاتحة علي روحها، ومازالت اخشي أن أذهب إليه الآن وحيداً، وكأنه أصبح مُوحشاً ومرتفعاً وكأنه عائق لا استطيع اجتيازه أو صعوده، لكنني أعرف أنها هناك صامدة وتحيا، وأفكر أنه عندما يتم إزاحة هذا الجبل، سأعلم حينئذ أن نعمات ماتت. أماكن أساسية بعد ذلك كنا نترك أو نهبط من علي - جبل نعمات - ونتجه - بفله - إلي أي مكان، فقد كانت الأماكن الأساسية لنا ( اتحاد الكتّاب ومستشفي معهد ناصر أو المفاعل الذري كما كنت أراه أو مكتبات وسط البلد والأتيليه )، كانت نعمات ترتبك في البداية عندما تلتقي بها احدي الأديبات بسبب وجودي معها، فلا يكون أمامها وهي تعرفني بالأصدقاء: ده ابن مستجاب بس بالإفرنجي، مودرن يعني، بس كله روح مستجاب، اللي خلف مامتش، وبعد أن نترك من نقابل، تهمس في أذني: أنت عارف يا واد، محدش سايب حد في حاله، بس عينها كانت هاتطلع عليك، نضحك ونعود ونركب فله ونتجه إلي المول الشهير علي الطريق الصحراوي، نشتري أشياءنا، ونضحك لأننا استطعنا أن نسرقهم أو نأكل منهم بعض قطع الشوكولاتة، كانت أعيننا هاتطلع عليها، وخارج المول يقف بائع بطاطا نشتري منه ثم نذهب إلي شقتها، تغلق باب الشقة وتقول لي: لو قال الناس انه حب، موافقة، زوج، أيضا موافقة، أضحك وأقول لها: لماذا لا تقولي ابنك، تضحك وتخبطني في صدري، أنا لسه صغيرة وحلوة ولا أنت عايز واحدة باتنين صدر، كفاية عليك واحد. ثم تجلس وقد شعرت بالتعب وتحكي: الوسط الأدبي كان يطلق علي أنثي مستجاب أو بمعني أدق (نتاية مستجاب)، عشان كنت بخربش، اضحك، ثم تكمل: أبوك كان صادم، شرس قوي، بس كان علي حق، والحياة دي عايزة واحد زيه، وكان زعلان ويزعق أن الجميع يريد أن يخرج من عباءة نجيب محفوظ فقط، ثم تتنهد وتشرب رشفة من الماء، لان الألم بدأ ينتابها ويعاود نهش جسدها، أدخلها غرفتها، وأضعها في الفراش، وأضبط لها الوسائد، وأفتح لها التليفزيون الذي اشتريناه من عرض للتخفيضات من المول وقد صعدت به علي كتفي لشقتها، تمسك يدي وتقول لي: نفسي تحضني وابكي في حضنك، اربت علي كتفها وادعو لها أن تنام، تضحك وتقول لي: لو قابلتك من تلاتين سنة كنت تزوجتك، أحاول أن اهرب من نظراتها، ثم تنبهني إلي انه في الغد يجب أن نذهب إلي المستشفي، وأنه يجب أن ننتهي من روايتها ( يوميات امرأة مشعة)، وإنها تريد أن تكلم والدتها، أقول لها بعد أن نعود من المستشفي نعمل كل حاجة. جائزة إحسان ذات يوم أثناء ذهابنا للمول، وجدنا رجل شرطة يقف في الطريق يشير لأي سيارة كي تقله، أشرت لها أن نقف ونساعده، بعد أن ركب السيارة وجدته يحاول سرقه حقيبة نعمات، إلا أنني لحقت الموقف وقمت بطرده، كتبت هذا الموقف في قصة أسميتها (التتار) من أول قصصي وأهديتها إلي روح نعمات بعد رحيلها وفازت بجائزة إحسان عبد القدوس، ولم تنشر حتي الآن نظراً للموقف الأمني قبل الثورة بالإضافة لحذفها من مجموعتي القصصية الأولي. أثناء تلك الفترة كانت أمورنا مثل كل الأشياء حولنا: لقاء، فراق، صراخ، دماء، رائحة أدوية كريهة، لكن الرحلة ذاتها كانت جميلة، وكان هذا يجعل مواقفنا وتعاملنا يأخذ مواقف ومنحنيات غريبة جدا، كانت تتعامل معي كأنها ابنة الجيران التي أسير معها في الخفاء، وكأنها تخشي أن يعلم احد بما نفعله، ثم تتحول إلي حبيبة جالسة بجوار التليفون منتظرة اتصال حبيبها أو أم تبحث لابنها عن وظيفة أو عمل أو زوجة، أو فتاه رقيقة واقفة في شرفتها منتظرة أن يمر - فتاها - في ليلة باردة، وكنت خلال ذلك، أول من يشتري لها الجرائد والمجلات ولو وجدت لها قصة أو مقالاً لا اخشي أن أوقظها ليلاً أو صباحاً، لأنني اعرف أن هذا يسعدها جدا، ويشعرها أنها تحيا وتعيش وتكتب، كنا نجلس بالساعات في الشرفة، نشرب شاي ونثرثر، ثم نجلس أمام الكمبيوتر وهي تكتب روايتها "يوميات امرأة مشعة"، وذات مرة كانت تحاول أن تتذكر اسم فيلم أجنبي، قلت لها اسمه (وداعا شوشنك) عن رجل دخل السجن ظلماً ولكنه بعد عشرين عاماً استطاع الهرب لدرجة انه يسخر من قادة وجدران السجن بصورة "لريتا هاورث" في فيلم مليون سنة قبل الميلاد، تصرخ نعمات بالفرح لأنها تستطيع أن تتابع الكتابة وهي تقول: أبوك كان مخبيك فين .. أنت داهية.. شكلك مسبتش سيما إلا لما عطيت فيها، نضحك ويأتي تليفون وترد نعمات، تبرق عينيها، ثم تصرخ في وجهي: أبويا جاي، لازم تمشي دلوقتي، لو جه وأنت هنا هاتبقي مصيبة وفضيحة، أضحك وأترك الشقة بعد أن آتي لها ببعض المثلجات، وفي الليل تتصل بي وتقول: أوعي تكون زعلت، أنا بحبك، بس أبويا عمره ماهايفهم راجل مع واحدة ست غير لما يكون ثالثهم الشيطان، اضحك بشدة وأقول لها: ماأنت بتحكي لأمك كل حاجة وهي أكيد بتقوله، تكمل: معلهش هو فاكرني لسه عيلة. كلما تذكرت هذه المواقف، اضحك، وأتذكر مسودة بعض رواياتها التي طبعتها في بيتي، وإنني شجعتها للتقدم لجائزة التفوق كحل لمشكلة تهديد صاحب الشقة لها، وكان ذلك يغضبها، لأن الكاتب لا يجد ما يأويه في هذا الوطن، كانت قيمة الجائزة خمسين ألفاً عندما قدمنا لها أول مرة، وفي ثالث مرة كنا نقول الثالثة تابتة، وأخذتها نعمات وكانت قيمة الجائزة قد ارتفعت إلي مائة ألف، وقد دفعته كمقدم لشقتها قبل وفاتها بشهرين فقط، وعندما ذهبت لأبارك لها، دعت لي بأن أمتلك شقها مثلها، وقالت لي وكنا نجلس في الشرفة: لازم تتجوز.. ارحم نفسك شوية يا محمد. بنت موت آه.. هذا القلم الحرون لماذا يتحرك الآن ويتذكرك يا نعمات، يا حبيبتي، كنت اقلب الصور علي جهاز الكمبيوتر عندما وجدت صورتك، آخر صورة لها وقبل وفاتها بأيام قليلة، وكأنني كنت اخشي أن تصعد وأشاهدها، حتي نبأ وفاتها كنت أعلمه مسبقاً، وكنت لا أريد أن يقوله لي احد، إلا أنني لا استطيع نسيان هذا اليوم، كان صباح يوم جمعة، عندما اتصل بي الشاعر سعدني السلاموني يسألني عنها: قلت له لو اتصلت الآن، لن ترد نعمات، أهلها هم الذين سيردون، ولم تمض إلا دقائق، واتصل مرة أخري وقال: نعمات تعيش أنت. آه يا بنت الموت.. كنا نذهب ثلاث مرات في الأسبوع للعلاج والجري خلف مكاتب لإصدار أوراق ونفقات العلاج، لم أكن اعرف أن جسدك النحيل بسبب هذه اللعنة وإننا كنا ننهشك من الخارج، كما كان الملعون ينهشك من الداخل، كل هذا كنا نفعله، ترافقنا أغنية نعناع الجنينة لمحمد منير في مشاويرنا، وأغنية نجاة الصغيرة في سكة العاشقين ونحن نبحث عن جنيهات قليلة في أي جريدة أو مجلة كي نلتقط بها ساندويتش فول أو لتر بنزين لفله، ومحمد عبد المطلب في يا حاسدين الناس، ونحن نلف علي دواء نادر نبحث عنه وكأنه شمة هيروين، مقابلاتنا، حضورنا الندوات، الكوافير واستعدادها للتصوير في التليفزيون، ملابسها وهي تداري الجزء المنهوش من جسدها. ذات يوم قالت لي عايزة أقولك كلام نسوان، قلت لها خير، قالت نعمات: قراشانات الوسط الأدبي بيحسدوني عليك، واحدة قالت: خدت الأب والابن، وواحدة قالت: لو كانت خلفت كان ابنها قدك دلوقتي، أضحك وأقول لها: المفروض أن يحسدوني أنا، فقد أعطاني الله أمَّين، أم حقيقية وأم اسمها نعمات البحيري.. رحمة الله يا نعمات.